المدد الإسلامي
قام عمر بن الخطاب بالنفير العام لكل المسلمين في الجزيرة العربية، وأرسل لكل قبيلة رسولاً أن يُخرِجوا من يستطيع منهم الحرب لقتال الفرس، وانتظر المثنى قدوم المدد الإسلامي له من المدينة، ويأتي لعمر بن الخطاب بعد أن أعلن الاستنفار العام جرير بن عبد الله وهو أحد صحابة النبي، وكان في الشام مع الجيوش الإسلامية الموجودة هناك، ولما علم بأمر موقعة الجسر أتى من فوره بعد أن استأذن قائدَه في الشام، وطلب أن يأتي بقبيلته (بجيلة) للمشاركة في حرب الفرس. وبجيلة هذه كانت إحدى قبائل العرب الموجودة في اليمن، ولما حدث انهيار سد مأرب وفرّت معظم القبائل من اليمن، سكنت كل منها في مكان، وتفرقت قبيلة بجيلة وسكن أهلها كلٌّ في مكان، فاستأذن جرير أن يجمع بجيلة وكان ذا رأي فيها، ويأذن له عمر لصعوبة الموقف، وقبل ذلك بعام رفض أبو بكر هذا الطلب من جرير، وأمره بالذهاب للقتال مع خالد.
انطلق جرير في جميع أنحاء الجزيرة العربية يجوب القبائل مجمِّعاً قبيلته، ومحمِّساً لهم بأنه لا تُؤتى العرب وبجيلة موجودة فيهم، وظل يستثيرهم بهذا الأمر حتى جُمِع له منهم ألفان، وهو عدد كبير مقارنة بالعدد الذي خرج من المسلمين بعد استنفار عمر بن الخطاب للمسلمين ثلاثة أيام دون أن يخرج أحد إلا بعد ذلك، فقد خرج ألف فقط من المسلمين.
وذهب جرير بالألفين من الجنود معه إلى عمر بن الخطاب، وقال لهم: أي الوجوه تحبون؟ فقالوا: الشام الشام أسلافنا.
فيقول عمر: بل العراق العراق، لقد فتح الله على أهل الشام، وعَضَّ الألم المسلمين في العراق، فاذهبوا وانصروا إخوانكم. فوافقوا، ويبدو أنهم لم يوافقوا سريعاً؛ لأن جريراً قام فيهم خطيباً يحفزهم على القتال والذهاب إلى إخوانهم في العراق، وقال لهم: إنكم لن تُهزَموا، فإما النصر وإما الشهادة.
ويحفِّزهم عمر بأكثر من ذلك فيقول: لبجيلة ربع الخمس من الغنائم. فيكون لهم 5 % من الغنائم إن تم النصر للمسلمين، وهذا نوع من تأليف القلوب والتحميس لهم.
وتخرج قبيلة بجيلة إلى العراق بقيادة جرير بن عبد الله عليهم، والجميع تحت إمرة المثنى بن حارثة.
تخرج أيضاً قبيلة كنانة وعلى رأسها غالب بن عبد الله أحد صحابة النبي القدامى، وشهد كل المشاهد مع رسول الله، وكان النبي يعتمد عليه كثيراً في العمليات الحربية التي يقوم بها، وأخرجه النبي على رأس الكثير من السرايا.
ثم أتى من قبيلة الأزد سبعمائة، ومنهم عرفجة بن هرثمة، وكان قائداً للجيش التاسع من جيوش أبي بكر في حروب الردة.
ووجهه عمر على رأس قبيلته إلى العراق لنصرة الجيوش الإسلامية.
وأرسلت قبيلة تَيْم بعض أفرادها، وأمَّر عليهم عمر هلال بن علَّفة.
وقبيلة بني عمرو وهي فرع من فروع قبيلة تميم، وأمّر عليهم عمر ربعي بن عامر وهو من أشراف العرب قبل الإسلام وبعده، ومن كبار الصحابة.
وأتت مجموعات أخرى من قبائل كثيرة، وبدأت الجيوش الإسلامية تزداد بهذا المدد القادم إليها من المدينة وما حولها.
ووصل تعداد هذا المدد 4000 من المقاتلين، وكان عمر قد أذن لمن ارتد وعاد إلى الإسلام أن يشارك في الحروب، فكثير من هؤلاء الآلاف الأربعة كان ممن ارتد عن الإسلام وعاد مرة أخرى.
وكما يقول الدكتور سعد بن عبد العزيز القصيبي فإن المتابع لحركة الفتح الإسلامي يلحظ مدى تكاتف المسلمين بعضهم مع بعض وحرصهم على نصرة الآخرين، تحقيقاً لقول الرسول: [مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى]. ومن هذا المنطلق وتحقيقاً لرسالة الفتح الخالدة، لم يقتصر الفتح على إرسال الجند للقتال فحسب؛ بل اتبع ذلك بالمدد الذي جاء للعون والمساعدة لتحقيق رسالة الإسلام الخالدة في المعمورة.
