تقرير: موقعة القادسية.. دروس وعبر في مواجهة المحن
أحمد الشجاع
يتميز التاريخ الإسلامي بأن بتكامل الدروس والعبر وترابطها التام وشمولها كل جوانب حياة المسلمين في كل زمان ومكان.
فدروس موقعة القادسية لا تتوقف في الجانب العسكري بل تمتد إلى الجوانب السياسية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية.
وقد حوت هذه الموقعة صوراً شتى من منهج الجيل الإسلامي الأول في خدمة الإسلام، ودروساً عظيمة في التعامل مع الأزمات والمحن، وفي التعامل مع الأمم الأخرى.
ولذلك سيركز هذا التقرير على جانب التعامل مع الأزمات، ومنهج الصحابة في التعامل مع أعدائهم.. حيث سنجد أن الغاية ليست الهيمنة بل الهداية والإصلاح.
نحو القادسية
بعد أن تحرك سعد بن أبي وقَّاص بالجيش الإسلامي (32 ألف جندي) الذاهب لحرب الفرس من منطقة (زَرُود) ووصل إلى (شَرَاف)، وصلت رسالة من عمر بن الخطاب بتعبئة الجيش (أي بتنظيمه وترتيبه وكأنه على قتال)، وأمره بالتحرُّك من (شراف) إلى القادسية وهو على تعبئةٍ كاملةٍ حتى إذا باغتته جيوش فارسٍ في أية لحظة يكون على استعداد كاملٍ لها.
بدأ سعد بن أبي وقاص يرتِّب جيشه وهو في شراف، فجعل خليفته خالد بن عرفطة (وهو أحد فرسان العرب المشهورين، ولم يتوجه لحرب فارس قبل ذلك)، وجعل على المقدمة زهرة بن الحُوِيَّة، وكانت لكل الجيوش الإسلامية مقدمات، ولكن سعدًا جعل لجيشه مقدمة وطلائع. وكانت فرقة الطلائع من أشد فرسان المسلمين مهارة وجسارة وقوة، واختار لهذه الطلائع قوة من كل القبائل، وكانت تحت إمرة سواد بن مالك، وكانت مهمة الطلائع أن تسير في مقدمة الجيش أبعد من مرمى بصر الجيش، لتكون عيوناً على الجيش الفارسي؛ حتى لا يُباغِت الجيشَ الإسلاميَّ، وتلي المقدمةُ الطلائعَ.
وجعل على المقدمة عبد الله بن المعتم، وعلى الميسرة شُرَحْبِيل بن السِّمْط، وعلى المشاة حَمَّال بن مالك، وعلى الخيول سلمان بن ربيعة الباهلي، وكان من المعروف أن أشد خيول العرب في قبيلة باهلة، وجعل عبد الله الخثعمي على الركبان وهي الإبل، وجعل على مؤخرة الجيش عاصم بن عمرو التميمي، صاحب السبق العظيم في حروب فارس قبل هذه الموقعة.
وجعل كل مجموعة من جيشه تحت إمرة أمير، ثم قسَّم المجموعات إلى رايات، وتحت أمراء الرايات رؤساء القبائل، وتحت كل قبيلة العرفاء، أي على كل عشرة من الجند عريف، فالسُّلَّمُ هرميٌّ، فعلى كل عشرة عريف، وعلى كل مائةٍ رئيس قبيلة، وعلى كل ألف حامي الراية، وعلى كل المجموعة أمير الفرقة سواءً كانت مقدمة أو مؤخرة أو ميمنة أو ميسرة؛ وذلك حتى تصل الأمور بسهولة ويُسْر إلى كل الأفراد.
وأثناء تحرُّك سعد من شِرَاف إلى "عذيب الهجانات" أتته الوصية التي كان قد أوصى بها المثنى بن حارثة قبل وفاته مع المُعَنَّى بن حارثة، وفي الرسالة: "لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، ولا تعبر نهراً، وَضَعِ الصحراء في خلفك، حتى إذا كان لك النصر انسحت في أرضهم، وإن كانت الأخرى كانت لك الصحراء مجالاً للرجوع".
وتنطلق هذه الوصية من الاستفادة من خطأ معركة الجسر، وهو عبور المسلمين النهر، فكانت المياه من خلفهم والفرس من أمامهم، واستُشْهِد في "الجسر" وحدها أربعة آلاف من المسلمين، وكان الفرس لا يجرءون على القتال في الصحراء؛ نظراً لتعدد الدروب والمسالك وكثرة المجاهل بها، وإذا ضلَّ أحد الجيوش فيها فربما يهلك من الجوع والعطش.
ومع وصول رسالة المثنى مع المُعنَّى، وصلت رسالة من عمر بن الخطاب أيضاً فيها: ألاّ يقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء، وألا يجعل المياه في خلفه، وأن يجعل الصحراء خلف جيشه.
وكان هذا التوافق في الرأي يدل على بعد النظر وعمق التفكير، فقد استفاد المثنى بن حارثة كثيراً من تجاربه السابقة، وعمر بن الخطاب وهو في المدينة يرى الرأي الصائب، وهو على بُعد مئات الأميال من القادسية؛ لعمق فكره وحسن تخطيطه وإدارته.
وأرسل سعد طلائعه إلى "عُذَيب الهجانات" قبل أن يصلها هو بالجيش، وكان بها حصن عظيم وهو أول حصون في جنوب فارس، وقد وصلت الطلائع قرب الليل، ونظروا فوجدوا للحصن نوافذ كثيرة، وكل مدة يظهر أحد الرجال من إحدى نوافذ الحصن ويختفي مرة أخرى، ثم يظهر آخر في نافذة أخرى ويختفي، وهكذا.
