تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: مشاهد وصور من منهج الصحابة في الفتوحات الإسلامية

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي مشاهد وصور من منهج الصحابة في الفتوحات الإسلامية

    مشاهد وصور من منهج الصحابة في الفتوحات الإسلامية

    أحمد الشجاع


    انطلقت الفتوحات الإسلامية - بعد وفاة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من أرضية إيمانية صلبة؛ فالمجتمع الإسلامي في الجزيرة العربية أصبح متماسكاً ومرتبطاً بدينه بعد أن تم القضاء على فتنة الردة.
    وتأهب الصحابة لنشر نور الإسلام في أصقاع الأرض؛ يخرجون الناس من الظلمات إلى النور ومن الظلال إلى الهدى.
    وقد حاول المستشرقون وأذنابهم وأعداء الإسلام، أن يجردوا الفتوحات الإسلامية من دوافعها الدعوية، وأهدافها الربانية، ومقاصدها السامية وألصقوا بحركة الفتوحات تهم باطلة لا تقوم أمام الدليل والبرهان والحجة.
    ولهذا سيتحدث التقرير عن منهج الصحابة في بعض فتوحاتهم العظيمة التي جرت في العراق كنموذج يحتذى به ويسترشد بسيرته؛ فالصحابة خير من فقه دين الإسلام بعد رسول الله.. فهم القدوة الصالحة الخالصة لدين الله.
    عتاب وإصلاح
    لما أيقن خالد من انهزام العدو في العراق اشتاق إلى زيارة مكة، وإلى تأدية فريضة الحج متخفياً من غير أن يستأذن أبا بكر، فأمر جيشه بالعودة إلى الحيرة، وتظاهر بأنه سائر في مؤخرة الجيش فبدأ رحلته إلى مكة ومعه عدة من أصحابه لخمس بقين من ذي القعدة، ولم يكن معه دليل فاخترق الصحراء مسرعاً رغما عن صعوبة الطريق.
    ولما أدى فريضة الحج عاد إلى الحيرة في أوائل فصل الربيع، فكانت غيبته على الجند يسيرة، فما وصلت إلى الحيرة مؤخرة الجيش حتى وافاهم خالد مع صاحب الساقة فقدما معاً وخالد وأصحابه محلقون.
    وقد كان تكتمه شديداً حتى إنهم ظنوا أنه كان في هذه المدة بمنطقة الفراض، ولم يعلم أبو بكر بحج خالد مع أنه كان في الحج أيضاً، غير أنه بعد قليل بلغه الخبر فاستاء جداً، وعتب عليه، وكانت عقوبته أن صرفه إلى الشام ليمد جموع المسلمين باليرموك، فأرسل إليه كتاباً جاء فيه:
    "سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك فإنهم قد شجوا وأشجوا، وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجى من الناس نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والخطوة، فأتمم يتمم الله عليك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل؛ فإن الله له المن وهو ولي الجزاء".
    ويصف الدكتور الصلابي هذا الخطاب من الخليفة الحكيم بأنه يصور مدى حرص الصديق على القواد الناجحين فيمدهم بالمشورة والنصائح التي تأخذ بيدهم إلى الفوز والتمكين بفضل الله:
    أ - يأمر الصديق سيف الله خالداً أن يترك العراق ويتوجه إلى الشام لعل الله يفتح على يديه هذا الموقع.
    ب - ينصحه ألا يعود في مثل ما حدث في حجه بدون إذن من الخليفة.
    جـ - يأمره أن يسدد ويقارب ويجتهد مخلصاً النية لله وحده.
    هـ - يحذره من العجب بالنفس والزهو والفخر؛ فذلك حظ النفس الذي يفسد العمل على العامل ويرده في وجهه، كما يحذره أن يدل ويمن على الله بالعمل الذي يعمله فإن الله هو المان به إذ التوفيق بيده سبحانه.
    وجاء في خطاب الصديق إلى خالد: دع العراق، وأخلف فيه أهله الذي قدمت عليهم، ثم امضي مخففاً في أهل قوة من أصحابنا الذين قدموا معك العراق من اليمامة، وصحبوك في الطريق وقدموا عليك من الحجاز، ثم تأتي الشام، فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين، وإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة، والسلام عليك ورحمة الله.
    وكان قد ظهرت في معارك العراق مقدرة الجيوش الإسلامية على تطبيق مبادئ الحرب من مباغتة وصد الهجوم وتثبيت الأعداء، وحشد القوة، وإدامة المعنويات، وجمع المعلومات ورسم الخطط وتنفيذها بكل قوة ودقة واحتياط منقطع النظير؛ فهو لم يذهب إلى الشام لمجاهدة الروم إلا بعد خبرة واسعة في فتوحات العراق.
    وكان المرشح للبقاء على جيوش العراق بعد سفر خالد المثنى بن حارثة الشيباني لخبرته الواسعة بأرض العراق، ومهارته الفائقة في حرب الفرس. ويظهر للباحث أن الخطط التي وضعها خالد في حروب العراق كانت تعتمد على الله، ثم على جمع المعلومات الدقيقة التي تدل على نشاط مخابراته واستكشافاته في الميدان، والذي يبدو أن هذه المخابرات قد قام بتنظيمها القائد الفذ المثنى بن حارثة الشيباني؛ ليس فقط لألمعيته وقدرته الفائقة على التنظيم، وإنما لمعايشته للمنطقة، فهو ينتمي إلى بني شيبان من بكر بن وائل الذين كانت منازلهم بتخوم العراق وحوض الفرات التي تمتد شمالاً إلى (هيت) فكانوا بحكم مساكنهم واتصالاتهم، مؤهلين لأن يكونوا عيوناً (مخابرات).