وعلم المثنى بن حارثة - وهو في مكانه منتظراً المدد الإسلامي - أن الجيوش الفارسية قد علمت أن المسلمين ما زالوا معسكرين في أماكنهم، وأن المدد قادم إليهم ولم تنتهِ الحرب كما توقعوا، فأخرجت بوران بنت كسرى جيشاً لقتال المسلمين، وأمَّرت عليه رجلاً يُسمّى مهران، وكان رستم هو الذي يدير هذه العمليات الحربية حتى إمارة بوران بنت كسرى، فيخرج هذا الجيش وفيه أكثر من سبعين ألفاً كلهم من الفرسان ومعهم ثلاثة أفيال، فهي أكبر قوة عسكرية تخرج من فارس؛ وذلك للقضاء بشكل نهائي على الجيش الإسلامي.
معركة (البويب)
بعد أن تجمع أربعة آلاف من أنحاء الجزيرة العربية، وجَّهَهُم عمر بن الخطاب إلى فارس، وأمَّر على كل طائفة رئيساً منها، وكانت أكبر هذه الطوائف قبيلة بجيلة وعلى رأسها الصحابي الجليل جرير بن عبد الله.
وفي هذه الأثناء كان المثنى بن حارثة - وبعد الهزيمة الساحقة للمسلمين في موقعة الجسر- قد انسحب بقواته كلها على حدود الصحراء قرب الحفير، ولو ظل في مكانه لكان بإمكان الجيش الفارسي أن يبيده تماماً، وظل في مكان بعيد في الصحراء حتى إذا هجم الفرس يستطيع أن ينسحب بعيداً في الصحراء ويقاتلهم فيها، ولم يكن الفرس يعرفون مهارة الحرب في الصحراء كما يعرفها العرب المسلمون في الجزيرة العربية، وكان هذا تصرفاً في غاية الحكمة من المثنى.
وكان الفيرزان - وهو أحد قادة الفرس، لكنه أقل درجة من رستم - قد قام بتمرد على رستم، وكانت له قواته الخاصة، وبعد تمرده قام الأساورة - وهم رجال الدين في فارس - بالصلح بينهما، وقالوا لهما: إن الخلاف بينكما هو الذي جرَّأ العرب علينا، وتسبب فيما تعانيه فارس من انقسام ومحن.
واستجاب الاثنان - رستم والفيرزان - وذهبا إلى بوران بنت كسرى، وطلبا منها توجيه جيش موحَّد من جنود رستم والفيرزان لكي يقضوا على المسلمين في معركة فاصلة، ووافقت بوران على هذا الأمر، وخرج الجيشان من فارس، وكان تعداد المقاتلين ما بين الستين والسبعين ألف مقاتل وكلهم من الفرسان، ومعهم ثلاثة أفيال وعلى رأس الجيش قائد يُسمَّى مهران بن باذان، وكان أحد قادة رستم، وكان يعرف العربية جيداً ويعرفه العرب جيداً؛ فقد تربى فترة من حياته في اليمن عندما كانت مقاطعة فارسية.
المثنى يختار مكان المعركة
وتوجّه الجيش الفارسي الجرَّار من المدائن في طريقه إلى الحيرة، وذلك لمقابلة المثنى بن حارثة الذي يعسكر بجوار الحيرة، وعلمت المخابرات الإسلامية بهذا الأمر، واستفاد المثنى من الأخطاء السابقة ومن خبراته مع خالد بن الوليد، فقرر أن يختار هو مكان المعركة، وتوجه بجيشه إلى منطقة تُسمَّى البُوَيْب وأرسل رسالة إلى جرير بن عبد الله، ورسائل أخرى إلى أمراء القوات الإسلامية القادمة من المدينة بأن يتوجهوا إلى البُوَيب؛ لأنه قد عجل له أمر لا يستطيع معه البقاء في مكانه القريب من الحيرة، وتقدّم المثنى واختار المكان قبل أن يأتي الجيش الفارسي وعسكر في المكان، وكان المكان الذي اختاره في غرب نهر الفرات.
فهذا النهر يفصل بين الجيش الإسلامي والجيش الفارسي القادم من المدائن، وبعد فترة جاء المدد الإسلامي وانضم إلى جيش المثنى، وجاء الجيش الفارسي، وأصبح قوام الجيش الإسلامي ثمانية آلاف، وقوام الجيش الفارسي ما بين الستين والسبعين ألفاً على الضفة الأخرى لنهر الفرات، وعلى نهر الفرات يوجد جسر، وكأن الأحداث تتكرر مرة أخرى.
وأرسل الجيش الفارسي كالعادة رسالة إلى المثنى فيها: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم. فأجاب المثنى الفرس بأن يعبروا هم إلى المسلمين، وعاد الرسول إلى أهل فارس وأخبرهم بالأمر.
كان المثنى قد نظَّم جيشه جيدًا.. وبدأ يحفِّز الجيش للقتال، ويمرُّ على كل قبيلة بمفردها قائلاً لأهلها: والله لا نحب أن نُؤْتَى من قِبَلِكُم اليوم، ولا أكره شيئاً لي إلا أكرهه لكم.
ولم يذكِّر المسلمين على الإطلاق بموقعة الجسر، وذلك حتى لا يتذكروا الهزيمة في هذا الموقف الذي يحتاجون فيه إلى قوة عزيمة، وبأس شديد.
وأمر الشعراء، فقام كل الشعراء يحمسون الناس بأشعارهم للقتال، ويذكرونهم بالله تعالى، وبموعوده الجنة أو النصر.
رتَّب المثنى الجيش بصورة دقيقة ومنظمة للغاية، حتى قال المؤرخون: إن صفوف المقاتلين كانت كصفوف المصَلِّين..وأصب ح الجيش المسلم مهيئاً للقتال جيداً، وبدأ الجيش الفارسي يعبر الجسر الضيِّق إلى أرض قد حاصرها المسلمون من كل مكان، ويتكرر المشهد.
