من قواعد فقه التعامل مع المخالفين


سليمان بن عبد الله الماجد


توجه التعرية والإسقاط للقول المخالف لا لقائله:
إذا كانت المخالفة في قضية علمية أو منهجية وقد أعلن صاحبها قوله أو منهجه فلا إشكال هنا في ذكر القول والقائل، وقد درج العلماء على ذلك حتى في المسائل الفقهية التي يقوى فيها الخلاف دون تجريح أو اتهام للنيات؛ فما الظن في القضايا المنهجية؟

وكذلك لو كان النقض على كتاب معين؛ فلا تثريب في ذكر الكتاب والكاتب.

وهذا كله لأن كاتبه رضي بإظهار رأيه وقرن اسمه به؛ فلم يعد بذلك ملكاً له؛ بل صار مشاعاً لجميع الأمة.

ولكن تقع صورة أخرى تزيد على ما ذُكر وهي توجيه الجهود لإسقاط شخص معين بسبب مخالفة منهجية معينة، وذلك بطريقين:
الأولى: التجريح الشخصي، وتسخير قواميس الهجاء لتشويه صورته عند الناس؛ وذلك بتكفيره أو جعل وصف المبتدع قرينا لاسمه، تنفيراً للناس من الاستماع إليه، والتأثر به، وربما أدخلوا مع ذلك بعض السلوك الشخصي؛ كسيرته الأخلاقية أو المالية أو العائلية.


الثانية: جمع أخطائه ومخالفاته حتى في المسائل الاجتهادية؛ لتكون في موضع واحد، وذلك لتتجمع أجزاء الصورة التي تجمعت في ذهن مخالفه لتكون مجتمعة واضحة عند بقية الناس، وذلك ليحذروا ما قاله أو ما سيقوله.


وصارت هذه الطريقة تُسمى في الوقت الحاضر بـ"منهج الإسقاط والتعرية" أي أن يُسقط الشخص من أعين الناس، ويعرى على حقيقته أمامهم.


وإذا أردنا محاكمة هذه الطريقة إلى منهج الكتاب والسنة، ومقتضى السياسة الشرعية، وقواعد المصالح والمفاسد فإن الناظر في هديه صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يستخرج قاعدة كلية وهي أن الأصل في نشر العلم، والنقض على المخالفين هو البيان العام، وأن الاستثناء أو النادر هو ترك بيان بعض العلم في أحوال خاصة رعاية لمصالح أعظم، أو درءاً لمفاسد أكبر.


كما أن الأصل في التعامل مع الأفراد المخالفين هو ترك بيان اسمه، والإعراض عن الدوران حول ذاته، وإذا وقعت التسمية فإنما هي على وجه الندرة والاستثناء.


وهذا ظاهر بيِّن في منهج القرآن حين لم يذكر أسماء المشركين في مكة، ولا أسماء المنافقين في المدينة؛ كما جعل صلى الله عليه وسلم أسماء المنافقين سراً عند بعض أصحابه رغم شدة خطرهم.


ولكن حين كان الأمر يتعلق ببيان العلم والرد على الأقوال الباطلة وفضح شبه المشركين وطرائق المنافقين فإن منهج القرآن والسنة كان قوياً حاسما لا مواربة فيه، وما ذلك إلا لأن الإعذار والإنذار الذي لأجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، وأخذ الله به الميثاق على الذين أوتوا العلم لا يتحقق إلا بهذه الطريقة الواضحة من العرض والبيان، وإذا تحقق مقصود البيان فلا يبقى أثر وفائدة تذكران لتسمية الأفراد في ظل تحقق هذه المقاصد العظيمة.


ولهذا كان بعض الناس في هذه المسألة طرفي نقيض فمنهم من كرس حياته للدوران حول ذوات أشخاص المخالفين لحربهم، وأهمل ما هو أهم من ذلك وهو المنهجية العامة في البناء العلمي والتربوي سواء كان ذلك بنشر العلم أو بالنقض على المخالفين ورد شبههم دون جعل الشخص محوراً لذلك.


ومنهم من أهمل البيان العلمي والتربوي وحتى الرد المنهجي الذي لا يستهدف الأشخاص تغليبا لمراعاة شعور الأفراد بالامتعاض حين تُنقض مناهجهم، وتُبيَّن أخطاؤهم.