فوقفوا برهة، وشعروا بوجود جيش للفرس في هذا الحصن، ثم أمرهم حمّال بن مالك بالهجوم على الحصن، ففوجئوا بعدم وجود أحد فيه، ووجدوا رجلاً واحداً يجري بعيداً عنهم بفرسه في اتجاه المدائن، فعلموا أنه أحد عيون الفرس، وأنه منطلق لإخبارهم بأمر المسلمين، وانطلقت خلفه الطلائع فأعجزهم ولم يستطيعوا اللحاق به، وقدمت بعد ذلك المقدمة وعليها زهرة بن الحُوِيَّة، فلما علم زهرة بهذا الأمر - أَمْرَ الرجل - قال: والله لو وصل هذا العين إلى فارس، علمت فارس بقدومنا. فأسرع بنفسه وسابق خيول المسلمين وسبقهم، وأدرك الرجل في خندق سابور على حدود القادسية واقتتل معه وقتله في خندق سابور، وبهذا لم تصل - حتى هذه اللحظة - أخبار المسلمين إلى فارس بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا المثال النادر من المسلمين زهرة بن الحُوِيَّة، والذي أحسنَ سعد بن أبي وقاص باختياره قائداً على المقدمة.
وقبل أن يصل سعد إلى "عُذيب الهجانات" تصله رسالة من عمر بن الخطاب أن يعسكر في القادسية، وقال له: "صِفْ لي المكان كأني أراه رأي العين، ولا تدخل على أرض العراق إلا أن يدخلوا هم عليك".
وتقدم سعد ووصل إلى "عُذَيْب الهِجانات" ويعسكر فيها مدة، إلى أن تكتشف الطلائعُ والمقدمةُ منطقةَ القادسية وما حولها لتأمين دخول الجيش هذه المنطقة.
تختلف خطة الجيش الإسلامي في معركة القادسية عن غيرها من الخطط في المعارك الأخرى، ومن الواضح في معارك الجيش الإسلامي الكثيرة، ومواقعه المتعددة أنه يعتمد خطة الهجوم على الجيوش الفارسية في مواقعها، لكن هذه المرة يأمر عمر بن الخطاب الجيش أن يبقى في القادسية ولا يتركها؛ لخوفه من الإعداد الضخم الذي يُعِدُّه الفرس لهذه المعركة، ويحرص على عدم توغل المسلمين في الأراضي الفارسية؛ حفاظًا عليهم من الهلكة.
الغارات التموينية والوصية العمرية
كان وصول سعد "عذيب الهجانات" في منتصف صفر 15هـ، وعسكر فيها ما يقرب من شهر، وإذا نظرنا إلى العدد الكبير للجيش الإسلامي (32 ألفاً من الجنود)، نجد أنهم كانوا بحاجة دائمة إلى التموينات، وإذا أرادوا أن يأكلوا لحوماً مثلاً كانت الناقة تكفي مائة جندي، ففي اليوم يحتاج إلى 320 من الجمال، فالجيش إذن يحتاج إلى تمويل ضخم جدّاً، وعمر بن الخطاب يموِّن الجيش من بيت مال المسلمين، لكن مهما كان حجم ما يأتي من المدينة فلا شك أنه سيكون أقل من حاجة الجيش، وهناك نقص كبير في اللحوم خاصةً، فكلما طالت مدة انتظار الفرس كلما زاد العبء على المسلمين، فبدأ المسلمون بعمل ما يُسمَّى بالغارات التموينية تحفيزاً لإسراع الفرس في القدوم للحرب، وفي الوقت نفسه يتمُّ تموين الجيش من خلال هذه الغارات.
أمر سعد الطلائع والمقدمة بعمل هذه الغارات، وأرسل زهرة بن الحُوِيَّة - وهو في "عذيب الهجانات" - فرقة من طلائعه إلى مكان يُسمَّى صِنَّينَ (وهي على بعد 10 إلى 15 كم من الحيرة)، وعلى رأس الفرقة التي لا تتعدى الثلاثين فارساً بكير بن عبد الله، وتصل الفرقة إلى "صنين" فيسمعون أصوات عُرسٍ لأحد أمراء فارس، ولا شك أن في العرس هدايا ثمينة يهديها الأمراء بعضهم لبعض في هذه المناسبات إلى جانب الماشية والأغنام والإبل وغير ذلك، وينتظر بشير بن عبد الله في وسط الغابات التي كانت منتشرة في تلك المنطقة، وعند مرور العرس ووصول الحامية التي ترافق العرس هجمت الفرقة عليهم؛ ففروا في كل وجهة وتركوا العُرسَ بما فيه، وسبى المسلمون العروسَ والتوابع، وأخذوا الغنائم وعادوا بها، وقبل أن يَصِلُوا كبَّروا، فقال سعد لجنوده: أقسم أن هذه تكبيرة قومٍ عُرفت فيهم العز.
فكانت هذه أول الغارات التموينية للمسلمين، وكان فيها إهانة كبيرة لأحد أمراء فارس في زواجه، وبدأ أهل تلك المنطقة يراسلون يزدجرد في المدائن ويخبروه أن جيوش المسلمين على مقربة.
ثم أرسل زهرةُ بن الحُوِيَّة عاصمَ بن عمرو التميمي - وكان قائداً للمؤخرة - نظراً لشجاعته - إلى منطقة "مَيْسان" شرق الفرات، ووجدوا مجموعة كبيرة من الفلاحين، ولكن دون أن يكون معهم أغنام، فتعجبوا من هذا الأمر وهو عدم وجود إبل وماشية في هذه المنطقة الزراعية، فقام أحد الفلاحين وقال: والله ما في هذا المكان من إبل ولا ماشية قَطُّ. فخار ثور ساعتها يكذب الراعي، وذهب المسلمون إلى مصدر الصوت في وسط الغابات الكثيفة، فوجدوا أعداداً كبيرة من المواشي، وساقوها للجيش، وسُمِّيَ هذا اليوم بيوم "الأباقر" من كثرة ما أخذوا فيه من البقر، وكان في هذا تموين للجيش فترة كبيرة.
وأرسل الأمراء على الفور إلى يزدجرد، وبدأ الفرس يتأثرون ويتحمسون لوقف المسلمين عن شن هذه الغارات التي تقلقهم كثيراً.