    فما وجدنا تحركاً لجيش من جيوش الفرس إلا وكان خبر ذلك التحرك منذ بدئه على لسان (المثنى) في الوقت المناسب، وما من شاردة ولا واردة تحدث في بلاط الفرس إلا وكان (المثنى) على علم بها في حينها.
    وتهيأ خالد للسير إلى الشام، وقسم خالد الجند نصفين: نصفاً يسير به إلى الشام ونصفاً للمثنى، ولكنه جعل الصحابة جميعاً من نصيبه، فقال له المثنى: والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة، وإبقاء النصف، فو الله ما أرجو النصر إلا بهم، فأنت تعريني منهم.
    وكان خطاب الصديق قد وصل إلى خالد قبل سفره يأمره فيه بمن يأخذ من الجند، ومن يدعهم للمثنى، قال: يا خالد لا تأخذ مجّداً إلا خلفت لهم مُجّداً، فإذا فتح الله عليك فارددهم إلى العراق وأنت معهم، ثم أنت على عملك.
    فما زال خالد يسترضي المثنى ويعوضه عن الصحابة بمقاتلين من سادة أقوامهم من أهل البأس، وممن عرفوا بالشجاعة والصبر، وشدة المراس، فرضي المثنى آخر الأمر.
    سار خالد من الحيرة في العراق، وقد استخلف المثنى به حارثة الشيباني على جند العراق، وسار هو إلى الشام، وكتب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف والعصمة في دار الدنيا من كل سوء، وقد أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالمسير إلى الشام وبالقيام على جندها والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك قط ولا أردته إذ وليته، فأنت على حالك التي كنت عليها لا نعصيك ولا نخالفك ولا نقطع دونك أمراً، فأنت سيد المسلمين، لا ننكر فضلك، ولا نستغني عن رأيك تمم الله بنا وبك من إحسان ورحمنا وإياك من صلي النار، والسلام عليك ورحمة الله.
    قيادة المثنى بن حارثة
    بعد غياب خالد بن الوليد ومجموعة من قادة الجيش الكبار عن العراق وجد المثنى بن حارثة نفسه في مواجهة الجيوش الفارسية، فبدأ على الفور في تنظيم الجيوش الإسلامية، وكان خالد يتخذ الحيرة مقرًّا له، وكذا اتخذها المثنى مقرًّا له، وكان المثنى بن حارثة قائداً لمقدمة الجيش الإسلامي الموجودة بالقرب من المدائن، فوضع مكانه المُعَنَّى بن حارثة أخاه في أقرب نقطة للجيش الفارسي؛ وهذا أمر له معناه ومغزاه، فإن المُعَنَّى بن حارثة - أخا المُثَنَّى - يعلم عن أرض فارس ما لا يعلمه غيره من المسلمين؛ فهو أحق الناس بالوجود في هذا المكان القريب جدّاً من الفرس، وجعل مكان ضِرَار بن الأَزْوَر - وكان قد ذهب مع خالد بن الوليد - عتيبةَ بن النهاس، ومكان ضرار بن الخطاب وضع مسعود بن حارثة الأخ الثاني للمثنى بن حارثة.
    وفي الجنوب وعلى الحامية الجنوبية التي تحمي حصن الأُبلّة والحصيد ظَلَّ سويد بن مقرن قائداً لهذه الحامية، كما كان على عهد خالد بن الوليد، وكان هذا في أواخر صفر سنة 13هـ.
    وبدأ المثنى بن حارثة ينتظر الأخبار والأحداث، خاصة بعد أن علم أهل فارس بغياب نصف الجيش الإسلامي، وبقاء نصف الجيش فقط بقيادة المثنى بن حارثة.
    في هذه الأثناء في المدائن فقد قُتِل منذ فترة قصيرة شيرويه كسرى فارس، وظل أهل فارس من دون كسرى يحكمهم، وكانت فتنة عظيمة في البلاط الملكي الفارسي، فتولى الحكم كسرى آخر كان اسمه شهر براز. ومعنى شهر براز بالفارسية خنزير الدولة. وأول ما فعله هذا الخنزير بعد أن تولَّى الحكم أن جهَّز جيشاً لملاقاة القوة الموجودة للمسلمين في الحيرة، فجهَّز جيشاً من عشرة آلاف مقاتل، وجعل مع هذا الجيش فيلاً، وكان الفيل أداة من أدوات الحرب عند الفرس لا يعرفها العرب، ولم يمر على المسلمين موقعة استُخدِم فيها الفيل إلا موقعة ذات السلاسل وقد أُسِر فيها الفيل، وهذه هي الموقعة الثانية التي يرسل فيها الفرس فيلاً مع الجيش، وكان على رأس الجيش الفارسي قائد يُسمَّى هرمز جاذويه. وأرسل شهر براز رسالة إلى المثنى بن حارثة يريد أن يَفُتَّ في عَضُدِه، مستخدماً سلاح الحرب النفسية الذي يستخدمه المسلمون معهم، ويقول له: إنما أرسل لك جيشاً من وخش أهل فارس (أي من رعاعهم)، إنما هم رعاة الخنازير والدجاج. أي أنه غير مهتم بأمره.