فعندما يعبر الفرس يكونون شرق نهر الفرات، وفي غربهم البحيرة وفي شمالهم نهر البُوَيب، والجيش الإسلامي في المنطقة يحصر المنطقة بكاملها، وتدخل القوات الفارسية وهم ما بين الستين والسبعين ألفاً في هذه المنطقة الضيقة، ويفتقد جيش الفرس عنصر الكثرة؛ لأن المساحة التي تركها المسلمون للفرس ضيقة، ويقف جيشهم بكامله صفوفاً خلف بعضهم، ويقابل صفهم الأول فقط صفَّ المسلمين الأول، ولا يستطيع أحد الدخول في المعركة غير الصف الأول من كلا الجيشين، فلا قيمة لعدد الجيش إذن، وإنما يُبْنى النصر أو الهزيمة على مدى قوة الصف المحارب من كلا الفريقين، وإن كان على المسلمين أن يحاربوا وقتًا طويلاً نظراً لكثرة الجيش الفارسي، وكان هذا اختياراً موفقاً من المثنى، وتعويضاً لما حدث في معركة الجسر من اختيار سيئ لأرض المعركة.
كانت فرسان الجيش الإسلامي في المقدمة، وفي مقدمة الفرس ثلاثة أفيال، وأوصى المثنى جنده بالصبر في القتال، وبالفعل صبروا كثيراً، ونظراً للتدافع الشديد من قبل الفرس بدأ الفرس يهجمون على ميمنة الجيش الإسلامي بقيادة بشير بن الخصاصية، وكان المثنى - وهو في المقدمة - قد رأى اعوجاجاً في صف البشير، فأشار إلى أحد الرسل أن يذهب إليهم ويقول لهم: الأمير يُقرِئُكُم السلام، ويقول لكم: لا تفضحوا المسلمين اليوم.
واعتدلت هذه الصفوف، ونظروا إلى المثنى فوجدوه يضحك، فازدادت معنوياتهم كثيراً، وهكذا كان المثنى يقود جيشه.
وفكر المثنى بعد أن رأى صفوف الفرس الكثيرة متلاحمة تلاحماً قويّاً، ويصعب السيطرة عليها وهي بهذا الوضع، فقرر أن يفرقها لينتصر عليها، فنادى على جرير بن عبد الله وقبيلته بجيلة وتقدمها هو (المثنى)، وبدأ يضاعف الضربات على وسط الجيش الفارسي، واستطاع الجيش الإسلامي بالفعل أن يفصل الجيش الفارسي إلى جزأَيْن: أحدهما على اليمين والآخر على اليسار، وكلا الجزأين يفتقد الاتصال بالآخر، وازداد ضغط القوات الإسلامية حتى فُصِلَ الجيش الفارسي عن بعضه تماماً، ووفَّق الله جرير بن عبد الله البجلي فقتل مهران بن باذان قائد الفرس، وكان لقتله أثر كبيرٌ على الفرس، حتى إن المسلمين اختلفوا بعد المعركة فيمن قتله، فقال جرير بن عبد الله: والله أنا قتلته، وقال منذر بن حسان: والله أنا قتلته. لكن معظم الأقوال أن جريراً هو الذي قتله.
وبدأت قوى الجيش الفارسي تنهار أمام الضغط الإسلامي على جزأي الجيش المنقسم، وهذا كله يحدث دون أن تشترك المجموعة الاحتياطية بقيادة مذعور بن عدي؛ حتى تحمي ظهر المسلمين من أي التفاف ربما يحدث من الجيش الفارسي حول الجيش الإسلامي.
بعد هذا القتل في الجيش الفارسي بدأ الفرس يفكرون في الهرب، وذهب المثنى بنفسه وقطع الجسر على الفرس الذين يريدون الهروب، وانحصر الفرس في هذا المكان وليس لهم إلا أن يقاتلوا، وبدأ المسلمون في معركة تصفية مع الجيش الفارسي.
الاعتراف بالخطأ
ومع أن قطع المثنى للجسر كان أحد أسباب النصر للمسلمين والهزيمة للفرس إلا أن المثنى حزن لهذا الأمر؛ لأنه قال بأنه لا يجب أن يُكْرَه أحدٌ على القتال، وكان يجب ألاّ يُقطع خط الرجعة على الفرس، بل كان يجب مطاردة فلولهم الهاربة، وإحداث الرعب في مَن بقي منهم؛ وذلك لأن من حُصِرَ منهم ولا يستطيع الفرار ليس أمامه إلا الموت أو الانتصار على المسلمين، وهو وإن قُتِلَ فلا شك أنه قبل أن يُقتَل سيصيب من الجيش الإسلامي. ومن هنا نَدِم المثنى على قطعه للجسر، وأوصى جيشه بعدم تكرار هذا الأمر في المعارك الأخرى.
فمع كون المثنى هو القائد إلا أنه عندما ظن أنه أخطأ جمع جيشه، وعلَّمه الصواب معترفًا بخطئه، غير متعالٍ على جنده.