في هذا التوقيت أرسل عمر بن الخطاب بعد أن علم بهذه الأحداث - الغارات التموينية - وبعد أن خشي من اندفاع المسلمين لقتال الفرس في أراضيهم، فقال: "الصبرَ الصبرَ، فإن المعونة تأتي من الله على قدر النية، والأجر على قدر الجهد، والحذرَ الحذرَ على ما أنت عليه، وما أنت بسبيله، واسألوا الله العافيةَ، وأكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وخَفِ اللهَ وارْجُهُ، ولا تغترَّ بشيء. واعلم أن الله قد وعدكم، وتوكَّل لهذا الأمر، فاحذر أن تصرفه عنك فيستبدل بكم غيركم، وصفْ لي مساكنكم كأني أراها، واجعلني من أمركم على الجلية".
وأرسل سعد بن أبي وقاص رسالة إلى عمر بن الخطاب يصف له القادسية، يقول:
"القادسية مكان بين نهر العتيق وخندق سابور". القادسية هي مكان يقع في الجنوب الغربي للحيرة على أبواب الصحراء، ونهر العتيق هو أحد روافد نهر الفرات يخرج منه متجهاً إلى الغرب، وخندق سابور يقع جنوبي منطقة القادسية، وهو خندق قديم للفرس يحاصر معظم غرب العراق، وفيه بعض الأماكن التي يمكن العبور منها، لكن على كلٍّ منها حصنٌ عظيم لمنع عبور أي مجموعة، وأمام القنطرة الرئيسية للخندق يقع حصن يُسمى (قديس).
ثم يقول سعد: "وعن يمين منطقة القادسية فيض من فيوضهم (أي بحيرة تصل من نهر العتيق وحتى خندق سابور)، وفي شمال القادسية بحر أخضر"، أي مستنقع به ماء وشجر كثير.
وعندما وصلت الرسالة إلى عمر قال له: "الزم مكانك".
ثم يقول له: "إذا منحك الله أكتافهم، فلا تتركهم حتى تغزو المدائن؛ فإن في ذلك خرابها، والوفاءَ الوفاءَ، فإن الخطأ في الغدر هلكة (أي يوصيه بالوفاء لأهل القرى التي ما زالت على صلحها مع المسلمين)، وفيه (أي الغدر) وَهَنُكم وقوة عدوكم، واحذروا أن تكونوا شينًا على المسلمين".
بعد أن سيطرت الطلائع والمقدمة على حصن قديس، كان الجيش الإسلامي ما زال في مكانه لم يعبر خندق سابور بعد، وإن كان في نيته العبور.
وتعلم المخابرات الإسلامية أن رستم على رأس الجيش، فيرسل سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب أن الفرس يُعِدُّون لنا جيشاً لم نسمع عنه من قبل، على رأسه رستم ومن شابهه.
وقد كان على رأس مقدمة جيش فارس جالينوس وهو أحد القادة الكبار، وكان قوام المقدمة 40 ألفًا، أي أن مقدمة الفرس وحدها تزيد على كل الجيش المسلم بثمانية آلاف، ومن بين القواد أيضاً بهمن جاذويه الذي انتصر على المسلمين في الموقعة الوحيدة التي انتصر فيها الفُرْسُ (الجسر).
وردَّ عليه عمر بن الخطاب قائلاً له: "لا يَفْرِيَنَّك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتَوَكَّلْ عليه". ثم يقول له: "وابعث إليهم رجالاً من أهل الرأي يدعونهم إلى الإسلام؛ فإن في ذلك وهنًا لهم".
وفدٌ عزيزٌ بدينه
نرى في هذا الموقف حرص عمر بن الخطاب على الدعوة إلى الإسلام حتى في هذه الظروف، وإضافة إلى تبليغهم دعوة الإسلام تُرهَب نفوسُهم من جرأة المسلمين عليهم.
وبدأ سعد في انتقاء الوفد الذي يقابل يزدجرد الثالث كسرى فارس، ومرَّ على الجيش كله، وانتقى 14 رجلاً؛ سبعة من أهل الرأي وسبعة من أهل المهابة.
يقول الرواة: إن الأربعة عشر رجلاً كانوا جميعاً أصحاب هيئة وجسامة، وكانوا جميعاً يزيدون في طولهم على المترين، وعلى رأسهم النعمان بن مُقَرِّن الصحابي الجليل الذي أسلم في العام الخامس الهجري، وأول مشاهده غزوة الأحزاب، وأسلم هو وإخوته جميعاً -عشرة إخوة- وشاركوا في فتح فارس، وكان عبد الله بن مسعود يقول: إن للنفاق بيوتاً، وإن للإيمان بيوتاً، وإن بيت بني مُقَرِّن لمن بيوت الإيمان، وفيهم نزل قول الله تعالى: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلاَ إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 99].
فكان النعمان على رأس هذا الوفد، وكان رجلاً ذا مقالة، ومعه بُسر بن أبي رُهم.. وفي الوفد حنظلة بن الربيع، وكان من خطباء الجاهلية والإسلام، وسُمِّيَ حنظلة الكاتب، وفرات بن حيان، وكان أكثر العرب خبرة بالطرق، وكان قد أسلم في العام الثاني للهجرة. ومع الوفد أيضاً المغيرة بن زرارة أحد صحابة النبي، ومن أصحاب المقالة أيضاً في الجاهلية والإسلام، وعدي بن سهيل وهذا الاسم غير معروف، ويبدو أنه سهيل بن عدي، ولعله نُقِلَ خطأً، حسب ما ذكره الدكتور وفي الوفد أيضاً حَمَلة بن جُويَّة.
وكان على رأس أهل المهابة والقوة في الجسد عاصم بن عمرو التميمي أخو القعقاع بن عمرو التميمي، والمُعَنَّى بن حارثة أخو المثنَّى رضي الله عنهما، وعطارد بن حاجب، وهذا الرجل هو الوحيد الذي دخل قبل ذلك إيوان كسرى، وعمرو بن معد يكرب، وكان من أشهر فرسان العرب، وكان قد فقد إحدى عينيه في سبيل الله، وكان عمر بن الخطاب يسأل: أي سيوف العرب أمضى؟، قالوا: صمصامة، وهي صفة من صفات سيف عمرو بن معديكرب، فأرسل له: أن أرسل لي سيفك. فأرسله له، فأمسك به عمر بن الخطاب وضرب به فوجده على غير ما كان يتوقع من القوة والمتانة، فأرسل إليه: والله كنا نظن سيفك على أحسن من هذا. فقال له: والله يا أمير المؤمنين لقد أرسلت إليك بالسيف، ولم أرسل إليك بالساعد الذي يضرب بالسيف.
