حقيقة الكتاب المقدس
حقيقة الكتاب المقدس
{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148].
المحتويات
• إشكالية تدوين الكتاب المقدس.
• إشكالية نسخ الكتاب المقدس وترجمته.
• الكتاب المقدس وموقفه من القول بعصمته.
• الكتاب المقدس وموقف كتبته من القول بعصمته.
• الكتاب المقدس وموقف المجمع المسكوني للفاتيكان الثاني.
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
ففي ظل هذه الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الإسلام صباح مساء في وسائل الإعلام المختلفة على أيدي قساوسة النصرانية ومبشريها؛ لابد وأن يكون لنا وقفة إزاء ذلك؛ تبيانًا للحقيقة ودحضًا للفرية.
ومما شحذ همتي لذلك أني فوجئت بالعديد من شبابنا المسلم يستمع للعديد من برامج التبشير والتضليل المبثوثة عبر الفضائيات المختلفة ويتأثر بها إلى حد لا يستهان به، فقد لبّست هذه البرامج على الناس دينهم وضللتهم وأثارت شكوكهم، ولم يعد السكوت من الفطنة، واقتضت الحكمة: هتك الستار، وقشع الغمام؛ فالحق أجلى من أن يلتبس فيه، أو يخشى من تجليه.
وقد أغنانا الأفاضل من العلماء عن رد كثير من الفرى والاتهام عن دين الإسلام؛ ولكن بقى شق للحقيقة في حاجة أمس للمزيد من البيان ألا وهو حقيقة ما يدين به هؤلاء – ويدعوننا إليه - من الصحة والبطلان؛ فليس من الحكمة أن تظل كتاباتنا رد فعل لأضاليلهم وشبهاتهم، بل لا بد من المبادرة؛ رجاء هدايتهم، وعصمة شبابنا من غوايتهم،وإشغالا لهم عنا بأنفسهم.
أرجو من الله تعالى أن أوفق في بيان جانب من هذا الشق في كتيبي هذا والذي هو في حقيقته تلخيص وتبسيط للقارئ غير المتخصص لأحد فصول كتابي (النبي الخاتم: هل وجد؟.. ومن يكون؟) والذي سبق لمركز الحضارة العربية بالقاهرة نشره عام 2002م، كما سبق نشر هذا الكتيب الذي بين أيدينا في صورة سلسلة مقالات أسبوعية بصحيفة البلاد السعودية أواخر عام2005م وأوائل عام 2006م، ثم نشر بعد ذلك في عدد من الصحف والمجلات العربية، وفي عدة مواقع على شبكة الإنترنت وكان لنشره صدًى طيب لدى القراء.
أسأل الله تعالى أن يوفقني وغيري لكتابة المزيد والمزيد عن هذا الشق من الحقيقة.
تمهيد
قبل أن نبدأ حديثنا عن حقيقة الكتاب المقدس لابد وأن نتوقف قليلاً أمام أقسامه ونتعرف على تكوينه.
والكتاب المقدس يتكون من قسمين رئيسين هما: العهد القديم والعهد الجديد.
و"العهد القديم": اسم أطلقه النصارى الأوائل على الأسفار المقدسة لدى اليهود؛ ليشيروا بذلك إلى أن هناك عهدًا آخر جديدًا يتكون من الأسفار النصرانية (الأناجيل الأربعة: متى، لوقا، مرقس، يوحنا، وبعض الرسائل والرؤى المقدسة لديهم).
أما هذه التسمية فيرفضها اليهود ويسمون أسفارهم التي يؤمنون بها: (التوراة، الأنبياء، الكتابات).
و التوراة: كلمة عبرية معناها الشريعة وتتكون من خمسة أسفار هي: (التكوين، الخروج، التثنية، الأحبار أو اللاويين، العدد).
وبعد التوراة يأتي القسم الثاني من العهد القديم وهو الأنبياء؛ وهذا القسم يسير في نسق تاريخي متصل مع التوراة ويتحدث عن أنبياء بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام.