وكلا الطرفين قد قلب المنهج الشرعي الصحيح؛ فالأولون جعلوا الأشخاص محورا للرد؛ ولو بالعدوان عليهم، وارتكاب مفاسد أعظم بحجة رعاية المنهج، والآخرون جعلوا الأشخاص محورا للرعاية أو المجاملة؛ ولو على حساب المنهج.


فصار الأصل - عند كلا الطرفين - استثناء والاستثناء صار أصلاً؟

والمنهج الصحيح ما ذكرناه من العناية ببيان العلم، والقيام بمهام التربية، وأن يكون الأصل مع المخالفين الرد على أفكارهم ونقض أقوالهم دون مواربة، مع عدم التعرض لأشخاصهم إلا في استثناءات نادرة، شرطها أن لا تعود على الأصل بالإبطال.

قال الإمام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (6/ 485): (.. كما اختلف الصحابة رضي الله عنهم والناس بعدهم في رؤية النبـي صلى الله عليه وسلّم ربه في الدنيا، وقالوا فيها كلمات غليظة؛ كقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: من زعم أن محمداً رأى به فقد أعظم على الله الفرية، ومع هذا فما أوجب هذا النزاع تهاجرا ولا تقاطعاً).


كان وضوحاً في الطرح، وبعدا عن المقاطعة.

إن المنهج في بيانه ونصرته لا يحتاج إلى معركة تستهدف الشخص؛ إلا إذا جاء ذكره تبعاً لنقض قول المخالف، دون مفاسد أكبر.

كما أن الشريعة قد جعلت لفطنة أتباعها بعد عملية التعرية المنهجية هامشاً يتحركون فيه للحذر من تأثير الطرائق المنحرفة.


وأعظم شبهة للمبالغين في منهج إسقاط المخالف وتعريته هي ما يرونه من خطر تغريره بالناس، وتأثرهم بمنهجه؛ فلا سبيل إلى رد باطله إلا بهذا المنهج.


وانتهاج هذه الطريقة يعكس عند صاحبها إحباطاً، أو قلةً في الثقة في حجته، أو ضعفاً في قدرته على إقناع الناس بصحتها.


وإلا فإن أعظم حصار لفكرة المخالف إنما تكون في بيان العلم بالحجة والبرهان، ولهذا كانت الغالبة في الكتاب والسنة؛ فكان المنهج الظاهر الأكثر: هو تعرية المنهج؛ دون اعتبار للأشخاص.


ثم إن خطر التغرير وإضفاء الشرعية كان موجوداً في عهد النبي صلى عليه وسلم في المنافقين الذي يسعون إلى تقويض الدولة المسلمة، وكانت لهم كثرة عددية، وامتدادات اجتماعية في أمة تعظم شأن القبيلة، ولهم علاقات منتظمة مع اليهود؛ لتحقيق أغراض الطرفين بإلقاء الشبة والإرجاف والتخذيل، ولا أدل على هذا التأثير والحضور من نزول سورة بكاملها جاءت لتبين طرائقهم وتعري مناهجهم؛ حتى سُميت بالفاضحة، ومع هذا كله ظلت الأسماء سراً، وبقي النبي صلى الله عليه وسلم يجري على المنافقين أحكام الإسلام الظاهرة؛ بل كان مع شيء من التلطف والحنو، ظهر ذلك حيث استغفر لهم وصلى على ميتهم، وقال لابن زعيمهم حين أراد قتل والده لِما رآه الابن من كثرة مكائده.. قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "بل نحسن صحبته ما دام معنا"، وحين مات أعطى ابنه قميصه ليكفنه فيه.


نعم قد نُهي عن الاستغفار لهم، وعن الصلاة على من مات منهم، ولكن هذا المنهج العام في التعامل مع المنافقين لم ينسخ، ولم ينه عنه.


فإن قيل: كان البيان العام من الكتاب والسنة ببيان العلم ورد الشبهة والنقض على المخالف في عهده صلى الله عليه وسلم كافياً عن إسقاط الأشخاص، وهذا لا يتحقق في زماننا بسبب ضعف البيان العام!


فيقال: قد أقررنا بكفاية البيان العام عن التعرية، وأما تقصيرنا في البيان فلا يجوز أن نجمع إليه خطأ منهجياً آخر باتباع سياسات تخالف منهج الكتاب والسنة.