وفي الوفد المغيرة بن شعبة الحارس الشخصي للرسول، والأشعث بن قيس، والحارث بن حسان أشهر فارس في قبيلة كندة. واختير لهم أفضل أربعة عشر من الخيول، ولبسوا أفضل اللباس، وخرجوا جميعاً لمقابلة يزدجرد ودعوته إلى الإسلام.
وعلم الفرس بقدومهم، فخرج الشعب الفارسي ليشاهد هؤلاء العرب الذي كانوا يعتقدون أنهم أعراب أجلاف ليس لهم في الحرب شيء.
تقول إحدى النساء اللائي أسلمن بعد ذلك: فوقفنا ننظر إليهم، والله ما رأينا أربعة عشر مثلهم قَطُّ يعادَلون بألف، وإن خيولهم لتنفث غضباً وتضرب في الأرض، ووقعت في قلوبنا المهابة وتشاءمنا.
وأرسل يزدجرد إلى أهل الرأي يستشيرهم في مقابلة الرسل المسلمين أم لا، فأشاروا عليه أن يقابلهم، فأمر يزدجرد بدخول الوفد عليه والحديث معه.
عندما شاهد أهل فارس هذا المنظر تشاءموا من القوة الإسلامية، وبدءوا ينتظرون ما سيفعله هؤلاء المسلمون الأربعة عشر، وهؤلاء المسلمون هم الذين أذاقوهم الويل، وفي خلال شهور معدودة استطاعوا أن يجتاحوا أرض فارس كلها.
وعلم يزدجرد أن الوفد واقف على باب إيوان كسرى، وإيوان كسرى هذا عبارة عن مساحة ضخمة جدّاً من الأرض حولها سور عالٍ، وهذا السور لا يستطيع أحد خارجه أن يرى ما بداخل القصر؛ فالسور عالٍ وبداخله قصر، وحول القصر حديقة هائلة، فدخلوا بخيولهم حتى وصلوا إلى باب القصر، فنزلوا عن خيولهم، وتَرَجَّلوا حتى وصلوا إلى باب الغرفة الكبيرة الموجود فيها كرسي العرش ليزدجرد كسرى فارس، ودخل الأربعة عشر فارساً من المسلمين على كسرى فارس، وكان عطارد بن حاجب قد دخل هذا الإيوان من قبل على كسرى فارس، فأخذ يشرح لهم ما سيشاهدونه داخل الإيوان حتى لا يفاجأوا بالمنظر الذي سيرونه بالداخل، وبالفعل لم يظهر عليهم أي مفاجأة على عكس ما توقع أهل فارس.
وهذه الحجرة عبارة عن حجرة فسيحة جدّاً، على أرضيتها سجادة هي أكبر سجادة في التاريخ، فمساحتها ضخمة جدّاً تُقدَّرُ بأكثر من ستين متراً عرضاً، وأكثر من ثمانين متراً طولاً، والسجادة نفسها بالإضافة إلى أنها مصنوعة من نوعيات فخمة جدّاً من النسيج إلا أنها مرصعة بالجواهر، وهذه السجادة هي التي غنمها المسلمون بعد موقعة المدائن، وأرسلوها لسيدنا عمر بن الخطاب في المدينة، فلم يستطع أن يتصرف فيها، فما الذي يفعله بسجادة مرصعة بالجواهر؟، فضلاً عن أن المسلمين لم يكونوا - وقتئذٍ - من أهل الاحتفاظ بهذه الأشياء، ولم يكن للدنيا عندهم وزن أو قيمة.
ولقد خشي عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أن يأتي أحد أمراء المسلمين بعد قرونٍ أو أعوامٍ، فيطمع في مثل هذه السجادة فيأخذها لنفسه، فأشار عليه علي بن أبي طالب أن يقطعها إلى أجزاء؛ فيقول علي بن أبي طالب: "فكان لي نصيب منها بِعْتُه بعشرين ألف درهم".
حوار مع كسرى
دخل الوفد المسلم ورأى هذا المنظر، وحول يزدجرد الحاشية في نصف دائرة، وأقرب شخص له على بعد ثلاثة أمتار، وحوله الوسائد الموشاة بالذهب، وكل الحاشية واقفة في هذا المجلس في خضوع تام؛ وذلك لإيقاع الرهبة في قلوب المسلمين فيُجبُنوا، ولكن المسلمين دخلوا - ولم يكن هذا الأمر في خاطرهم - حتى وصلوا إلى مسافة من يزدجرد، فطلب من ترجمان له أن يسألهم عن هذا اللباس الذي يلبسونه فسألهم؟، فقال أحد المسلمين: هذا نسميه رداءً. وكانت هذه الكلمة في نطقها تشبه كلمة هلاك بالفارسية؛ فلذلك عندما نطقوا بها غضب يزدجرد على الفور وبدأ يزمجر، ففهم المغيرة بن شعبة، وكان يعرف الفارسية، فقال لهم: إنه يقول لهم: يا للشؤم، أول كلمة قالوها: هلاك. فقال: هلاكٌ للفُرس.
ثم قال: وما الذي تحملونه في أيديكم؟، فقالوا: سوط. وكان كل مسلم في يده سوط صغير، فغضب أكثر، فقال لهم المغيرة: إن كلمة سوط في الفارسية تعني حريقًا. فقال يزدجرد: حريق يحرق فارس، أحرقهم الله، فهذا أول استهلال في المقابلة، ولم يكن من ترتيب المسلمين، ولكن أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب.