لم يكتفِ المثنى بما تم، ولكنه أرسل قواته لتتبع الفارِّين، ولفتح الأراضي التي كانوا قد تركوها منذ فترة قصيرة، وأرسل مجموعة من القواد مع جيوشهم إلى منطقة السواد ما بين دجلة والفرات، وانتشرت القوات الإسلامية تفتح هذه الأراضي التي كانت قد عاهدت المسلمين من قبل ثم نقضت عهودها معهم، واستخلف المثنى بشير بن الخصاصية على الحيرة، وظل هو في البُوَيب يدير الموقف.
وسيطر المسلمون على المنطقة الواقعة ما بين الأبلَّة وحتى المدائن، وهي المنطقة التي كان يسيطر عليها خالد بن الوليد بعد فتحه للحيرة.
ونجد أن المثنى بن حارثة كان يقاتل الفرس في مجالين مختلفين، ويفكر في البدء في القتال في المجال الثالث.
المجال الأول: القتال في المواقع الضخمة حيث تكون القوات أمام القوات، مثل موقعة البُوَيب، وبابل من قبلُ.
المجال الثاني: السرايا والفرق التي تستطيع مهاجمة الأماكن التي تخلو من القوات الفارسية الكبيرة، وتسيطر على هذه الأراضي وتحميها من القوات الفارسية الضعيفة الموجودة في تلك المناطق.
المجال الثالث: الذي كان يفكر فيه المثنى هو ما يسمى في العصر الحديث بـ"حرب الاستنزاف"، أي القيام بغارات مفاجئة على الجيش الفارسي في عمق أراضي الفرس، دون أن يحتفظ بتلك الأراضي لقلة القوات الإسلامية، فيحدث ذلك نوعاً من الرعب والفزع عند الفرس، وتعود بعد ذلك هذه القوات ومعها بعض الغنائم والأموال.
وفكر المثنى في الهجوم على أسواق فارس، وكانت أسواقهم من الشهرة بمكان في التاريخ، فقد كان فيها ثراء كبير، وكانت تُدِرُّ الكثير من الأموال على القصر الفارسي، وكان بهذه الأسواق بعض الحاميات لحراستها، وكانت تأتيها التجارة العظيمة من الهند والسند والصين ومن فارس أيضًا، وكانت تلك التجارة في الذهب والفضة والحرير وأشياء من هذا القبيل، لكن كان أهم ما فيها الذهب والفضة.
قرر المثنى أن يقوم بغارة على تلك الأسواق، وقرر أن يبدأ بالغارة على سوق الخنافس وكان ذلك في شهر شوال، وكانت هذه المنطقة قد فتحها خالد لكنها ثارت على المسلمين وفقدوها، ولم يكن الجيش الإسلامي قد وصل إليها.
وتعمية على الجيش الفارسي لم يتحرك المثنى شمالاً تجاه الخنافس، وإنما تحرك جنوباً تجاه الحيرة، ثم غرباً عند أُليِّس، ثم توغل في عمق الصحراء بعيداً عن العيون حتى وصل إلى الخنافس في أول الصبح، وهاجم الحامية الفارسية التي تحرس السوق وقتلهم، وأمر الجنود ألا يحملوا إلا ما يستطيعون العودة به، فحمل الجنود الذهب والفضة.
وقبل أن تصل الأخبار إلى الأنبار، كان المثنى قد توجه إلى منطقة الأنبار التي كانت فيها موقعة ذات العيون، وعندما رأى أهل الأنبار قوة المسلمين استسلموا على الفور وقالوا: عهدنا مع الأمير كما هو. فقبل منهم المثنى ووضع على الأنبار حامية، وأخذ منهم دليلاً يدله على منطقة بغداد (حوالي 40 كم شمال المدائن)، ولم يكن المسلمون قد دخلوها من قبل، ومن ثَمَّ أخذ معه هذا الدليل، وكان قد استصحب لهذا الأمر دليلاً آخر أتى به معه من الحيرة، وكان يسمع من كلا الدليلين كلٍّ على حدة؛ وذلك لئلا يُخدع.
وتحرك من الأنبار متجهاً إلى بغداد، وقبل أن يصل المثنى إلى بغداد عسكر في الطريق، وبدأ ينظم القوة الصغيرة التي معه ويرتبها، وأرسل طلائع صغيرة على كل الطرقات المؤدية إلى بغداد؛ حتى يمنع إيصال أخبار هذه الغارة إلى أحد من أهل بغداد، تماماً كما يحدث في التشويش على الرادار.
وتناجوا بالبر والتقوى
استراحت القوة الإسلامية في هذه المنطقة بعد الجهد الذي بذلوه في تلك الغارة، وسمع المثنى بن حارثة أحد الجنود يقول للآخر: والله ما أسرعَ الفرس في طلبنا؛ فقد توغلنا في أرض فارس، فهو يخاف من الفرس أن يتتبعوا هذه الفرقة بعد هذه الغارات، فغضب المثنى من هذا الأمر، ووقف يخطب فيهم قائلاً: تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان، انظروا إلى الأمور وقدروها ثم تكلموا.. ثم يوضح لهم المثنى حقيقة الأمر فيقول لهم:
إنه لم يبلغ النذير مدينتهم بعد (أي لم يبلغ خبر هذه الغارة إلى المدائن)، ولو بلغهم لحالَ الرعبُ بينهم وبين طلبكم، إن للغارات روعاتٍ تنتشر عليها يوماً إلى الليل، ولو طلبكم المحامون من رأي العين، ما أدركوكم وأنتم على الجياد العِرَابِ (الخيول العربية الأصيلة)، وهم على المقاريف البطاء (الخيول المهجنة)، حتى تنتهوا إلى معسكركم وجماعتكم. ولو أدركوكم لقاتلتهم لاثنتين: التماس الأجر ورجاء النصر، فثِقوا بالله وأَحسِنوا به الظن، فقد نصركم الله في مواطن كثيرة وهم أعدُّ منكم (أي أكثر عدة). وسأخبركم عني وعن انكماشي (أي سرعتي)، والذي أريد بذلك إن خليفة رسول الله أبا بكر أوصانا أن نقلل العُرْجَة (الإقامة في أرض العدو)، ونُسرِع الكَرَّة في الغارات.