    وعندما وصلت الرسالة إلى المثنى ردّ عليه برسالة فيها: "من المثنى بن حارثة إلى شهر براز كسرى فارس، الرأي عندي أنك إما باغٍ وأشد الناس عقاباً عند الله البغاة، وإما كاذب (في قوله أنه أرسل رعاة الدواجن والخنازير)، وشر الناس كذباً عند الله وعند الناس الملوك، والرأي عندي أنه إن كانت تلك الحقيقة فإنما اضْطُرِرْتم إليه (أي من كثرة الهزائم اضطررتم إلى أن يكون جيشكم من هؤلاء)، فالحمد لله الذي ردَّ كيدكم إلى رعاة الخنازير والدجاج". فلما تلقى شهر براز الرسالة حدث عكس ما كان يريد، حيث انهزم الفرس نفسيّاً، وبدءوا يقولون لشهر براز: جرّأْت علينا عَدُوَّنا، إذا كتبت بعد ذلك فاسْتَشِرْ.
    موقعة (بابل)
    وبدأ الجيش الفارسي يتحرك من المدائن في اتجاه المثنى بن حارثة، وقد استفاد المثنى بن حارثة من فترة وجود خالد بن الوليد وتعلَّم منه كثيراً، فلم ينتظر في الحيرة حتى يأتيه جيش (هرمز جاذويه)، ولكنه أسرع ليقابله في بابل، وهي منطقة قريبة جدّاً من المدائن. وكان تحرّك المثنى إلى بابل له مغزى آخر، فقد كانت هذه المنطقة تُسمى بانِقيا وباروسما، وكانت قد صالحت المسلمين على دفع مليوني درهم في كل سنة، على أن يوفر المسلمون لهم الحماية ممن يعتدي عليهم سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فكان لا بُدَّ للمثنى بن حارثة أن يقاتل في هذا المكان حتى يحمي هذه المنطقة التي تدفع الجزية للمسلمين.
    وقد وصل المثنى بن حارثة بجيشه إلى هذه المنطقة قبل أن يصلها هرمز جاذويه، وانتظر الجيش الفارسي حتى جاء وفي مقدمته الفيل.
    وكانت الحرب في هذه المعركة سجالاً، فقد كان الجيشان متقاربين في القوة؛ تسعة آلاف من المسلمين وعشرة آلاف من الفرس، ومع ذلك كان الجيش الفارسي - في البداية - له بعض الغلبة على الجيش المسلم بسبب وجود الفيل الذي كان يتقدم داخل صفوف المسلمين؛ فيحدث نوعاً من الارتباك، ولا أحد يستطيع أن يقف أمامه أو يتعامل معه، وعندما رأى المثنى بن حارثة ذلك انتدب من المسلمين فرقة للتطوع لقتل هذا الفيل، وخرجت معه فرقة من عظماء المسلمين وتقدّموا ناحية الفيل، ومن خلف ظهره قطعوا الأحزمة التي يجلس عليها من يقود الفيل، فوقع قائد الفيل وقُتِل، وكان المثنى قد سأل عن مقتل الفيل فقالوا: يُقْتَلُ من خرطومه. فقتلوه، وبعد مقتل الفيل بدأت الجيوش الفارسية تتقهقر وتُهزَم، وانتصر المسلمون في موقعة بابل التي كانت في ربيع الأول سنة 13هـ، وذلك بعد أقل من 25 يوماً من غياب خالد بن الوليد، فكان ذلك اطمئناناً لنفوس الجند أن النصر يأتي من عند الله، وليس من عند أشخاص بعينهم، ومتى رضي الله تعالى عن فرقة، فسوف يتم لها النصر، حتى وإن غاب عنها خالد بن الوليد.
    وقد استفاد المثنى من خالد بن الوليد كثيراً، فأرسل في إثر الجيش المنهزم - بعدما فرَّ منهم الكثير - بعض الفرق التي تطارد الفارِّين، ووصلت هذه الفرق حتى مشارف المدائن؛ وذلك يحول بين تجمع الجيش وهجومه مرة أخرى على المسلمين، فالمسافة بين بابل والمدائن تقرب من 72 كم، ومن المدائن إلى الحيرة حوالي 150 كم، فتكون بابل أقرب إلى المدائن من الحيرة.