فهذا الاستهلال استهلال تافه جدّاً من رئيس دولة عظيمة مثل دولة الفرس؛ يجلس فيعلق على كلمة سوط وكلمة رداء، ويتشاءم منهما ويغضب، فهذا تصرف صبياني المفروض ألا يتأتى من كسرى فارس، ولكن كانت هذه طبيعة الأمة الفارسية، فقد كان التشاؤم فيها له باع طويل. المهم كانت هذه البداية في صف المسلمين، وكسب المسلمون جولة بسهولة بالغة، ولمَّا يدخلوا بَعْدُ في حرب مع الفرس.
ثم بدأ يزدجرد الحديث، وقال لهم: ما دعاكم إلى الولوغ إلى أرضنا، والولوع بها؟ أَمِنْ أجل عددٍ لَحِقَ بكم اجترأتم علينا؟ أي عندما شعرتم بالكثرة تجرأتم علينا وبدأتم في الدخول في أرضنا. فتشاور المسلمون فيمن يتحدث باسمهم، فاتفقوا على النعمان بن مقرن.
فقام النعمان بن مقرن لكي يرد على يزدجرد، والنعمان بن مقرن هو أمير الوفد، فبدأ يلخص له قصة الإسلام وقصة المسلمين في حوار قصير، ويخبره بالهدف الأسمى الذي قَدِموا من أجله؛ فقال له: "إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير، ويأمرنا به، ويدلنا على الشر وينهانا عنه، فلم يدعُ إلى ذلك قبيلة إلا انقسمت هذه القبيلة إلى فرقتين: فرقة تباعده، وفرقة تقاربه، وظلت هذه الحال إلى فترة حتى دخل معه بعض العرب، ثم أمره الله أن ينبذ إلى من خالفه من العرب، فدخلوا معه في دينه على فرقتين: طائع أتاه فازداد (أي: شخص دخل في الإسلام عن رغبة فازداد من الخير)، ومُكْرَهٍ عليه (أي: وآخر دخله لأن القوة والغلبة أصبحت للإسلام)، فدخل في الإسلام فاغتبط (أي بعدما دخل مكرهًا فرح بما دخل فيه من الإسلام)، فعرفنا فضل ما جاء به من الإسلام على ما كنا عليه. ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم، فندعوهم إلى الإسلام، ونحن ندعوكم إلى الإسلام وهو دينٌ حسَّن الحَسَنَ كُلَّه، وقَبَّح القبيحَ كلَّه. فنحن ندعوكم إلى هذا الدين، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شرٌّ منه (أي: إذا رفضتم الإسلام فليس أمامكم سوى اختيارين: اختيار شر هو شر لكم، أي سترونه ولا يعجبكم وهو الجزية ونمنعكم)، وأما الآخر الذي هو شرٌّ منه فهو المناجزة، فنحن ندعوكم إلى ثلاث: إما أن تُسلِمُوا، وإما أن تدفعوا الجزية، وإما أن نقاتلكم حتى يخلِّي الله بيننا وبينكم".
جرح هذا الكلام كبرياء يزدجرد وهو أمام حاشيته، فلم يكن يتخيل أن رجلاً من العرب المسلمين يخاطبه بهذه اللهجة؛ فتلكم يزدجر فقال: "إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى ولا أقل عدداً ولا أسوأ ذات بين منكم. قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي ليكفوناكم لا تغزوكم فارس ولا تطعمون أن تقوموا لهم، فإن كان عددكم كثر فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعا كم فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً يرفق بكم". وهذا يدل على أن كسرى لم يفهم الرسالة التي كانت موجهة إليه من المسلمين.
فأسكت القوم فقام المغيرة بن زرارة بن النباش الأسيدي، فقال: "أيها الملك إن هؤلاء رؤوس العرب ووجوههم، وهم أشراف يستحيون من الأشراف، وإنما يكرم الأشراف الأشراف ويعظم حقوق الأشراف الأشراف ويفخم الأشراف الأشراف، وليس كل ما أرسلوا به جمعوه لك ولا كل ما تكلمت به أجابوك عليه، وقد أحسنوا ولا يحسن بمثلهم إلا ذلك فجاوبني لأكون الذي أبلغك ويشهدون على ذلك أنك قد وصفتنا صفة لم تكن بها عالماً؛ فأما ما ذكرت من سوء الحال فما كان أسوأ حالاً منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبه الجوع كنا نأكل الخنافس والجعلان والعقارب والحيات، فنرى ذلك طعامنا، وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم، ديننا أن يقتل بعضنا بعضاً، ويغير بعضنا على بعض، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية كراهية أن تأكل من طعامنا، فكانت حالنا قبل اليوم على ما ذكرت لك. فبعث الله إلينا رجلاً معروفاً نعرف نسبه ونعرف وجهه ومولده، فأرضه خير أرضنا وحسبه خير أحسابنا وبيته أعظم بيوتنا وقبيلته خير قبائلنا، وهو بنفسه كان خيرنا في الحال التي كان فيها أصدقنا وأحلمنا، فدعانا إلى أمر فلم يجبه إلا واحد، قال وقلنا، وصدق وكذبنا، وزاد ونقصنا؛ فكان معه صِدِّيقٌ ورِدْءٌ. ثم كان الخليفة من بعده وهو سيدنا أبو بكر الصديق، فظل على هذه الحال يدعونا حتى وقع الإسلام في قلوبنا، فآمنا به وصدقناه، وعرفنا أن ما جاء به هو الحق من عند الحق، ثم قال لنا: إن الله يقول لكم: إنني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، كنتُ إذ لم يكن شيءٌ، وكل شيء هالك إلا وجهي، وأنا خلقتُ كُلَّ شيء وإليَّ يصير كل شيء، وإن رحمتي أدركتكم؛ فبعثت إليكم هذا الرجل، لأدلكم على السبيل التي بها أنجيكم بعد الموت من عذابي، ولأحلكم داري دارَ السلام، فنشهد عليه أنه جاء بالحق".
وقال له المغيرة:"إن الرسول يقول: إن الله يقول لنا: إنه من تابعكم على هذا الدين فله ما لكم وعليه ما عليكم، ومن أَبَى فاعرضوا عليه الجزية، ثم امنعوه مما تمنعون منه أنفسكم، ومن أبى فقاتلوه، فأنا الحَكَمُ بينكم: فمن قُتِلَ منكم أدخلته جنتي، ومن بقي منكم أعقبته النصر على من ناوأه".