والمتأمل في الواقع يلحظ أن الأزمة الحقيقية التي دعت البعض إلى انتهاج هذه الطريقة إنما هي أزمة تربوية عند الجماهير؛ حيث يرى الداعية الغيور أنه لا وقت عندهم للاستماع إلى الحجج؛ فيجعل من منهج التعرية وتسمية الأشخاص طريقة سريعة لتحريك الذهن الخامل عند هذه الجماهير مستفيدا من معرفتهم به وثقتهم فيه؛ وذلك لأن ذكر اسم المخالف أكثر حضورا وإلحاحا في ذهن المستمع من الحجة والبرهان التي تحتاج إلى ذهن حاضر ومقارنة وتأمل.


وهذه الأزمة عند المستمع ينبغي أن تعالج من جذورها بالدعوة والتربية.

ثم إن مخالفك لا يعجز عن انتهاج طريقتك عند جمهوره ومحبيه؛ فتبقى النزاعات بين الغوغاء؛ مما يزيد فرقة الأمة وتشتتها.
أما صاحب الحجة والبرهان فهو الذي يملك بهما ناصية الحقيقة بكل جدارة، وأتباعها وإن كانوا قلة إلا إنهم أعظم بركة من عامة قلوبها غلف وآذانها صم وعيونها عمي، وكما قيل في المثل: أن تقود مجموعة قليلة من الأسود خيرا من أن تقود قطيعاً كبيرا من الخراف.

وإذا ارتفعنا بعلوية طافحة الأضواء بعيداً عن قتام المختلفين وغبار المتنازعين فإن فيما قررناه من المنهج أعظم العبودية لله حين يكون التعظيم للبرهان والدليل، وهو الذي أراده الله منا أن نودعه قلوب المدعوين؛ ليكونوا عابدين لله على بينة وبصيرة لا على تقليد وعمى؛ فههنا نجاتهم وسلامتهم.


وإذا أردت أن نقرر أصلاً من الشريعة في التعامل مع أصحاب المناهج المنحرفة فإنها لم تأت بدليل قاطع بترك التعرية الشخصية مطلقاً، ولا باعتبارها مطلقاً، وحين ظن المختلفون وجود أحد الدليلين وقع الخلاف، والتحقيق في هذا أن القضية منوطة بمقتضى أحكام السياسة الشرعية، وقواعد المصالح والمفاسد، وهذه الأحكام وتلك القواعد تقتضي أن يكون الأصل هو ما ذكرناه، وما عداه استثناء قد يوجد سببه وقد لا يوجد.


وفهم هذا الأصل واعتباره يجعل خلاف الناس بعد ذلك إنما هو في تحقيق المناط لا في تخريجه؛ أي: هل وجدت مصلحة تعريته أولا؛ فإذا سُلِّم هذا فالخلاف في تحقيقه مسألة يسيرة جداً؛ لأنها مبنية على تحقق المصلحة أو عدمها، وإمكان الوصول إلى هذا سهل قريب من خلال استجلاء العبر من التاريخ القديم والمعاصر وإجراء الدراسات الكاشفة.


أما إذا فُهم أنها دلالة نصية من الشريعة لا تختلف بها الأحوال ولا الأشخاص ولا الأمكنة ولا نتائج دراسة المصالح والمفاسد فهنا قد يصل المرء إلى تعطيل مقاصد الشريعة في العلاقة مع المخالف: من احتوائه أو تقليل شره، أو تحقيق مصالح أكبر من مفسدة ترك الكلام في شخصه؛ فيحتاج الباحث إلى أن يعيد النظر في تأصيل المسألة.


ولا يشكل على هذا عند البعض إلا شدة نكير السلف من التابعين، ومن بعدهم على أهل البدع، وهجرهم إياهم والتحذير منهم، وهذا غير مشكل؛ فإذا قررنا هنا أن هذه المسألة مبناها على اعتبار المصالح والمفاسد التي تُبنى على اختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال، وأن الهجر والتضييق والتسمية كانت نافعة في ذلك الوقت؛ لكثرة أهل السنة وقوتهم، وضعف أهل البدع؛ فليس لأحد أن يدعي أن السلف جعلوا ذلك قاعدة لا تنخرم.


وقد نبه إلى ذلك الإمام ابن تيمية في كلامه عن هجر المبتدع في "مجموع الفتاوى" (28/ 210) واعتبر هناك أن التضييق على المخالفين من أهل البدع مبناه على اعتبار المصالح والمفاسد حتى في التعامل مع البدع المغلظة؛ كالتجهم، ونقل عن أحمد أنه وجه أهل السنة في خراسان بمدارة الجهمية فيها؛ لكونها موطن نفوذهم وانتشارهم.