    فوضى في فارس
    حفل الوضع في فارس في هذه الفترة بالفتن العظيمة والقلاقل؛ فقد قُتِلَ (شهر براز) ولم يمكث على كرسي الحكم إلا أربعين يوماً فقط، حيث قتله الحرس الخاص به، وتحيَّر الفرس في اختيار كسرى جديد، فلا بُدَّ أن يكون الحاكم من العائلة المالكة (آل ساسان)، حتى وإن كان صغيراً، وإن لم يوجد فامرأة، وقد تولَّى الحكم بشكل مؤقت بعد شهر براز امرأة تُسمَّى (آذرمدخت)، وكانت ابنة لأحد الأكاسرة السابقين، وقد تولَّت الحكم لفترة قصيرة، ثم عثروا على رجل يُسمَّى (سابور)، وكان ابناً لأحد الأكاسرة السابقين، ولكنه من جارية فتولَّى الحكم بعد هذه المرأة، وكانت الأمهات يخبئن أبناءهنَّ لكي لا يكونوا من الأكاسرة؛ وذلك لكثرة الفتن، فقد رأيْنَ قتل أكثر من ثلاثة من الأكاسرة في فترة قصيرة، وعندما عثروا على هذا الشاب تم تعيينه على رأس البلاط الفارسي فصار كسرى، ولكن لصغر سنه تم تعيين أحد الولاة عليه حتى يستوعب أمور الحكم جيداً.
    وطلب سابور من وليه أن يزوجه من آذرمدخت، ولكنها قالت: كيف أتزوج من ابن جارية، حتى وإن كان كسرى فارس؟، ولما أصر الولي وسابور على رأيهما دبَّرت لهما مكيدة وقتلتهما، وتولَّت هي الحكم.
    وكان الولي الذي قُتِل يُسمَّى (فخَّاذ)، فلما علم ابنه بالأمر وكان اسمه (رستم)، وقد كان في خراسان وهي منطقة بعيدة عن المدائن، انطلق بجيشه نحو المدائن وأحدث انقلاباً عظيماً؛ حيث قتل آذرمدخت وحرسها وكل جيشها، ولما لم يكن من حقِّه أن يتولَّى الحكم؛ لأنه ليس من العائلة المالكة، فقد ساعد على تولِّي بوران بنت كسرى الحكم، وكانت امرأةً ذات حكمة، ويرجعون إليها في الأمور الصعبة، فتولَّت الحكم وقالت لرستم: أنت على رأس الجيش من الآن.
    وكانت المخابرات الإسلامية تنقل هذه الأخبار بدقة إلى المثنى بن حارثة، فقد علم بمقتل الأكاسرة واحداً بعد الآخر، وعلم أيضاً بتولّي بوران بنت كسرى الحكم، وأنها ولَّت رستم - القائد الفارسي المعروف جيداً - قيادة الجيش الفارسي، وقد علم المثنى أن قوة المسلمين الموجودة معه لن تستطيع أن تقف أمام قوة الفرس، وجيوشهم الجرارة بعد أن تولَّى رستم قيادة الجيش.
    كانت حدود الفرس في تلك الآونة تمتد حتى الصين، وكانت المدائن العاصمة، وكانت الصين تدفع الجزية للفرس اتقاءً لشرهم.
    وفاة الخليفة الصديق
    وقرر المثنى بن حارثة أن يترك العراق ويذهب هو بنفسه إلى أبي بكر الصديق ليُطلِعه على الموقف؛ حتى يمدَّه ببعض المدد، ويعرض عليه أيضاً أن يستعين بمن قد ارتدوا ورجعوا إلى الإسلام، وكانوا - إلى هذا الوقت - لم يشاركوا مع الجيوش الإسلامية بأمر أبي بكر.
    وبالفعل ترك المثنى جيشه بعد أن عيَّن عليه بشير بن الخصاصية، وكان أحد صحابة النبي، وكان خالد بن الوليد يريد أن يأخذه معه إلى الشام، ولكنَّ المثنَّى أَصَرَّ على أن يُبْقِيَ له خالد بعض أصحاب النبي، وكان هذا الرجل ممن بقوا معه.
    واتجه المثنى بن حارثة إلى المدينة لمقابلة أبي بكر الصديق، وعندما وصل المثنى إلى المدينة وجد أبا بكر في مرض موته، وكان في غيبوبة تامة، ومكث المثنى فترة حتى صحا أبو بكر صحوة قابله فيها، وعرض عليه موقف جيشه وما يريده، فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب وقال: عَلَيَّ بعمر.
    ثم قال له: اسمع يا عمر ما أقول لك ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا (وكان يوم 21 من جمادى الآخرة سنة 13هـ)، فإن أنا مِتُّ فلا تُمسِينَّ حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تُصبِحَنَّ حتى تندب الناس مع المثنى، ولا تَشغلنَّكم مصيبة - وإن عَظُمَتْ - عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتَني مُتَوفَّى رسول الله وما صنعتُ ولم يُصَبِ الخلق بمثله، وبالله لو أنِّي أَنِي (أي أتباطأ) عن أمر الله وأمر رسوله، لخذلنا ولعاقبنا فاضطرمت المدينة ناراً، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فهم أهله وولاة أمره وحدّه، وأهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.
    فكانت هذه هي وصية أبي بكر في اللحظات الأخيرة قبل موته، ونلاحظ فيها حرصه الشديد على استمرارية الجهاد في سبيل الله، مهما عظمت المصائب وكثرت الخطوب.
    وفي الوصية الأخيرة شيئٌ مهمٌّ في قول الصديق: "وإن فتح الله على أمراء الشام، فاردد أصحاب خالد إلى العراق". لم يقل: فاردد خالداً إلى العراق؛ لأنه يعلم أن الأمور السياسية تحتاج إلى توافق بين القائد العام والجند الذين تحت إمرته، وكان أبو بكر يعلم عدم وجود هذا التوافق بين عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد رضي الله عنهما.