ثم قال له المغيرة بن زرارة بعد أن انتهى من هذه المقالة: "فاختر إن شئت الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت فالسيف، أو تُسْلِم فتنجي نفسك".
مُنتهى القوة والعزة في الكلام والمترجِم يترجم هذا الكلام ثم جاء عند كلمة (صاغر) فلم يعرف ترجمتها، فنقلها كما هي، فقال: (صاغر). فسأل يزدجرد: ما معنى صاغر؟، فقال له المغيرة بن زرارة: أن تعطي الجزية ونرفضها، فتعطيها فنرفضها، فترجونا أن نقبلها، فنقبلها منك.
وهذا منتهى الذل في إعطاء الجزية، وبالطبع هذا الكلام كله مقصود به في المقام الأول الدعوة للإسلام، أما المقصد الثاني وهو الهدف المقصود من هذه الزيارة فأن يَفُتَّ في عَضُدِ الفُرس، ويُلقى الرعب في قلوبهم، وهذا الكلام كله حرب معنوية شديدة على أهل فارس.
وغضب يزدجرد؛ فوقف وقال له: أتستقبلني بمثل هذا؟، فقال المغيرة بن زرارة: إنك الذي كلمتني، ولو كان كلمني غيرُك لاستقبلته به. فغضب كسرى ونادى على حاشيته لتقترب منه، لكي يأمرهم بأمر شديد.
ثم قال كسرى للمسلمين: من أشرفُكم؟، فتقدم عاصم بن عمرو التميمي، وقد ظن أنه سيُقتَل، وقال: أنا أشرفهم. فدعا يزدجرد بوِقْرٍ من تراب (أي وعاء) وقال: ضَعُوه على رأسه. فوضعوه على رأس عاصم بن عمرو التميمي، ثم كرر عليه: أأنت أشرفهم؟، فقال: نعم، أنا أشرفهم. ثم قال لهم يزدجرد: "لولا أن الرسل لا تُقتَل لقتلتكم، اذهبوا لا شيء لكم عندي".
وخرج الوفد بسرعة من إيوان كسرى إلى سعد بن أبي وقاص، وهم فرحون مستبشرون، وعلى رأس عاصم بن عمرو التميمي التراب، وبالرغم من ذلك فهو يضحك مستبشراً ويقول للوفد الذين بصحبته: أعطَوْنا أرض فارس (لأن هذا التراب رمز لأرض فارس) فمَلَّكنا الله أرضهم.
وعاد يبشر المسلمين أنهم أُعطوا أرض فارس، ثم جاء بعد ذلك رستم، ولم يكن حاضراً هذا اللقاء، فدخل على يزدجرد، وقال له: ماذا رأيت؟، فقال: والله رأيت قوماً ما رأيت مثلهم من قبل، ولم أكن أعلم أن العرب فيهم مثل ذلك، ولكن أشرفهم كان أحمقهم. فقال له: لِمَ؟ قال: سألته من أشرفهم؟ حتى أحمله وِقْراً من تراب، فقال: أنا. وكان يستطيع أن يتَّقِيني، وأنا لا أعلم. فقال رستم: بل هو أعقلهم. فقال له: لِمَ؟؛ قال: لأنك أعطيته أرض فارس، يَا للشُّؤم.
وعندما سمع يزدجرد هذه الكلمة ربطها بفكرة الشُّؤم، وأنه أعطاهم أرض فارس، وعلى الفور أرسل فرقة تلحق بالمسلمين؛ لكي يقبضوا على الأربعة عشر، ويأخذوا منهم وِقْرَ التراب فقط ويتركوهم، ولكن المسلمين كانوا قد وصلوا إلى معسكرهم، فأفلتوا منهم. فانظر كيف يُلقِي الله الرعب في قلوب أهل فارس، حتى وإن كان المسلمون أنفسهم لم يفعلوا شيئاً يقتضي مثل هذه التبعات التي تحدث في قلوب أهل فارس.
ساعة الانتظار
بعد ما حدث بقي المسلمون في القادسية ينتظرون جيش الفرس أن يأتي من المدائن، ونحن نعلم أن المسلمين لا يرغبون في ترك القادسية والدخول في أرض فارس؛ لأنهم يريدون أن يأتي جيش الفرس إلى أبواب الصحراء، وفي هذه الأثناء تخرج كتيبة أخرى من كتائب المسلمين لتزويد المسلمين بالغنائم والزاد، فيغيرون على منطقة بعيدة عن القادسية بحوالي أربعين إلى خمسين كيلو متراً، ويأخذون من الغنائم مجموعة كبيرة جدّاً من الماشية، وهذه الماشية محمَّل عليها أكياس كثيرة مغلقة، واكتشفوا أن هذه الأكياس مليئة بالأسماك الطازجة، وكان العرب في الجزيرة يسمون السمكة حوتاً، فسموا هذا اليوم بيوم الحيتان.
وبالطبع كان هذا رزقاً غريباً لأهل القادسية، ثم أغاروا غارة أخرى على بعد مائتين وخمسين كيلو متراً من القادسية، وعلى الرغم من هذه المسافة الطويلة إلا أنهم استطاعوا أن يحصلوا على غنيمة كبيرة جدّاً من الإبل، وسمِّي هذا اليومُ بيوم الإبل، وقبل ذلك كان يوم الأباقر، فقد غنموا فيه غنيمة عظيمة من البقر.
