خطبة الحرم النبوي - يوم القيامة: أمن للمؤمنين وفزع للكفار


مجلة الفرقان



جاءت خطبة الحرم المدني بتاريخ 2021-12-17 الموافق 1443/05/13 لإمام الحرم الشيخ صلاح بن محمد البدير متحدثًا فيها عن يوم القيامة وحال المؤمنين والمنافقين في ذلك اليوم، مبينًا حقيقة الدنيا وأنها قد آذنت بفراق، فاليوم المضمار، وغدًا السباق، ويوشك الناس أن يظعنوا وينتقلوا من دار التكليف والفَناء، إلى دار الجزاء والبقاء، فانتقِلوا بخير الأعمال؛ فإن الآبق مَنْ أَبِقَ إلى النار، والسابق مَنْ سبَق إلى الجنة.

وبين الشيخ البدير أهوال هذا اليوم قائلاً: تذكَّروا يوم المعاد والمآب والحساب، تذكروا القيامة وأهوالها وأحوالها، والساعة وزلزالها وبلبالها، ولا تلهينَّكم الدنيا عن اليوم الموعود، ولا تنسينَّكم اليومَ المشهودَ، يوم تقع الآيات العظيمة، والأهوال المزعجة، والأمور الفظيعة، وتنشق السماء وتنصدع، وتنفجر وتنفطر، وقد تدلت أرجاؤها، ووهت أطرافها، وتغير لونها، واندثرت رسومها، وانكدرت وانتثرت نجومها، وذهَب نورُها، وكُوِّرت الشمسُ وغُوِّرت، ولُفَّتْ ومُحِيَتْ وذهَب ضوؤُها، ودُكَّتِ الجبالُ ونُسِفَتْ، وفُتِّتَتْ، وذهبت علوها ورسوها، وسُجِّرت البحارُ وأُجِّجَتْ، وفُجِّرَتْ وأظلمَتْ، وذهَب ماؤها وأُوقِدَتْ نيرانُها، ويطوي الله السموات، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: «أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»، ثم يطوي الأرض بشماله، ثم يقول: «أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟»، وينفرد الحي القيوم، الذي كان أولًا، وهو الباقي آخرا، بالديمومة والبقاء، ويقول: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}(غَافِ رٍ: 16)، ثم يُجِيب نفسَه بنفسه، فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}(غَا فِرٍ: 16).

ما بين النفختين

ويكون ما بين النفختين ما شاء الله أن يكون، فإذا انقضى الأجل الذي قدره الله، أنزَل مطرًا من السماء كأنه الطلُّ، تَنبُت أجساد الخلائق في قبورها، كما ينبت الحَبُّ في الثرى بالماء، وتجتمع العظام البالية، والأوصال المتقطعة، والجلود المتمزقة، واللحوم المتفرقة، لفصل القضاء، فإذا تكاملت الأجساد، أمَر اللهُ صاحبَ الصور فينفخ في الصور، نفخةَ البعث والنشور، والقيام من الأجداث والقبور، فيقوم الأموات أحياء، بعدما كانوا عظامًا نخرةً، ورممًا باليةً، ينظرون إلى أهوال القيامة، فتنبهر الأبصار، وتذل الخلائق وتحار، من شدة الأهوال، {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}(الْق ِيَامَةِ: 10).

أول من ينشق عنه القبر

ثم بين إمام الحرم المدني أن أول من ينشق عنه القبر، نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويتبع الناس صوت الداعي والمنادي للحشر، وتُبدَّل الأرضُ غيرَ الأرض، والسماواتُ غيرَ السماوات، ويُحشَر الخلق على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي، ليس فيها معلم لأحد، وتخشع الأصوات، وتخضع الوجوه، وتذل لبارئها، وتستسلم الخلائق لجبارها، فلا تسمع إلا وطء الأقدام، وتخافُت الكلامِ، يجمع الله بني آدم (الأولين والآخرين)، في عرصات القيامة، كلهم ضاحون لربهم، لا تَخفى عليه منهم خافيةٌ، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ}(هُودٍ : 103)، يوم عظيم الهول، كثير الفزع، جليل الخَطْب، يقومون من قبورهم، حفاةً، عراةً، غُرلًا غيرَ مختونون، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(عَبَس َ: 37)، في موقف صعب وضِيق وضنك على المجرمين، ويغشاهم من أمر الله ما تعجز القوى والحواس عنه.