    وتُوُفِّيَ أبو بكر الصديق في هذه الليلة، وكان في فترة خلافته القصيرة قد قام بحروب الردة، وأَنفذَ بعث أسامة بن زيد إلى الروم، وقام بالفتوحات الإسلامية في فارس والروم، وجمع القرآن الكريم، وثبَّت دعائم الأمة الإسلامية في ذلك الوقت، فرضي الله عنه وأرضاه.
    بعد أن تولَّى عمر بن الخطاب إمارة المسلمين بعد موت أبي بكر ذهب فدفنه بعد العشاء بجوار رسول الله، ثم نادى في منتصف الليل: "الصلاةُ جامعة"، فَجَمَعَ أهلَ المدينة وندب الناس للخروج مع المثنى.
    ولم يستجب أحد لنداء عمر بن الخطاب، وكان هذا شيئاً عجيباً وغريباً على أهل المدينة ألا يستجيبوا لنداء الجهاد في سبيل الله، ولم يكن عمر بن الخطاب متوقعاً لهذا الأمر على الإطلاق، فانتظر حتى صلاة الفجر وأَمَّ الناس في صلاة الفجر، وبايعه الناس على الإمارة، وأصبح هو أمير المؤمنين بعد هذه المبايعة من الناس، فندب الناس للقيام بفتح فارس، ولم يستجب أحدٌ أيضاً، وظل يدعو الناس بعد كل صلاة مدة ثلاثة أيَّام، ولم يستجب لندائه أحد.
    ويفسِّر الدكتور السرجاني به هذا الموقف من المسلمين في عدة أمور:
    أولاً: لم يكن موجودٌ بالمدينة خمسين ألفًاً من خيرة أهلها، فقد خرج ثلاثون ألفًاً لحرب الروم، وعشرون ألفًاً لحرب العراق، ومن كان موجوداً أقل درجة ممن ذهب للجهاد، خاصة أن من خرج إنما خرج تطوعاً ولم يخرج مجبراً، فعندما أرسل أبو بكر خالد بن الوليد قال له: "ولا تكره أحداً على القتال معك"؛ ولأجل هذا فقد تركه بعض الناس قبل أن يصل إلى العراق.
    ثانياً: ربما لم يستجب الناس حزناً لوفاة الصدّيق، فقد كانت المصيبة عظيمة، وكان عمر يبكي عليه ويقول: يا خليفة رسول الله، لقد أتعبت من خلفك، والله لا يشق أحد غبارك. ويبكي علي بن أبي طالب أيضاً كثيراً على وفاة أبي بكر، وتنوح النساء بصوت مرتفع في المدينة، وقد أمرهن عمر بألا ينحن فلم ينتهين، حتى قال لهن: إن الميت يُعَذَّبُ ببكاء أهله عليه؛ فعندها كَفَّ النساء عن النواح.
    ثالثاً: كان تولِّي عمر بن الخطاب - مع شدته - قد أدخل المسلمين في حالة ترقب وخوف، ولم يعرف المسلمون ما سيفعل، حتى إن طلحة بن عبيد الله دخل على أبي بكر الصديق وقال له: يا خليفة رسول الله، استخلفت عمر على المؤمنين وأنت ملاقٍ ربك، وأنت تعلم ما به من الشدة وأنت معه، فكيف إذا خلَّيْتَ بينه وبينهم؟.
    وكان أبو بكر مضطجعاً، فقال: أجلسوني. فأجلسوه، فيمسك بطلحة ويقول له: أباللهِ تخوفني، واللهِ إن سألني ربي عن عمر لقلت له: استخلفتُ خير أهلك على أهلك.
    فهذه الأمور جعلت الناس تتردد في أمر الخروج مع المثنى بن حارثة.. وكلما ندب عمر بن الخطاب الناس لم يقمْ أحد، فقام المثنى بن حارثة في اليوم الرابع وخطب خطبة عظيمة في أهل المدينة وما حولها - حيث جاء الناس لمبايعة عمر بن الخطاب على الإمارة - وقال لهم: يا أهل الإسلام مما تخافون؟ لقد ملَّكنا الله رقاب أهل فارس، والله لقد تبحبحنا في ريفهم، وجرَّأنا الله عليهم، وكانت لنا الغلبة عليهم.
    ومع هذا لم يقم أحد؛ فقام عمر بن الخطاب وقال: أين المهاجرون لموعود الله؟ لقد وعدكم الله أن يورثكم الأرض، فأين المهاجرون إلى ميراث الأرض؟، أين عباد الله الصالحون؟، وبكى عمر، فصاح رجل من المسلمين: أنا لها.
    رجلٌ واحد بعد كل هذه الصيحات المؤمنة من عمر، كان هذا الرجل هو أبو عبيد بن مسعود الثقفي، من قبيلة ثقيف.. وبعد أن قام هذا الرجل قام رجل آخر يُسمَّى سعد بن عبيد، وقال: أنا لها يا عمر. وكان من الأنصار ومن صحابة رسول الله، ثم قام رجل ثالث وهو سليط بن قيس وهو من الصحابة القدامى من صحابة رسول الله، وشهد كل المشاهد مع رسول الله.