وتقدمت مقدمة الجيش الفارسي من المدائن إلى النجف، ويعسكر رستم في ساباط فترة، ويرسل الرسائل إلى كسرى يطلب منه أن يظل الجالينوس على قيادة الجيوش، ويرجع هو إلى المدائن، ولكن كسرى يرفض فيُضْطَرَّ رستم أن يتقدم بالجيوش من ساباط إلى كوثِي ويعسكر فيها فترة، ثم يرسل رسالة إلى الجالينوس يقول فيه: أَصِبْ لي رجلاً من المسلمين. أي تَصَيَّد لي رجلاً من المسلمين أتحدث معه، وأعرف منه أخبار الجيش الإسلامي؛ فيرسل الجالينوس وهو في النجف فرقةً من مائة فارس من أجل أن يصطاد مسلماً واحداً على حدود قنطرة على نهر العتيق الذي يحيط بالقادسية، ولكن تقف على القنطرة فرقة من المسلمين تحمي هذه القنطرة من الجانب الغربي، وكان رجل من المسلمين قد عبر هذه القنطرة ووقف في الجانب الشرقي من القادسية من نهر العتيق، فاستطاع هؤلاء المائة أن يخطفوه، وأخذوه وهربوا به.
وقد رأى المسلمون هذا الحادث، فاتبعوا مائة الفارس وهذا الرجل المسلم، واستطاع المسلمون أن يلحقوا بمؤخرة هؤلاء الجنود من الفرس، وقتلوا منهم ما بين العشرين والثلاثين، ولكن استطاع بقية هؤلاء الفرسان أن يهربوا بهذا المسلم إلى أن وصلوا به إلى كوثِي ليقابل رستم.
مفهوم الجهاد عند المسلمين
أظهر الجندي المسلم البسيط - الذي أسره الفرس ولا يعرف أحد اسمه – كيف كان الصحابة يفهمون الجهاد، ففي الحوار الذي دار بينه وبين رستم نعلم مفهوم الجهاد عند المسلمين؛ فهم ليسوا مجرد أناس مجندين في الجيش، أو منساقين إلى الحرب، ولكنهم يقاتلون عن عقيدة. فقد قال له رستم: ما جاء بكم؟ وما تطلبون؟، فيقول له هذا الرجل المسلم: جئنا نبحث عن موعود الله.
فقال له: وما موعود الله؟، فقال له: موعود الله أرضكم وأبناؤكم ودماؤكم إن أبيتم أن تُسلِمُوا.
هذا الرجل يخاطب رستم أعظم قائد في قواد الفرس، وهو جندي أسير مخطوف وليس رسولاً؛ فالرسول يتكلم بحرية؛ لأنه مطمئن أنه لا يُقتَل؛ لأن الرسل لا تُقتل.
فقال له رستم: وإن قُتِلتم قبلَ ذلك؟، فقال له: من قُتِلَ منَّا دخل الجنة، ومن بقي منا أُنجِزَ له الوعدُ.
فقال له: قد وُضِعْنَا إذن في أيديكم، وضحك.
فقال له الجندي المسلم: وَيْحك رستم، وَضَعَتْكم أعمالُكم في أيدينا.
هذا الجندي المسلم عنده مفهوم واضح جدّاً لفكرة الجهاد في سبيل الله، فهو يجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله بحثًا عن الجنة، هذا هو موعود الله، وعنده مفهوم آخر - وهو واضح أيضاً - إما أن ينتصر في المعركة، وإما أن يُستشهدَ فيدخل الجنة، أما أن يُغلبَ أو يُهزم فهذا ليس نهاية المطاف عند المسلمين، فإذن كما قال رستم: قد وُضِعَ الفُرْسُ في أيدي المسلمين.
ثم تقدم رستم بعد ذلك من منطقه كوثِي إلى قرية تُسمَّى (بُرْس)، وهي قرية فارسية وجميع أهلها من الفُرْسِ، ولكن الجيش الفارسي عندما نزل بها عاث فيها فساداً؛ فدخل البيوت وأصاب ما بها من الأموال والطعام وأصاب منهم النساء، وهؤلاء جميعهم من الفرس - الجيش الفارسي وسكان القرية - فضجَّ أهل القرية بالشكوى إلى رستم، وقالوا له: إن جيشك فعل كذا وكذا. فقام رستم يخطب في الناس، وقال لهم: واللهِ لقد صدق العربيُّ: أعمالنا وضعتنا في أيديهم، إننا كُنَّا نُنصَرُ بالوفاء لأهلنا، والوفاء لجوارنا، فكيف بكم وقد فعلتم بهم ما لم يفعله العرب؟.
اعترف رستم بأن فِعْلَ الجيش الفارسي هذا هو الذي وضعهم في أيدي المسلمين، ثم يتقدم رستم بجيشه من برس حتى يصل إلى النجف حيث يكون الجالينوس منتظراً إياه، ويصل الجيش كله إلى النجف في حوالي أربعة أشهر ونصف.
وتخيَّلْ هذه المدة الطويلة، مع العلم أن المسافة من المدائن إلى النجف مائة وخمسة وثمانون كيلو متراً، قطعها الجيش الفارسي في أربعة شهور ونصف بمعدل كيلو ونصف في اليوم. أما المسلمون فقد كانوا يقطعون مسافة أربعين أو خمسين كيلو متراً في اليوم، أما خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة فقد كانا من الممكن أن يقطعا مائة كيلو مترٍ في اليوم بدون راحة، لكن هؤلاء الفرس كانوا يسيرون سير السلاحف، فكلما وصل رستم إلى مكان عسكر فيه، ثم يرسل إلى يزدجرد: أقاتل أم أرجع؟؛ لأنه لم يكن راغباً في القتال، بل يود لو أن يزدجرد أمره بالعودة، فهو متردد، إضافة إلى أن الجيش كله تسري فيه روح التباطُؤ.
حوار ربعي بن عامر مع رستم
أرسل رستم يطلب من المسلمين وفداً للحديث معه (فهو يود الصلح ويبحث عن ثغرة تتم بها المصالحة، أو أية وسيلة أخرى يرجع بها الجيش المسلم دون الدخول معه في حرب)؛ فيخبر زهرة بن الحُوِيَّة سعد بن أبي وقاص بذلك، فيجمع سعد بن أبي وقاص مجلس حربه، ويقول لهم: إنني سأرسل له وفداً عظيماً من أصحاب الرأي، كما أرسلت من قبل ليزدجرد؛ ليقيم عليه الحُجَّة، ويدعوه إلى الإسلام. فيقول ربعي بن عامر: إن هؤلاء القوم قوم تباهٍ، وإننا لو فعلنا ذلك يرون أننا قد اعتددنا بهم (أي: جعلنا لهم مكانة عظيمة، وأقمنا لهم الهيبة ونحن خائفون منهم)، ولكني أرى أن ترسل لهم واحداً فقط؛ فيشعروا أننا غيرُ مهتمين بهم؛ فيوهن ذلك في قلوبهم.