وقد استفاد المثنى من الصديق مع أنه لم يره في حياته إلا مرتين، مرة عندما ذهب يستأذنه لقتال أهل فارس، والمرة الثانية عندما ذهب إليه ليطلب المدد لجيشه.
في هذه الأثناء تملَّك الجيشَ الفارسيَّ الرعبُ الشديدُ؛ إذْ كيف يصل المسلمون إلى عمق الأراضي الفارسية بهذه الصورة، وبدأ قادة الفرس يلوم بعضهم بعضاً، ودبَّ الخلاف مرة أخرى بين رستم والفيرزان، واجتمع الأساورة اجتماعاً كبيراً، وقالوا لرستم والفيرزان: إن ظللتم على خلافكم هكذا لَنقتُلنَّكم، ولا يمنعنا من قتلكم إلا الهلكة، ولكن إن دمتم على هذا الخلاف لقتلناكم وهلكنا، لكننا اشتفينا منكم، فأجمعا أمركما والقيا العدو صفًّاً واحداً.
وكان للأساورة رأي مسموع في البلاط الملكي وعند بوران بنت كسرى، وخشي رستم والفيرزان أن تكون عاقبتهما القتل، أو التخلِّي عن إمرة الجيوش على الأقل، ومن ثَمَّ قرَّرا التوحُّد والقيام بحرب ضد المسلمين.
(يزدجرد)كسرى فارس
كان حكم فارس حتى هذا الوقت في يد امرأة هي "بوران بنت كسرى"، وفكَّر الفرس في أن يأتوا برجل يصلح أن يكون حاكماً لفارس، ولا بد أن يكون من آل ساسان، فجمعوا نساء كسرى وكانوا بالعشرات وجواريه بالمئات، وأخذوا يعذبونهن حتى يَدُلُّوهم على أحد أبناء كسرى، فأقرَّت إحداهن بعلمها أن ابنًاً لإحدى نساء كسرى ما زال حيًّاً، فأتوا بها وعذبوها حتى أقرَّت بمكانه. فذهبوا إليه وأتوا به، وكان اسمه يزدجرد الثالث، وقدموا له الولاء والطاعة وكان عمره 21 عاماً.
بدأ يزدجرد ينظم الجيوش ويدير الأمور وهو حديث عهد بذلك، وأول ما فكر فيه هو القضاء على قوة المسلمين، وقرر أن يلقي بكل القوة الفارسية لقتال المسلمين، وتحت قيادة رستم والفيرزان.
جُمِعت أعداد ضخمة من الجنود، وتوجهوا تجاه الجيش الإسلامي، ووصلت الأخبار إلى المثنى بتجمع الفرس العظيم لملاقاة المسلمين.
واستفاد المثنى من خبراته السابقة مع خالد بن الوليد، فانسحب بجميع قواته من المناطق التي كان قد استولى عليها؛ الأنبار وساباط ومن الحيرة، وانسحب أيضاً من الأبلّة وجعل تجمعه في منطقة تُسمى ذا قار، وكان بهذه المنطقة قبل ذلك موقعة بين العرب والفرس في الجاهلية، وانتصر فيها العرب، وظلوا يذكرونها كثيراً.
وما يميز منطقة ذي قار أنها على أبواب الصحراء، والجيش الفارسي لا يجيد القتال في الصحراء، وكان هذا هو المكان الذي اختاره المثنى حتى يعسكر فيه ويستطيع الجيش الإسلامي من خلاله أن يفر إلى الصحراء في أسوأ الحالات، عند حدوث هزيمة مثلاً.
واتجه الجيش الفارسي من المدائن إلى ذي قار، وأرسل المثنى رسالة إلى عمر بن الخطاب يخبره فيها أن الفرس يجمعون كل عدتهم وعتادهم لقتال المسلمين، وبمجرد أن وصلت الرسالة أعلن عمر بن الخطاب النفير العام، وأرسل الدعاة إلى كل الجهات لحثِّ الناس على الجهاد وقتال الفرس؛ لأن الجيش الإسلامي وقوامه ثمانية آلاف لا يقوى على مواجهتهم بهذا العدد الضخم الذي لم يستطع المسلمون أن يحددوه بعد.
وفاة المثنى
كان المثنى قد أُصيب في موقعة الجسر، وظلَّ متأثراً بها طيلة هذه الفترة، فبعد أن أرسل رسولاً إلى عمر بن الخطاب، وقبل أن يصل الرسول كان الله تعالى قد اختاره إلى جواره، وكتب وصية إلى عمر بن الخطاب وأرسلها مع أخيه المُعَنَّى بن حارثة وفيها: لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء. وفي الوقت نفسه كان رسول المثنى قد وصل إلى عمر، ولم يعلم عمر بعدُ بأمر وفاة المثنى، فكتب رسالة له فيها: "لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء".