    وانتظر المسلمون مدة دون أن يقوم أحد غير هؤلاء الثلاثة، ثم تحركت النفوس وأوقع الله الإيمان في القلوب؛ فقام من المسلمين الكثير حتى وصل تعدادهم إلى الألف، منهم ثلاثمائة من قبيلة ثقيف، والباقي من أهل المدينة ممن شهدوا بدراً، وشهدوا المشاهد مع رسول الله.
    أبو عبيدالثقفي أمير الجيش
    بعدما قام هؤلاء الألف كانت هناك مشكلة جديدة أمام عمر بن الخطاب، وهي اختيار القائد لهؤلاء الألف من الجنود، ويشير عليه الصحابة بأن يختار رجلاً ممن له صحبة من السابقين، فقال: لا والله، أندبهم للقاء فلا يخرجون، وعندما تأتي الإمرة أضعهم. ووضع أبا عبيد بن مسعود على رأس الجيش.
    وأرسل إلى أبي عبيد بن مسعود الثقفي وقال له: والله إني وضعتك في هذا المكان لسبقِكَ، ولو سبقك سليط بن قيس أو سعد بن عبيد لجعلتهما الأمراء؛ فاستمع لرأيهما، ولا تتصرف في أي أمر من الأمور إلا بعد أن تستشير أصحاب رسول الله.. ثم يقول له: ولا تُفشِينَّ سرًّاً، فإنك مالكٌ أمرك ما دام سرُّك في داخلك. فكانت هذه هي وصية عمر بن الخطاب لأبي عبيد بن مسعود الثقفي.
    وجعل المثنى بن حارثة تابعاً لأبي عبيد بن مسعود الثقفي، وهذا الأمر لم يؤثر مطلقاً في تحركات المثنى للإسلام وفي سبيل الله، فقد كان رجلاً مؤمنًاً حقًّاً، واستجاب لرأي عمر، وذهب إليه عمر وقال له: اذهب إلى أهلك وانتظر النجدة.
    وانطلق المثنى سريعاً نحو الجيش الإسلامي في فارس، انتظاراً للجيش الذي سيأتي بقيادة أبي عبيد بن مسعود الثقفي من المدينة، ووصل المثنى مبكراً للجيش، وعندما وصل علم أن بوران بنت كسرى تجهِّز الجيوش لحرب المسلمين، وقد تولَّى رستم إمارة جميع الجيوش الفارسية، وبدأ المثنى يرتِّب القوات استعداداً لقدوم أبي عبيد بن مسعود ومن معه مدداً له، وفي هذه الأثناء يعلم المثنى - بفضل المخابرات الإسلامية الموجودة في المنطقة - أن رستم قد أرسل مجموعة كبيرة من الأمراء إلى أماكن مختلفة على حدود الجيش الإسلامي الموجود في فارس.
    وكانت هذه المنطقة على صلح مع المسلمين على أن يدفعوا الجزية، وقال لهم رستم: إن على كل أمير أن يثور في المنطقة التي هو فيها، وأول مَن يقوم بالثورة سيكون هو الأمير على جميع الأمراء؛ وذلك تشجيعاً لهم على الثورة.
    وكان ممن جهَّزهم لذلك جابان قائد الفرس في موقعة (أُلَّيْس) التي انهزم فيها الفرس، وفرَّ هو من المسلمين، فقام المثنى - وبحكمة شديدة - بالانسحاب بجيشه من هذه المنطقة كلها إلى ما بعد الحيرة منتظراً جيش أبي عبيد بن مسعود الثقفي، ولو ظل في مكانه الأول لحاصرته الجيوش، وربما تكون الهلكة لجيش المسلمين الصغير الموجود معه.
    موقعة (النمارق)
    يصل جيش عبيد بن مسعود الثقفي إلى منطقة تُسمى خِفَّان في 3 من شعبان سنة 13هـ، ونلاحظ أن أبا بكر تُوفِّي في جمادى الآخرة، ثم مرَّ شهر رجب ووصل الجيش في 3 من شعبان وهي فترة طويلة، فلم تكن جيوش خالد بن الوليد تقطع هذه المسافات في هذا الوقت الطويل، ووضع المثنى نفسه تحت إمرة أبي عبيد بن مسعود الثقفي، وبدأ أبو عبيد بن مسعود ينظم الجيوش لحرب الفرس، فكانت موقعة النمارق وأتت الجيوش الفارسية بقيادة جابان وهو أول من ثار في المنطقة وتوجه بجيشه مرة أخرى لمقابلة المسلمين بعد أن هُزم في موقعة أُلَّيْس، واتجه إليه أبو عبيد بن مسعود، والتقى الجيشان في موقعة شديدة وهي أول موقعة لأبي عبيد بن مسعود في منطقة العراق، وكانت في 7 من شعبان سنة 13هـ، وأبلى الجيش الإسلامي وقائدُه أبو عبيد بلاءً حسناً في هذه الموقعة، وتم النصر للمسلمين، وأُسِرَ جابان، ولكنه مكر بأحد المسلمين وخدعه بأنه سيعطيه كذا وكذا إذا أطلقه، ولم يكن يعرف هذا الرجل أن هذا هو (جابان) أمير فارس في الجيش فأمَّنه، وعندما علم أبو عبيد أن هذا الرجل هو جابان قال: لا نخون عهداً أعطاه أحدُ المسلمين. فأطلق سراحه وكان في يده أن يقتله.