ويقول في هذا الموضع: (.. وكان مداراتهم فيه دفع الضرر عن المؤمن الضعيف، ولعله أن يكون فيه تأليف الفاجر القوي. وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة).


بل ذهب في هذه الأحوال إلى التعاون معهم في أمور الجهاد والعلم؛ مما سيأتي ذكره في قاعدة لاحقة إن شاء الله.

وحمل في الموضع نفسه اختلاف كلام أحمد في التعامل مع المبتدع بين شدة ولين باعتبار هذه القاعدة؛ فقال: (.. وكثير من أجوبة الإمام أحمد، وغيره من الأئمة، خرج على سؤال سائل قد عَلِم المسؤول حاله، أو خرج خطاباً لمعين قد علم حاله، فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلّم، إنما يثبت حكمها في نظيرها)...

... (فإن أقواماً جعلوا ذلك عاماً، فاستعملوا من الهجر والإنكار ما لم يؤمروا به، فلا يجب ولا يستحب، وربما تركوا به واجبات أو مستحبات وفعلوا به محرمات. وآخرون أعرضوا عن ذلك بالكلية، فلم يهجروا ما أمروا بهجره من السيئات البدعية..).


وفي موضع آخر (10/ 365) ذكر اختلاف الحال، وأثره في التعامل مع أهل البدع من الطرق الصوفية، وذكر مخالطتهم وبقاء المريد معهم، ثم قال رحمه الله: (..وإنما قررت هذه القاعدة ليُحمل ذم السلف والعلماء للشيء على موضعه..).


وقال (28/ 206): عن الهجر: (.. فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله؛ فإن كانت لمصلحةٍ في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك؛ بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث تكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته، لم يشرع الهجر؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر).


وقال في الموضع نفسه: (.. وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل؛ ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع؛ كما كثر القدر في البصرة، والتجهم بخراسان، والتشيع بالكوفة، وبين ما ليس كذلك.. وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه).


ومن مفاسد التعرية - التي لا تعتبر القواعد -: قطعُ الطريق على أهل المنهج الحق لإصلاح المتبوع والتابع من أهل البدع، أو تقليل شرهما.


وذلك أن الحدود الفاصلة تظل في خرائط انتماءات المخالفين من المشايخ المتبوعين، أو المناهج الدعوية أو الطرق المبتدعة تظل هذه الحدود في تلك الخرائط باهتة، والجدران قصيرة يتنقل الناس بينها؛ فمرة بدخول أهل السنة عليهم دون توجس، ومرة بدخول المخالف عليهم دون تردد، ويتمكن أهل السنة من التأثير على المخالفين دون عوائق تذكر، وتكون الصولة حينئذ للدليل والبرهان؛ ولكن حين تُذكر الأسماء، ويُعَيَّن الأشخاص يتنبه الغافل، وتصبح الخطوط الباهتة في هذه الخرائط ساطعة براقة، وتأخذ الجدران القصيرة في الارتفاع، ويشرع التابع بالبحث عن هويته وانتمائه؛ ليواجه به ما يسميه هو هجوم الهويات والانتماءات الأخرى عليه أو على متبوعه، فتراه يتحصن بهذا من تأثير أهل المنهج الحق، وهذا ما يُفسر بقاء بعض الفرق الباطنية والطرق الغالية المنحرفة في بعض بلدان أهل السنة، وتحت سلطانهم السياسي، ومناهجهم الدراسية، وتوجيه إعلامهم دون تأثير يُذكر، وكان من الأسباب الرئيسة في هذا حملاتُ التحصين التي تبرعنا بها؛ لحماية أتباعهم من خلال الهجر والمقاطعة.


وقد حدثني أحد الدعاة المجربين حين كان في أمريكا، أن شاباً ينتحل أهله عقيدة خلق القرآن والتكفير بالكبيرة، وكان يختلف على المركز الإسلامي هناك، وقد تأثر في بلده بالمدرسين القادمين من بعض الدول الإسلامية؛ فصار يحب أهل السنة ويتقرب منهم؛ فشك أحد الأفاضل في مذهبه؛ فدعاه إلى بيته وامتحنه في عقيدته؛ فَصَدَقه القول بأنه يرى ما يقوله أهله من أن القرآن مخلوق؛ فما كان منه إلا أن طرده من بيته وجرده من مهامه الصغيرة التي أوكلت إليه في المركز، فذهب إلى بلده في الصيف، وسأل علماء بلده عما واجهه به هذا الرجل.. ثم عاد إلى أمريكا، ولكنه عاد بنفس جديد، وقد تسلح بالشبه التي يقول صاحبنا: احتجنا نحن معها إلى متخصص في أصول الدين ليرد عليها.