الأنبياء والصديقون والصالحون

واستطرد فضيلته قائلا: ويُكسى الأنبياء والصديقون، والصالحون، وأول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم -، يوم يشهده البر والفاجر، وأهل السماء والأرض، وتحضره الملائكة كلهم، ويجتمع فيه الرسل جميعهم، وتحشر فيه الخلائق بأسرهم، من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب، ويشيب الولدان من أهواله وأحواله؛ ذلك يوم الجزاء والحساب، وتدنو الشمس من العباد، حتى تكون قيد ميل أو ميلين، فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق على قدر أعمالهم؛ منهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم مَنْ يأخذه إلى حقويه، ومنهم مَنْ يُلجِمُه إلجامًا، ويكون أناس في ظل عرش الرحمن، يأمنون من الحر والشمس وشدة الموقف وأنفاس الخَلْق، منهم الإمام العادل، وشابّ نشأ في عبادة ربه، ورجلٌ قلبُه معلَّقٌ في المساجد، ورجلانِ تحابَّا في الله، اجتمَعَا عليه وتفرَّقَا عليه، ورجل دعَتْه امرأةٌ ذاتُ منصب وجمال، فقال: إني أخاف اللهَ، ورجلٌ تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفِق يمينُه، ورجلٌ ذكَر اللهَ خاليًا ففاضت عيناه.

يوم القيامة

ثم أكمل الشيخ البدير بقوله: ويطول القيام، ويشتد الزحام، ويعظم الحر، والظمأ، والعطش والكرب، فيرفع الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة حوضه المورود، قال - صلى الله عليه وسلم -: «*حَوْضِي *مَسِيرَةُ *شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، فَمَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَدًا، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ. *فَيُخْتَلَجُ *الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ: رَبِّ، إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ؟»(متفق عليه).

لكل نبي حوضه

ويرفع لكل نبي حوضه، فيسقى منه صالحو أمته، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ *لِكُلِّ *نَبِيٍّ *حَوْضًا، وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً»
(أخرجه الترمذي) ثم يشتد البلاء، ويقوم الناس مقامًا طويلًا عظيمًا، لا ينظر الله إليهم، ويبلغ الناسَ من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقولون: «*أَلَا *تَرَوْنَ *مَا *قَدْ *بَلَغَكُمْ، أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: عَلَيْكُمْ بِآدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، ثم إبراهيم، ثم موسى -عليهم السلام-، فيقول كل واحد منهم: لستُ لها، فيأتون عيسى فيقول: لستُ لها، ولكِنْ عليكم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فيأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشفع في الخلق كلهم لفصل القضاء، وهو سيد ولد آدم على الإطلاق، وأكبر شفيع عند الله، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فَيَأْتُونِي، *فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا، فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، *أَدْخِلْ *مِنْ *أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ. وهي أول الشفاعات، وهي الشفاعة العظمى، والمقام المحمود، فيجيء الرب -تبارك وتعالى- لفصل القضاء، كما يشاء، ويجيء الملائكة بين يدي الجبار -جل جلاله- صفوفًا صفوفًا.


تجلَّى الحقُّ -تبارك وتعالى- للخلائق

وقد أكد الشيخ أنه إذا تجلَّى الحقُّ -تبارك وتعالى- للخلائق لفصل القضاء أشرقت الأرض وأضاءت بنور ربها، ثم عُرضت الأعمالُ، ووُضِعَ الكتابُ، فيه الجليلُ، والحقيرُ، والفتيلُ، والقطميرُ، والصغيرُ، والكبيرُ، لا يترك ذنبًا صغيرًا ولا كبيرًا ولا عملًا وإن صغر إلا أحصاه، وتظهر المخبَّآتُ، والضمائرُ، والسرائرُ، وترى كل أمة، وأهل ملة، جاثين على رُكَبِهم، من هول يوم الحساب، ويُدني اللهُ العبدَ يومَ القيامة، فيُقرِّره بذنوبه كلِّها، حتى إذا رأى أنه قد هلَك، قال الله: «إني سترتُها عليكَ في الدنيا، وإني أغفرها لكَ اليوم»، ثم يُعطى كتاب حسناته بيمينه، فيسعد، ويفرح أشد الفرح، فيقول لكل من لقيه: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (22) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ}(الْحَ اقَّةِ: 19-22)، الله أكبر! يا لَلفوز والنعيم، عيشةٌ راضيةٌ، وجنةٌ عاليةٌ، رفيعةٌ قصورُها، حسانٌ حُورُها، نعيمةٌ دُورُها، دائمٌ حُبُورُها، جعلني الله وإياكم من الفائزين بجنات النعيم.