    موقعة (الجسر)
    بعد أن انتصر المسلمون في معركة النمارق، انتصروا أيضاً في موقعة السقاطية على (نورسي)، وبعدها بخمسة أيام تقدم أبو عبيد إلى (باقسياثا) بالقرب من بابل وانتصر على الجيوش الفارسية بقيادة الجالينوس وهو من كبار قادة الفرس.
    تعجب رستم كثيراً وأصابته الحيرة والدهشة مما يحدث، إذ كيف ينتصر هؤلاء بعد غياب خالد بن الوليد ومعه نصف الجيش؟. ينتصرون على الفرس في ثلاث مواقع متتالية في تسعة أيام؛ فقال رستم: مَنْ أشدُّ الفُرْسِ على العرب؟.
    فقالوا له: بهمن جاذويه. وكان أحد كبار قادة الفرس، ولم يشترك في الحروب مع المسلمين حتى هذه اللحظة.
    فقال رستم: إذن فهو القائد.
    وبذلك أعطى رستم إمرة الجيوش الفارسية لبهمن جاذويه وأخرجه مع جيش كبير يزيد على سبعين ألف فارسي، وأرسل مع هذا الجيش أكثر من عشرة أفيال.
    توجّه الجيش الفارسي بهذه الجموع الجرارة لقتال المسلمين، وعلم أبو عبيد بذلك فتوجه بجيشه إلى منطقة في شمال الحيرة تسمى قِسّ النَّاطِف، وعسكر بجيشه في هذه المنطقة انتظاراً لقدوم جيش الفرس. وقَدِمَ الفُرسُ، ووقفوا على الجانب الآخر من نهر الفرات، فالمسلمون على الناحية الغربية، والفرس على الناحية الشرقية بقيادة بهمن جاذويه، وكان بين الشاطئين جسرٌ عائم أقامه الفرس في هذه الآونة للحرب - وكان الفرس مهرة في بناء هذه الجسور - وأرسل بهمن جاذويه رسولاً إلى الجيش الإسلامي يقول له: إما أن نعبر إليكم، وإما أن تعبروا إلينا.
    أخطاءأبي عبيد
    كان عمر بن الخطاب قد نصح أبا عبيد قبل أن يخرج إلى القتال قائلاً: لا تُفشِينَّ لك سرًّا؛ لأنك مالكٌ أمرك حتى يخرج سِرُّك من بين جنبيك، ولا تحدِثَنَّ أمراً حتى تستشير أصحاب رسول الله.
    وأوصاه خاصة بسعد بن عبيد الأنصاري وسليط بن قيس من الصحابة الكرام جميعاً، وأخطأ أبو عبيد الخطأ الأول فأخذ يناقش أصحابه ويشاورهم أمام رسول الفرس، وهذا إفشاء للسر، ولأمور التنظيم الحربي، وأخذته الحميَّة عندما وصلته الرسالة، وقال: والله لا أتركهم يعبرون ويقولون: إنا جَبُنَّا عن لقائهم. واجتمع الصحابة على عدم العبور إليهم: وقالوا له: كيف تعبر إليهم وتقطع على نفسك خط الرجعة، فيكون الفرات من خلفك؟، وقد كان المسلمون وأهل الجزيرة العربية يجيدون الحرب في الصحراء، ودائماً كان المسلمون يجعلون لأنفسهم خط رجعة في الصحراء، وإذا حدثت هزيمة يستطيع الجيش أن يرجع إلى الصحراء ولا يهلك بكامله، ولكن أبا عبيد أصرَّ على رأيه بالعبور، وذكّره أصحابه بقول عمر بن الخطاب: أنِ اسْتشر أصحاب رسول الله؛ فقال: والله لا نكون عندهم جبناء. وهذا كله يحدث أمام رسول الفرس، الذي استغل الفرصة ليثير حميَّة أبي عبيد، فقال: إنهم يقولون إنكم جبناء ولن تعبروا لنا أبداً. فقال أبو عبيد: إذن نعبر إليهم. وسمع الجنود وأطاعوا وبدأ الجيش الإسلامي يعبر هذا الجسر الضيِّق للوصول للناحية الأخرى التي يوجد بها الجيش الفارسي.
    ونلاحظ في هذا الموقف أن الجيش الإسلامي يدخل في منطقة محصورة بين نهر يُسمى النيل - وهو نهر صغير وأحد روافد نهر الفرات - ونهر الفرات، وكلا النهرين يمتلئ بالمياه، والجيش الفارسي يغلق باقي المنطقة، فلو دخل المسلمون هذا المكان فليس أمامهم إلا القتال مع الجيش الفارسي، والفرس يدركون أهمية هذا الموقع جيداً، فأخلوا مكاناً ضيقاً ليعبر المسلمون إليهم، ويتكدس الجيش الإسلامي في منطقة صغيرة جدّاً، ويرى المثنى بن حارثة ذلك ويعيد النصيحة لأبي عبيد قائلاً له: إنما تلقي بنا إلى الهَلَكَة، ويصرُّ أبو عبيد على رأيه.