وكان هذا التوافق في الرأي يدل على بُعد النظر وعمق التفكير، فقد استفاد المثنى بن حارثة كثيراً من تجاربه السابقة، وفي الوقت ذاته فإن عمر بن الخطاب وهو في المدينة يرى الرأي الصائب لعمق فكره، وحسن تخطيطه وإدارته.
دروس في الشورى
أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الأمراء والخطباء والشعراء في كل أطراف الجزيرة العربية لكي يحثُّوا الناس على الجهاد؛ فجاء إلى المدينة وفي وقت قليل - أقل من شهر - حوالي أربعة آلاف مسلم من الجزيرة العربية، منهم ثلاثة آلاف من اليمن وألف من قبيلة قيس، وقرروا أن يخرجوا للجهاد في سبيل الله سواء إلى الشام أو إلى العراق، لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختار العراق؛ لأن الشام في هذا الوقت كانت الحروب فيها قد تقدمت تقدماً عظيماً لصالح المسلمين تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح.
جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أربعة آلاف مقاتلٍ في منطقة صرار، وبدأ في تجهيز الجيش وتنظيمه؛ فجعل على الميمنة الزبير بن العوام رضي الله عنه، وعلى الميسرة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وجعل نفسه على المقدمة، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد خرج رضي الله عنه بكل طاقة المدينة المنورة، وخرج هو على رأس هذا الجيش.
لم يكن عمر رضي الله عنه يرى أن من الحكمة أن يخرج بنفسه - وهو أمير المؤمنين والمسؤول الأول عن الدولة الإسلامية الممتدة شرقًا وغربًا، والتي تحارب جيوشُها في أكثر من جهة لنشر الإسلام - مع الجيش الخارج للقتال في فارس ويترك المدينة المنورة، فكيف يكون الحال إذا قُتِلَ مثلاً؟ لا شك أنها ستكون كارثة، ولكنه خرج ابتداءً استكمالاً لبذل الجهد، وحثًّا للناس على الخروج للجهاد في سبيل الله.
فقال عمر رضي الله عنه للناس: أَشِيرُوا عليَّ. أي في أمر خروجي معكم.
فقال عامة الناس: سِرْ وسِرْ بنا معك.
وافق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رأي العامة وهو لا يراه صواباً، لكنه انتظر رأياً آخر، فقام علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما - وهما من كبار الصحابة - وقالا كما قال العامة: سِر وسِر بنا معك.
فقام العباس بن عبد المطلب وقال: لا والله لا أرى ذلك رأياً بل تبقى في المدينة ويخرج على المسلمين أحد صحابة رسول الله.
وقام عبد الرحمن بن عوف وقال: والله إني أرى رأي العباس، لا تخرج من المدينة، وتبقى على إمرة المسلمين ويخرج غيرك على إمرة الجيش.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع لرأي العباس وعبد الرحمن بن عوف قبل ذلك كثيراً، وهما ذوا خبرة وحكمة في الأمور، وكان المسلمون إذا احتاجوا شيئاً من عمر بعثوا له عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وإلا أرسلوا له العباس رضي الله عنهم جميعاً.
وبدأ المسلمون يتناقشون في هذا الأمر، فقام عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال مخاطباً عمر رضي الله عنه: اجعلني فداك بأبي وأمي، تبقى للمسلمين في المدينة، والله أخشى لو خرجت لقتال الفرس في العراق وقُتِلْتَ ألاّ يكبر المسلمون بعد ذلك، ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله.
سمع ذلك المسلمون فتراجع على الفور علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما عن رأيهما، وكانا من كبار أصحاب الرأي بخروج عمر رضي الله عنه مع الجيش، وعندما رأى عامة المسلمين تراجع هذين - رضي الله عنهما - وافقوا جميعاً على بقاء الفاروق رضي الله عنه بالمدينة، وخروج أحد صحابة النبي على إمرة الجيش.
اختيار قائد الجيش
وظهرت مشكلة أخرى أمام عمر رضي الله عنه وأمام المسلمين، وهي اختيار قائد لهذا الجيش الخارج لقتال الفرس في هذه الموقعة الفاصلة.
واجتمع قادة المسلمين للتشاور في هذا الأمر المهم للغاية، وبدءوا في عرض الأسماء المؤهلة لهذا الأمر الجلل، ولم يستقروا بعدُ على اختيار القائد العام للجيش، وفي هذه اللحظات وهم ما زالوا في منطقة صرار، وصلت رسالة من هُذيل - وهي منطقة تقع شرقي مكة، وكان يحكمها سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه أحد كبار أصحاب النبي، وكان قد أمَّره عليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه - تقول الرسالة: إن أمير هذه المنطقة قد جمع الزكاة والصدقات، وأنه قد أعدَّ ألف فارس من ذوي النجدة، وقرأ عبد الرحمن بن عوف الرسالة قبل أن تصل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب: واللهِ وجدته.
قال عمر: من؟، قال: الأسد في براثنه. فعرف عمر رضي الله عنه أنه سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، ووافق على قيادة هذا الأسد للجيش.
وأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ردًاً على رسالته أن قبلنا الصدقات، وأَرْسِلِ الجندَ، وأنت أمير الجيوش. ويأتي هذا الصحابي تلبية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويصبح أميراً على هذا الجيش.