ثم تأتي بعد ذلك الكتابات أو كتب الحكمة: وهي مجموعة كتابات يغلب عليها الطابع الأدبي، ولا علاقة لها بالسرد التاريخي.
ويؤمن النصارى بالكتاب المقدس كله بعهديه القديم والجديد وإن ترددت كل فرقة من فرقهم في الإيمان ببعض أسفاره وببعض أجزائها من عصر إلى آخر.
أما اليهود فمنهم من يؤمن بالتوراة فقط، ومنهم من يؤمن بالعهد القديم كله على تردد بينهم أيضًا في الإيمان ببعض أسفاره وبعض أجزائها من عصر إلى آخر.
ومن ثمة فكل طعن في أي سفر من أسفار العهد القديم يعد طعنًا في دين كل من يؤمن به من اليهود والنصارى؛ أما الطعن في أي سفر من أسفار العهد الجديد فهو طعن في دين من يؤمن به وهم من النصارى فقط.
إشكالية تدوين الكتاب المقدس:
يزعم بعض من رجال الدين اليهودي والنصراني أن أسفارهم المقدسة – والتي هي بحوزتهم الآن – وحي إلهي، معصومة من الخطأ، محفوظة من التحريف.
وهي دعوى باطلة؛ فليس في مخطوطات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد مخطوط واحد بخط المؤلف نفسه.
بل إن أقدم نسخ وصلت عصرنا هذا للعهد الجديد كتبت في القرن الرابع من ميلاد المسيح عليه السلام.
ولا يتعدى تاريخ أقدم مخطوطات العهد القديم التي وصلت عصرنا هذا القرن التاسع الميلادي، أي بعد وفاة موسى عليه السلام بأكثر من ألفي عام.
وليس بمقدور أحد في عصرنا الراهن أن يحدد بالضبط تاريخ تدوين كل سفر من أسفار الكتاب المقدس، ولا يعلم أحد في أيدي من وقعت هذه الأسفار قبل أن تصل إلى عهدنا هذا؟!.. وما عدالة من وقعت تحت يده؟!.. وهل هو محب للدين أم عدو له؟!.. وممن جاءت أقدم مخطوطات الكتاب المقدس والتي وجد لها عدد من النسخ المتباينة؟!.. فليس على وجه الأرض إنسان يروي سفرًا من أسفار الكتاب المقدس عدلا عن عدل؛ بل إن البشرية في عصرنا هذا تجهل تمامًا مؤلفي كثير من أسفار الكتاب المقدس، ومن ناحية أخرى لا يدري أحد في أية مناسبة وفي أي مكان كتبت هذه الأسفار التي لا يعرف أحد مؤلفيها الحقيقيين.
فبالنسبة لأسفار موسى الخمسة مثلا وهي أهم جزء في العهد القديم، بل والجزء الوحيد في الكتاب المقدس الذي يجمع على الإيمان به كل من اليهود والنصارى بفرقهم المختلفة يرى ابن عزرا أن كاتبها إنسان آخر عاش بعد موسى- عليه السلام- بمدة طويلة، ويعلل ذلك بأمور منها: إن سفر موسى كان مكتوبًا على حائط المعبد الذي لم يتجاوز اثني عشر حجرًا؛ أي أن السفر كان أصغر بكثير مما لدينا الآن، وإن الأسفار مكتوبة بضمير الغائب لا بضمير المتكلم، كما إن الرواية مستمرة في الزمان حتى بعد وفاة موسى - عليه السلام-.
بل إن نص التوراة الذي يذكر خبر وفاة موسى- عليه السلام- : "فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم" سفرالتثنية.
هذا النص لا يكشف لنا فقط عن أن موسى عليه السلام ليس هو كاتبه بقدر ما يكشف لنا أنه عليه السلام قد مات قبل كتابته بزمن طويل اجتاحته كثير من الأحداث كانت بلا شك كافية لضياع الشريعة كما كانت كافية لأن لا يعرف أحد مكان قبر صاحب الشريعة – عليه السلام- عند كتابة ذلك النص من التوراة رغم محاولة النص تحديد المكان بدقة بأنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور.