ومن مفاسد التعرية وذكر الأسماء أن ذلك يحول أنظار المدعوين من تأمل الفكرة إلى تأمل حال الشخص، وهل ما يقوله عنه صحيح أم لا؟ وهنا تضيع الفكرة نفسها، ولا يحصل مقصود الشريعة في إظهار الحق وإزهاق الباطل.

هذا في الأحوال العادية ومع مدعو محايد، أما إذا كان توجيه الدعوة إلى أتباع صاحب الفكرة المنحرفة فسيكون انشغالهم بصاحبهم عن تفهم دعوة الحق مانعاً من سماعها؛ حيث تتقوى العصبية لمتبوعهم؛ بل لا يفرق كثير من الأتباع بين أشخاصهم هم وشخص متبوعهم، وحينئذ تكون فكرة الداعية أكثر ضياعاً وتشتتاً واشتباهاً.

وليس للمسائل المستثناة التي يكون التنفير من المخالف فيها جائزاً، أو ممنوعاً ضابط محدد ينتظم جميع الأحوال؛ إلا قواعد المصالح والمفاسد التي يُنظر فيها إلى اعتبارات كثيرة؛ منها درجة الخلاف قوة وضعفاً والزمان والمكان والأشخاص وحال المُنْكِر نفسه، وحال المخالف وأتباعه، وأثر تعريته على الناس سلباً أو إيجاباً، وقوة أهل الحق وضعفهم.


ومما يضبط هذه المسألة أن يوكل هذا إلى علماء السنة الراسخين، وأن لا يتصدى لها غيرهم إلا بمشورة أولئك العلماء؛ لا أن يستبد الواحد من طلاب العلم بذلك، لما له من أثر خطير في شق الصف، وتمزيق الأمة، وتضييع المصالح والحقوق.


ويُفيد طالب العلم من العلماء وزن المسألة من الناحية العلمية، ودرجة سهولة الخلاف أو عظمه، ووسائل التبيين، والموازنة بين مصلحة التسمية والتعيين ومفسدتهما؛ فكم عُيِّن المخالف؛ فكان ذلك سبباً لمفسدة أعظم بالمزيد من الفرقة، أو مفسدة أخرى هي إشهار مخالف مغمور.


وقد جاء في "الإبانة الكبرى" لابن بطة عن عبدالله بن مسعود قال: (إن ما يكرهون في الجماعة خير مما يجمعون في الفرقة).

والمعنى أن المرء في حال الاجتماع يكره من البعض منكراتهم ومخالفاتهم، ولكن احتمالهم رغم مخالفتهم رعاية للاجتماع خير مما تحبه من مقاطعتهم لأجل هذه المخالفات.

والمعنى المرفوض هنا هو أن يغير المرء معتقده لأجله، أو أن يسكت عن الحق مع قدرته على بيانه؛ دون قدح في شخص أو مؤسسة.

أما الثبات على الأمر والتبيين بالحسنى مع الاحتفاظ بحقوق الآخرين فهو المنهج الذي قادت الأدلة إلى صحته واعتباره.

ومما لا يغيب عن فطنة الحكيم أن المجتهد في تعرية المخالفين ينبغي أن يعامل بهذه القواعد من خشية الله فيه ومعذرته والعدل معه والتلطف في معاملته؛ بما نصل به إلى تحقيق العبودية لله وحده. لا أن يفيد من هذه القواعد الضلالُ والمنحرفون، ولا يفيد منها القانت العابد الذي نذر نفسه محتسبا للشريعة، مدافعاً عن الدين.


ومع إصابة كثير ممن نعرفهم في هذا انتهاج طريقة التعرية؛ لا سيما مع دعاة التغريب والمنادين بسلخ الأمة عند دينها فإن ما أخطأوا في تطبيقه لا يخلو من فائدة يقع بها زجر العابثين بثوابت الأمة.



والطريق الصحيح لتصحيح هذه الأخطاء في هذا المعترك الحامي، وفي مفترق هذه الطرق المضلل حماية جانبهم؛ لكثرة صوابهم، مع تنبيههم إلى ما أخطأوا أو بالغوا فيه.