دروس من وصايا الفاروق
عند خروج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من صرار متجهاً إلى العراق، قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا سعد، لا يغرنّك أن قيل: إنك خال رسول الله؛ فإنه ليس لله نسب إلا الطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي منذ بُعِث حتى فارقنا، فالزمه فإن ذلك الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتَها ورغبت عنها حبِطَ عملك، وكنتَ من الخاسرين".
وعندما خرج بالجيش ناداه عمر رضي الله عنه موصياً إياه قائلاً: "إن الله إذا أحب عبداً حبَّبه، وإذا أبغض عبداً بغّضه، فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس".
وكان عمر رضي الله عنه لا يدع ذا سطوة، ولا ذا رأي أو جاه، ولا شاعراً ولا خطيباً إلا أرسله تجاه العراق حتى تتبعهم أقوامهم، وكان يقول: واللهِ لأضربنَّ ملوك الفرس بملوك العرب.
الوصية العمرية الخالدة
وأرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصية جديدة إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهي من الوصايا التي ظلت محفوظة كأفضل وصية أعطيت لجيش من جيوش المسلمين، وظل الأمراء بعد ذلك يوصون بها جيوشهم، وتحمل الوصيةُ المنظور الصحيح للحرب في الإسلام، كما تحمل الكثير من المعاني العظيمة.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في هذه الوصية:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد.. فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العُدَّة على العدو، وأقوى العدة في الحرب".
هذا ما بدأ به الفاروق الحكيم رضي الله عنه وصيته، فإن أفضل سلاح لمحاربة الأعداء هو تقوى الله، وإذا لم يتوافر هذا السلاح فلا قيمة لأي سلاح آخر مهما بلغت قوته وعَظُمَ شأنه.
"وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليست كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا ولن نغلبهم بقوتنا".
يضع الفاروق رضي الله عنه يد المسلمين على مفاتيح النصر الحقيقة، ويعلمهم أن النصر إنما يأتي بطاعة الجيش لله، وليس النصر بالعدة أو العتاد، وإلا لكان في جانب العدو؛ فإنهم أكثر قوة وعتادًا، فإذا تساوى الجيشان في المعصية فهما عند الله سواء، فلن يكون الله معنا ولن يكون معهم فينتصروا علينا بالعدة والعتاد، فقوتنا إنما هي أن الله معنا، وإذا افتقدنا هذا العنصر -عنصر القوة من الله- كانت لهم الغلبة؛ لأنهم دائمًا يكونون أكثر عددًا وعدة.
"واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله".
يأمرهم رضي الله عنه ويذكرهم بالحياء من الملائكة الذين معهم ولا يفارقونهم، وبالحياء من الله؛ لأنهم إنما خرجوا جهاداً في سبيله.
ثم يلفت نظرهم إلى أمرٍ مهم نحن في واقعنا أحوج إليه من غيرنا يقول رضي الله عنه:
"ولا تقولوا: إن عدونا شرٌّ منا ولن يُسلط علينا وإن أسأنا، فرُبَّ قوم سُلِّط عليهم شَرٌّ منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل - لما عملوا بمساخط الله - كفرةُ المجوس فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً".
يذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهم نموذجًا عملياً يخالف ما قد يعتقده البعض من أن العدو - لا شكَّ - أكثرُ معصية منهم؛ لأنهم مسلمون وعدوهم كافر، فيضرب لهم هذا المثل ليمحوَ من أذهانهم هذا التصور المغلوط، مؤكداً لهم أهمية الطاعة وخطورة المعصية عليهم.
وهنا يعلق السرجاني قائلاً: وهذه الصورة التي ضرب الفاروق رضي الله عنه بها المثل منطبقةٌ تماماً على المسلمين في الواقع المعاصر؛ فقد سُلِّط عليهم بمعاصيهم وذنوبهم أخبثُ أهل الأرض، فنرى اليهود - وهم أشر الخلق - يتحكمون في المسلمين، ليس في فلسطين فقط بل في العالم كله، ويذيقون المسلمين في فلسطين سوء العذاب، ونرى الهندوس وهم عبدة البقر والفئران يذيقون المسلمين العذاب في كشمير، والشيوعيين وهم لا يعرفون رباً ولا إلهاً يعذبون المسلمين في كل الجمهوريات الإسلامية في جنوب روسيا، ونرى الشيشان وغيرها وما يجري من أحداث في هذه المنطقة، وكذلك الصِّرْب، وما من منطقة في العالم إلا والمسلمون مستضعفون فيها من قِبَلِ أُناسٍ هم أكثر معصية، بل إنهم مشركون ومع ذلك يُسلطون على المسلمين؛ وذلك لأن المسلمين عصوا ربهم فسُلِّطَ عليهم العدُوُّ.
ويجب أن نأخذ هذا الأمر بشيءٍ من الاهتمام، فإن الإنسان - وهو في محيطه الضيِّق - ربما يذيقه أحد اليهود أو النصارى أو الظالمين العذاب، وربما يتعجب المسلم كثيراً ويتساءل: كيف يحدث هذا وأنا مسلم وهذا كافر أو ظالم؟!.