ومن ثمة تعلل نسبة هذه الأسفار الخمسة لموسى – عليه السلام- لا لأنه كاتبها ولكن لأنه الشخصية الرئيسة التي يدور حولها السفر كله، وكذلك الحال بالنسبة لباقي أسفار الكتاب المقدس.
وبالنسبة للعهد الجديد فإن عدم نسبة أي سفر من أسفاره إلى عيسى – عليه السلام- من الأمور التي لا خلاف عليها، ولا يمكن بالطبع أن يكون عيسى – عليه السلام- هو الذي كتب قصة الصلب وما تلاها من أحداث كما هو موجود في الإنجيل.
إشكالية نسخ الكتاب المقدس وترجمته:
أضف إلى ذلك أن اليهود والنصارى لا يملكون - في عصرنا الراهن- كثيرًا من أسفار كتابهم المقدس في لغتها الأصلية: لا في لغة وحيها، ولا حتى في لغة كاتبها، بل إنهم ليسوا على يقين من اللغة الأصلية التي كتبت بها بعض الأسفار.
وجل ما لديهم من أسفار مقدسة إنما هي تراجم، والترجمة بإجماع المتخصصين ما هي إلا انعكاس لفهم المترجم للنص، أي هي نوع من التفسير، ولا يمكن لأية ترجمة مهما كانت دقتها أن تنقل جميع دلالات النص الأصلي القريبة والبعيدة، فلكل لغة خصائصها الفريدة؛ فاللغة اليونانية مثلا والتي وجد بها كثير من مخطوطات الكتاب المقدس المهمة والفريدة، لم تكن أمينة في نقل ألفاظ اللغة العبرية: لغة عيسى وأنبياء العهد القديم عليهم السلام أجمعين؛ فهذه اللغة غير قادرة على نقل الحروف الحلقية والحنجرية، كما أنها لا تميز الحروف الصافرة والمسرة في اللغات السامية مما نشأ عنه خلط كبير في الأسماء.
ثم إن الكلمة في اللغة قد تحمل أكثر من معنى وظل للمعنى، والترجمة إنما تأتي بلفظ ليعبر عن أحد هذه المعاني فقط – وهو ما يرشحه السياق من وجهة نظر المترجم- ولا يمكن أن يعبر عنها جميعًا؛ وإذا به يعبر عنه وعن معان أخرى وظلال معنوية جديدة، وربما أخذ أحد هذه المعاني الجديدة ليترجم مرة أخرى إلى لغة أخرى بلفظ يعبر عنه وعن معان جديدة أيضًا وظلال أخرى للمعنى وهكذا، ومع كثرة الترجمة عن لغة من لغة إلى لغة تبعد العلاقة بين النص الأصلي والنص النهائي مهما كان حرص المترجم.
وربما كان ذلك سبب اختلاف كثير من تراجم الكتاب المقدس حتى في أهم الموضوعات العقدية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فالمقام لا يتسع إلا للتمثيل فقط: الفقرة (13) في الأصحاح (21) من سفر إشعياء والتي يرى فيها كثير من المسلمين بشارة بالنبي العربي محمد – صلى الله عليه وسلم- نجدها هكذا في التراجم اليهودية والنصرانية المختلفة:
1- "وحي من جهة بلاد العرب".. وهي ترجمة جمعية الكتاب المقدس في الشرق الأدنى.
2- " نبوءة بشأن شبه الجزيرة العربية".. وهي ترجمة كتاب الحياة المطبوع مع التفسير التطبيقي للكتاب المقدس.
4- "قول على العربة".. وهي ترجمة طبعة دار المشرق اعتماد بولس باسيم.
5- "The burden upon Arabia".. أي "عبء أو عناء على جزيرة العرب" وهي ترجمة نسخة الملك جيمس King James Version.
An oracle concerning Arabia"".. أي "وحي أو مبلغ الوحي أو مكان مهبط الوحي متعلق ببلاد العرب"، وهي الترجمة العالمية الجديدة الصادرة عن جمعية الكتاب المقدس العالمية New International Version.