وتوضع الموازين

وتوضع الموازين التي يوزن بها مثاقيل الذَّرِّ، من الخير والشر، فيثقل ميزان العبد أو يخف، ويحكم الملك الحق بين عباده في أعمالهم، ويقول الجبار -جل جلاله-: «*مَنْ *كَانَ *يَعْبُدُ *شَيْئًا فليتَّبعه، فَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ، ويتَّبع مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطَّوَاغِيتَ الطَّوَاغِيتَ، *عَطِشْنَا *يَا *رَبَّنَا فَاسْقِنَا، فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلَا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَيَتَسَاقَطُون َ فِي النَّارِ الهاوية الفظيعة الحامية، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله -تعالى-، من بر وفاجر، أتاهم رب العالمين، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، فَلَا *يَبْقَى *مَنْ *كَانَ *يَسْجُدُ *لِلهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللهُ لَهُ بِالسُّجُودِ، وَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ.

ظلمة عظيمة شديدة

وتغشى الناس ظلمة عظيمة شديدة دون الجسر، فلا يرى أحد فيها كفه، ويعطى المؤمنون نورًا عظيمًا؛ تكرمة لهم وثوابا، يضيء لهم الصراط، على قدر أعمالهم، ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا: انظروا نقتبس ونصب ونأخذ ونستضيء ونستصبح بكم، فيقال لهم قولَ ردٍّ وطردٍ وتوبيخٍ وتهكُّمٍ وتنديمٍ: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}(الْحَدِي دِ: 13)، فيرجعون وراءهم فلا يجدون شيئًا، فهناك يدركون أنهم خُدِعُوا، كما كانوا يُخادِعُونَ اللهَ ورسولَه والمؤمنينَ في الدنيا، ويتيقنون أن وبال خداعهم عاد عليهم خزيًا وخسارًا يوم الحساب، فيُضرَب بين الفريقين بحائط حائل وحجاب، وبسور له باب، باطنه فيه الرحمة، أي: الجنة، جهة المؤمنينَ، وظاهرُه، أي: خارجه، مِنْ قِبَلِه العذابُ، أي: جهنم، جهة المنافقين وإليها يُساقون، وفيها يتساقطون.

الصراط مدحضة مذلة

ولا يمر على الصراط إلا المؤمنون، والصراط مدحضة مذلة، عليه خطاطيف، وكلاليب مثل شوك السعدان، لا يعلم قدرَ عِظَمِها إلا اللهُ، والخلائق يزلُّون، ويعثرون، تخطفهم زبانية جهنم، فناجٍ مُسلَّمٌ، وناجٍ مخدوشٌ، ومكدوسٌ في نار جهنم، فيا له من منظر ما أفظعه، ومرتقى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقَه.


أول مَنْ يجوز الصراط

وأول مَنْ يجوز من الرسل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأمته، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: «اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ»، وإذا خلص المؤمنون من النار ووصلوا إلى أبواب الجنة، بعد مجاوزة الصراط، حُبِسُوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصُّون مظالمَ كانت بينَهم في الدنيا، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبُوا أَذِنَ اللهُ لهم بدخول الجنة، وأول مَنْ يقرَع بابَ الجنة نبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، ثم تفتح أبوابها إكرامًا وتعظيمًا لأهل الجنة، وتتلاقهم الملائكة الخزنة الكرام، بالبشارة، والثناء، والسلام؛ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}(الزُ ّمَرِ: 73)، فما أطيب الكلام،! وما ألذَّ السلامَ! وما أحسنَ المستقرَّ والمقامَ!