المدارس الخاصة... الصندوق الأسود


صروح شامخات، تنطق أسوارها: ها هنا تتعلّم الألسن العشرة والعادات السبع، وتكتسب البراعة في التفكير، والبيان في التعبير، والحفاوة في التقدير... على أيدي نخبة من معلمين مهرة، كِرام بررة، تمرّسوا فنون التعليم، وأتقنوا طرائق التربية وبناء الشخصية.

وحين نُطفئ أنوار المظاهر، ونُحضر الضمير الغائب ليختلس نظرةً إلى الحقيقة متجاوزًا أناقة النتائج الرسمية؛ نجد أمام السبورة البيضاء عينين مرتبكتين لبقايا ظلٍّ مُنهك، نُقِلت صلاحياته إلى الطالب باسم الحداثة، وهبته الإدارة الأقلام والأوراق والأجهزة وكل ما يحتاج أن يمنحه لغيره، متناسيةً حاجاته الإنسانية من أمان واعتبار، واضعةً إياه تحت براثن المجهر.

يشرح الدرس للكاميرا، ويُفعِّل التكامل والتكنولوجيا للمفتّش، ويعزّز القِيمَ للنافذة، وخلف المقاعد أرواح مشرّدة تائهة، يجمعها في كلّ درس، يوثِّق الداخل والخارج، عليه أن يصارع نعاسهم، ويستعذب ضجيجهم، ويَطمئنَّ على مأكلهم ومشربهم وحاجاتهم، عليه أن يكون أُمًّا حنون، وأبًا ودودًا، وشخصًا مرنًا هادئًا متقنًا فنون الصبر وكظم الغيظ والتحكّم بالذات، وفي آخر النهار يُعيدهم إلى بيوتهم مبتسمين محشوّين علمًا وأدبًا وقِيمًا، أمّا هو فلا يهمّ بأيّ صورة يعود إلى غرفته الخاوية... هذا إن عاد بسلام!

وحين ينبري قلم أو يتمرّد لسان ليفتح آفاق الحديث عن معاناة هذا المعلّم وبخاصة في المدارس الخاصة، وما ينتجه ذلك من تشويه لواقع الأمة وإفساد لمستقبلها؛ يغرق الحوار في مستنقع التبرير، فتصدح الإدارات: "هكذا تصنع كلّ المدارس، فلماذا نكون أرقى وأتقى؟ نحن من جلبناهم، ولنا الحقّ في فرض ما نشاء عليهم، ولم نجبر معلّمًا على البقاء، إذ بإمكانه العودة من حيث جاء بعد أن يدفع ما خسرناه لأجله، فلا أسهل من تأمين البديل؛ حيث طوابير الباحثين عن العمل في سائر أرجاء الوطن العربي مِن أصحاب الكفاءات والشهادات العليا الذين لفظتهم بلدانهم".

وتحت تلكم الأقوال تستنزف الأعمار، دوام يستهلك نهار المعلّم ما بين الصفوف والساحات والمرافق دونما فرصة لالتقاط أنفاسه! وفي المساء في غرفته الصماء حيث لا تؤهله مزايا وظيفته لجمع شتات أسرته، تتقاطع أسلاك الأجهزة بين يديه ومن خلفه؛ ليأكل، ويشرب، ويتواصل، ويعدّ الخطط والوسائل والتقارير، وفي خضمّ ذلك لا ينبغي له أن يهمل رسالة أو يتأخّر عن التعليق على نكتة سمجة أو مقطع أو صورة رماها مدير أو تابع على إحدى المجموعات الكثيرة المارقة من قوانين اللباقة والخصوصية.

وبعيدًا عن أرض الرباط في المدارس، تنوح المعلّمات، ويثور المعلّمون في سرّهم، إذ لا ينبغي أنْ تلتقط الآذان والعيون من حولهم سوى ابتسامات الرضا على وجوههم، ونظرات الفخر تشرق من أعينهم لانتمائهم إلى ذلك الصَّرح المجيد!


والحقّ يُقال بأنّ التعميم من العَمى إذ لا ينبغي أن نُجري هذه الظُّلمة على كل المدارس الخاصّة، فمنها مَن تألّقت، وأدّت حقَّ المكان والزمان من العطاء والبناء، ولكنّ الكثير منها وقعت في شَرك الطمع، وغفلت عن خصوصية هذه المؤسسات، ودورها، ومؤهلات إداراتها، وقيمة العاملين فيها؛ فغابت عنها روح المؤسسات التربوية وهيبتها.

وإن استنكر أحد هذا الوصف، وأراد إدراك الحقيقة وقوفًا عند المصلحة الوطنية العليا فليعطِ المعلّم الأمان على الإجابة عن سؤال يسير: " هل تشعر بكرامتك في مدرستك؟" وعلى الإجابة تتوقّف مصائر الأجيال، فكيف لمسلوب الكرامة، المنهك جسده، المهدَّد في رزقه، المدفوع للتزييف أن يصنع جيلًا كريمًا مستقيمًا، ويغرس فيه القيم، ويعزّز لديه الهوية وحُبّ الانتماء!

ولا أغرب من هذا سوى القول بأنها مدارس خاصة لا يحقّ لنا التدخّل في أمر المعلّم فيها، وإنما ينحصر دورنا في التأكّد من أناقة ورقة التحضير، وألوان ملف الإنجاز، ونضارة البسمة عند الزيارة!

لقد انشغلنا بالمئذنة ونسينا المؤذّن؛ فضاع من خَلفه المصلُّون أو كادوا.


ولأننا محكومون بالأمل؛ لا نقطع الرجاء من الله الكريم أنْ يقيّض لهذه الأمة مَن يدرك بأنّ المعلّم يجب استثماره لا استنزافه، وأنه كلما زرعنا في واقع المعلّم الكرامة والاعتبار والاستقرار؛ حصدناها في مستقبل أبنائنا عِزّةً وريادةً وابتكارًا.
______________________________ _________________
الكاتب: د. محمد زكي عيادة