6- essage about Arabia.. أي "رسالة عن بلاد العرب"، وهي ترجمة نسخة انجليزية اليوم Today's English Version.
7- "ssage intitule: Dans la Steppe" أي رسالة بعنوان في"الفيفاء" وإن كان السياق بعد ذلك يعين أن الحديث عن بلاد العرب التي يسكنها بنو قيدار، وهي ترجمة الجمعية الكتابية الفرنسية.
8- في التوراة العبرية: "משא בּﬠרב: مسّا بعراف"..أي "قول أو نبوءة بجزيرة العرب".
ومن ثم يتبين لنا أن كل تراجم الكتاب المقدس - بعهديه القديم والجديد - التي ظهرت حتى الآن ليست سوى عون على فهم النص الأصلي لا أكثر.
ثم إن النسخ الأولى للكتاب المقدس – كما يصرح مدخل العهد الجديد من الترجمة الفرنسية المسكونية للكتاب المقدس-: "نسخت ثم فقدت، ثم نسخت النسخ طوال قرون كثيرة بيد نسّاخ صلاحهم للعمل متفاوت، وما من واحد منهم معصوم من مختلف الأخطاء التي تحول دون أن تتصف أية نسخة كانت مهما بذل فيها من الجهد بالموافقة التامة للمثال الذي أخذت عنه".
ثم يذكر مدخل العهد القديم من الترجمة السابقة الذكر للكتاب المقدس بعض أمثلة تبين كيف كان الخطأ في النسخ يحصل؛ فيقول: إنه قد يحدث أن "تقفز عين الناسخ من كلمة إلى كلمة تشبهها.....ترد بعد بضعة أسطر مهملة كل ما يفصل بينهما، ومن المحتمل أيضًا أن تكون هناك أحرف كتبت كتابة رديئة فلا يحسن الناسخ قراءتها فيخلط بينها وبين غيرها، وقد يدخل الناسخ في النص الذي ينقله لكن في مكان خاطئ تعليقًا هامشيًا يحتوي على قراءة مختلفة أو على شرح ما".
بل إن مدخل العهد القديم من تلك الترجمة السابقة الذكر يصرح بأن بعض النسّاخ الأتقياء قاموا بإدخال تصحيحات على بعض التعابير التي كانت تبدوا لهم محتوية على أخطاء واضحة أو قلة دقة في التعبير اللاهوتي؛ وهو اعتراف بأن في الكتاب المقدس أخطاء وتغيير وتبديل.
وإضافة إلى ذلك – كما يصرح ذلك المدخل للكتاب المقدس- فإن الاستعمال لكثير من الفقرات في أثناء إقامة شعائر العبادة أدى أحيانًا كثيرة إلى إدخال زخارف لفظية غايتها تجميل النص.
ومن الواضح أن ما أدخله النسّاخ من التبديل على مر القرون تراكم بعضه على بعض؛ فكان النص الذي وصل في آخر الأمر إلى عهد الطباعة مثقلا بمختلف ألوان التبديل، ظهرت في عدد كبير من القراءات مختلفة الأهمية، كما ظهرت في آثار التصليح والتعديل المصرة على البقاء حتى في أهم مخطوطات الكتاب المقدس، وظهرت كذلك في أخطاء النحو والإملاء، وفصل الكلام ووصله، وتكرار الكلمة بل والسطر والفقرة، وظهرت في تفكك الأسلوب وركاكة العبارة وغموضها؛ مما تأدى في النهاية إلى التحريف المعنوي أيضًا.
ونتيجة كل هذا يعترف مدخل الكتاب المقدس من تلك الترجمة السابقة الذكر معلنًا: "إننا لم نعد متأكدين مطلقًا من أننا نتلقى كلمة الله بقراءة الكتاب المقدس؛ وكل ما يستطيع علم نقد النصوص الحديث أن يقدمه لنا هو محاولته لإعادة بناء نص يتمتع بأكبر الفرص الممكنة في أن يقترب من النص الأصلي، ولا يرجى في حال من الأحوال الوصول إلى الأصل نفسه".
يتبع