والجواب يتضح من وصية الفاروق رضي الله عنه، وهو أن هذا الإنسان المسلم بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في حياته وأعماله من طاعاتٍ ومعاصٍ، وفي حاجة إلى تنقيةِ قلبه، وعودة إلى ربه، وتوبة من الذنوب والمعاصي والآثام، وإنما تأخر النصر على المسلمين لكثرة المعاصي منهم.
"واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على أعدائكم".
إلى هذه اللحظة لم تتطرق الوصية بعيداً عن إصلاح النفس، والبُعد بها عن المعاصي والآثام، والاقتراب من الله نظراً لأهمية هذا الأمر، وأثره الكبير في إحراز النصر على الأعداء.
ثم ينتقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى جانب آخر من الجوانب المهمة، وهو كيفية التعامل مع الجيش والانتقال من مكان لآخر؛ يقول له:
"وترفق بالمسلمين في سيرهم، ولا تجشمهم سيراً يتعبهم، ولا تقصّر بهم عن منزلٍ يرفق بهم؛ فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس".
يشير عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الفقرة من هذه الوصية الخالدة إلى ضرورة راحة الجند وعدم تحميلهم ما لا يطيقون، وتحيُّن أي فرصة يستريحون فيها من عناء السفر الطويل؛ ذلك لأنهم قادمون على عدو مقيم، فينبغي ألا تذهب طاقة الجند هباءً حتى إذا لاقوا عدوهم استطاعوا أن يحاربوا وهم ما زالوا من القوة بمكان.
ثم يقول له: "وأقم بمن معك كل جمعة (كل أسبوع) يوماً وليلةً؛ حتى تكون لكم راحة تجمعون فيها أنفسكم، وتلمون أسلحتكم وأمتعتكم".
ثم تأتي هذه الوصية المهمة التي تُذكَر للمسلمين، وتدل على حسن معاملتهم للغير، يقول عمر رضي الله عنه:
"ونَحِّ (أي أَبعِدْ) منازلهم عن قرى أهل الصلح وأهل الذمة". أي: لا تجعل أماكن نزولك وراحة جيشك بجوار قرى أهل الصلح وأهل الذمة.
"فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا ترزأ أحداً من أهلها شيئاً؛ فإن لهم حرمة ابتُلِيتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فَوَفُّوا لهم، ولا تنتصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح".
هنا يظهر لنا حرص الفاروق عمر رضي الله عنه على عدم الظلم لأهل الصلح وأهل الذمة ممن قد يمر عليهم الجيش المسلم في مسيره، وإن اضطُرَّ لدخول هذه القرى لأي سببٍ، فلا يُدخِل إلا من يثق بأخلاقه، وألا يؤذي أحداً من أهل هذه القرى، ويأمر بحفظ حرمتهم والوفاء بعهدهم وعدم ظلمهم.
وينتقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى جانب مهم من الجوانب الحربية وهو جانب المخابرات العسكرية، فيوضح الدور الذي تقوم به، ومهمته، وكيفية اختيار أفرادها، يقول رضي الله عنه:
"وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأزجِ العيون بينك وبينهم، ولا يخفى عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئنُّ إلى نصحه وصدقه. وليكن منك عند دنوِّك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم، فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع عوراتهم (أي مخابئهم وتحركاتهم)، وانتقِ للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخيَّر لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدواً كان أول من تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد، والصبر على الجِلاد. ولا تخصَّ أحداً بهوى فيضيع من أمرك ورأيك، ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجهٍ تتخوف فيه نكاية أو ضيعة. فإذا عاينت عدُوَّك فاضْمُم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع مكيدتك وقوتك كلها، ثم لا تعاجلهم المناجزة حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، ثم أزج حراسك على عسكرك، وتحفظ من البيات جهدك. ولا تُؤتى بأسير ليس له عهد إلا قطعت رقبته؛ لترهب به عدو الله وعدوك، والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم والله المستعان ".
ويظهر هنا التأكيد على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، واعتبار الغرض من جمع المعلومات عن العدو ليس التمكن من محاربته، بقدر ما هو التحرز من استكراه الطرف الثاني للمسلمين على القتال، ولذا يجب على المسلمين الكف بعد الأخذ بالأسباب، والتأهب ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً مع أخذ الحيطة والحذر البالغين.
الخلاصة
يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[سورة الصف، آية:9]، ويقول تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}[سورة غافر، آية: 51].
هذا النصر الذي ذكره الله تعالى استحقه المسلمون الفاتحون الذين كان هدفهم الأول نصرة الدين.
فقد كان الهدف الرفيع والمقصد السامي لحركة الفتوحات التي قادها الصديق - كما يقول الصلابي - نشر دين الله تعالى بين الناس، وإزاحة الطواغيت من على رقاب الناس، وكان الصديق والمسلمون معه على يقين بما أخبر الله ورسوله من النصر والتمكين، وهذا اليقين من أخلاق جيل النصر.
ولأن سندهم الأول وسلاحهم الأمضى هي التقوى والعقيدة الصحيحة، فقد استطاع المسلمون الفاتحون أن يدحروا أقوى الجيوش ويسقطون أقوى الدول في زمانهم.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــ
المصادر
- (من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم)، علي بن نايف الشحود.
- (أبو بكر الصديق)، محمد رضا.
- (أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره)، د. علي محمد الصَّلاَّبي.
- (أمير المؤمنين عمر بن الخطاب)، د. علي محمد الصَّلاَّبي.
- موقع (قصة الإسلام).