فتجادل معه القوم، ولكنه ظل يجادلهم حتى قال سعد: ومن نرسل؟، فقال ربعي: سَرِّحوني. أي: دعوني أذهب إليه أكلمه؛ وعندما وافق سعد وافق بقية القوم، ووقع في قلوبهم الرضا، وذهب ربعي بن عامر ليقابل رستم. وربعي هذا لم يكن من قواد الجيوش الإسلامية، ولكنه سيد في قومه، وانطلق ربعي على فرسه الصغير ذي الذيل القصير، وهذا شيء تُهَانُ به الخيولُ، ولبس ثياباً بسيطة، وهذا لباسه منذ أن قدم للقتال؛ فذهب به لمقابلة رستم، وربط سيفه في وسطه بشيء غنمه من الفُرْسِ، وبالطبع هم يعرفون شكل لباسهم (وفي هذا إذلال لهم كأنه يقول لهم: ما كان في أيديكم بالأمس أصبح اليوم في يدي، وهذا أمر يؤثر في أنفسهم كثيراً)، وحمل فوق ظهره السهام، وفي مِنطَقته السيف، وله جحفة من جريد النخل مثل التُّرس يتقي بها السهام، وكانت دروع الفُرس من الحديد القوي، وكان يلبس من الدروع درعاً حديدية تغطي نصفه الأعلى، وكان من أطول العرب شَعراً وقد ضفَّره في أربع ضفائر، فكانت كقرون الوعل، ودخل عليهم بهذا المنظر غير المعتاد بالنسبة لهم؛ فدخل بفرسه ووقف على باب خيمة رستم، فطلب منه القوم أن ينزع سلاحه، فقال: لا، أنتم دعوتموني، فإن أردتم أن آتيكم كما أُحِبُّ، وإلا رَجعتُ.
فأخبروا رستم بذلك، فقال: ائذنوا له بالدخول. فدخل بفرسه على البُسُطِ الممتدة أمامه، وهي طويلة جدّاً، يتراوح طولها ما بين مائة وخمسة وستين متراً إلى مائة وخمسة وثمانين متراً، وعندما دخل بفرسه وجد الوسائد المُوَشَّاة بالذهب؛ فقطع إحداها، ومرر لجام فرسه فيها وربطه به، وهذا يُوحِي بأن هذه الأشياء ليست بذات قيمة عنده، وفي هذا أيضاً إذلال للفرس، ثم أخذ رمحه، واتجه صوب رستم وهو يتكئ عليه، والرمح يدب في البسط فيقطعها، ولم يترك بساطًاً في طريقه إلا قطعه، ووقف أهل فارس في صمت، وكذلك رستم، وبينما هم يفكرون في جلوسه جلس على الأرض، ووضع رمحه أمامه يتكئ عليه.
وبدأ رستم بالكلام؛ فقال له: ما دعاك لهذا؟ أي: ما الذي دفعك للجلوس على الأرض؟، فقال له: إنا لا نستحب أن نجلس على زينتكم.
فقال له رستم: ما جاء بكم؟، فقال له: لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة (هذا هو المفهوم عند ربعي بن عامر، وعند الجيش المسلم في معظم الأحاديث التي دارت: أن الله قد ابتعث هذه الطائفة؛ لتقوم بمهمة وليست للبحث عن الغنائم، أو الطغيان في البلاد)، فمن قَبِلَ ذلك منا قبلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نظفر بالنصر.
فقال له رستم: قد تموتون قبل ذلك. فقال: وعدنا الله أن الجنة لمن مات منا على ذلك، وأن الظفر لمن بقي منا.
فقال له رستم: قد سمعت مقالتك (أي فهمت مقصدك)، فهل لك أن تؤجلنا حتى نأخذ الرأي مع قادتنا وأهلنا؟، فقال له: نعم، أعطيك كم تحب: يوماً أو يومين؟، فقال له رستم: لا، ولكن أعطني أكثر؛ إنني أخاطب قومي في المدائن.
فقال: إن رسول الله قد سنَّ لنا أن لا نمكن آذاننا من الأعداء، وألا نؤخرهم عند اللقاء أكثر من ثلاث (أي ثلاثة أيام فقط حتى لا يتمكنوا منا ويتداركوا أمرهم)، فإني أعطيك ثلاثة أيام بعدها اختر الإسلام ونرجع عنك أو الجزية، وإن كنت لنصرنا محتاجاً نصرناك، وإن كنت عن نصرنا غنيّاً رجعنا عنك، أو المنابذة في اليوم الرابع، وأنا كفيل لك عن قومي أن لا نبدأك بالقتال إلا في اليوم الرابع، إلا إذا بدأتنا (أي: أنا ضامن لك أن لا يحاربك المسلمون إلا في اليوم الرابع).
فقال له رستم: أسيِّدُهم أنت؟، فقال له: لا، بل أنا رجل من الجيش، ولكنَّ أدنانا يجير على أعلانا. فهو يقصد أن أقل رجل منا إذا قال كلمة، أو وعد وعداً لا بُدَّ وأن ينفذه أعلاناً.. هكذا قال له ربعي بن عامر، ثم تركه وانصرف.
وعاد رستم يُكلِّم حاشيته مرة أخرى، ويقول لهم: أرأيتم من مَنطِقِه؟! (أي: كيف يتحدث؟) أرأيتم من قوته؟، أرأيتم من ثقته؟، يخاطب قومه ليستميلهم إلى عقد صلح مع المسلمين؛ وبذلك يتجنب الدخول معهم في حرب، ولكنهم رفضوا ولجُّوا، وقالوا له: إنك تجبن.
يتبع