    وعبر الجيش الإسلامي بالفعل إلى هذه المنطقة، وكان مع الفُرْسِ كما ذكرنا عشرة أفيال منها الفيل الأبيض، وهو أشهر وأعظم أفيال فارس في الحرب، وتتبعه كل الفيلة إن أقدم أقدموا وإن أحجم أحجموا، وتقدمت الجيوش الفارسية يتقدمها الفيلة إلى الجيش الإسلامي المحصور بين نهري الفرات ورافده نهر النيل، وتراجعت القوات الإسلامية تدريجيًّاً أمام الأفيال، ولكن خلفهم نهرين فاضطروا للوقوف انتظاراً لهجوم الفيلة وقتالها، وكانت شجاعة المسلمين وقوتهم فائقة ودخلوا في القتال، ولكن الخيول بمجرد أن رأت الأفيال فزعت وهربت، وكانت سبباً في إعاقة إقدام المسلمين على القتال، وعادت الخيول إلى الوراء وداهمت مشاة المسلمين، ولم تفلح محاولات المسلمين لإجبار الخيول على الإقدام لعدم تمرُّسها على مواجهة الأفيال، وفي هذه اللحظة - وبعد أن أخطأ أبو عبيد في إفشاء السر أمام رسول الفرس، وأخطأ في العبور مخالفاً مشورة أصحاب رسول الله، وأخطأ باختياره هذا المكان للمعركة - كان لا بد عليه أن ينسحب بجيشه سريعاً من أرض المعركة، كما فعل خالد بن الوليد في معركة المذار عندما علم أنه سيكون محاطًا بجيش من الجنوب، انسحب سريعاً بجيشه حتى يقابل جيش الأندرزغر في الولجة.
    لكن أبا عبيد استقتل وقال: لأقاتلنَّ حتى النهاية. وإن كانت هذه شجاعة فائقة منه، فإن الحروب كما تقوم على الشجاعة لا بد أن يكون هناك حكمة في التعامل مع الحدث.
    وبدأت أفيال الفرس تهاجم المسلمين بضراوة، وأمر أبو عبيد أن يتخلَّى المسلمون عن الخيول ويحاربوا الفرس جميعاً وهم مشاة، وفقد المسلمون بذلك سلاح الخيول وأصبحوا جميعاً مشاة أمام قوات فارسية مجهزة بالخيول والأفيال، واشتد وَطِيسُ الحرب ولم يتوانَ المسلمون عن القتال، وتقدم أبو عبيد بن مسعود الثقفي وقال: دُلُّوني على مقتل الفيل. كما قال من قبل المثنى بن حارثة، فقيل له: يُقتَلُ من خرطومه، فتقدم ناحية الفيل الأبيض بمفرده، فقالوا له: يا أبا عبيد، إنما تلقي بنفسك إلى التهلكة وأنت الأمير، فقال: والله لا أتركه إما يقتلني وإما أقتله. وتوجه ناحية الفيل وقطع أحزمته التي يُحمل فوقها قائدُ الفيل، ووقع قائد الفيل وقتله أبو عبيد بن مسعود، ولكن الفيل لا يزال حيًّاً، وهو مُدَرَّب تدريباً جيداً على القتال، وأخذ أبو عبيد يقاتل هذا الفيل العظيم ويقف الفيل على قدميه الخلفيتين ويرفع قدميه الأماميتين في وجه أبي عبيد، ولكنَّ أبا عبيد لم يتوانَ عن محاربته ومحاولة قتله، وعندما شَعَر بصعوبة الأمر أوصى من حوله: إن أنا مِتُّ، فإمرة الجيش لفلان ثم لفلان ثم لفلان؛ ويعدد أسماء من يخلفونه في قيادة الجيش. وهذا أيضاً من أخطاء أبي عبيد؛ لأن أمير الجيش يجب أن يحافظ على نفسه، ليس حبًّاً في الحياة ولكن حرصاً على جيشه وجنده في تلك الظروف، وليس الأمر شجاعة فحسب، ولأنه بمقتل الأمير تنهار معنويات الجيش، وتختل الكثير من موازينه. ومن الأخطاء أيضاً أن أبا عبيد أوصى بإمرة الجيش بعده لسبعة من ثقيف منهم ابنه وأخوه والثامن المثنى بن حارثة، وكان الأَوْلى أن يكون الأمير بعده مباشرة المثنى أو سليط بن قيس، كما أوصاه عمر بن الخطاب.

    المثنى يستعيد القيادة
    ويواصل أبو عبيد قتاله مع الفيل ويحاول قطع خرطومه، لكن الفيل يعاجله بضربة فيقع على الأرض، ويهجم عليه الفيل ويدوسه بأقدامه الأماميتين فيمزِّقهُ أشلاءً، وكان موقفًا صعباً على المسلمين حينما يرون قائدهم يُقتَل هذه القتلة البشعة.
    ويتولى إمرة الجيش بعده مباشرة أول السبعة ويحمل على الفرس ويستقتل ويقتل، وكذا الثاني والثالث وهكذا، وقد قتل في هذه المعركة ثلاثة من أبناء أبي عبيد بن مسعود الثقفي كان أحدهم أميراً على الجيش، وقُتِل كذلك أخوه الحكم بن مسعود الثقفي وكان أحد الأمراء على الجيش بعد استشهاد أبي عبيد، وتأتي الإمرة للمثنى بن حارثة والأمر في غاية الصعوبة، والفرس في شدة هجومهم على المسلمين، ويصف الأَغَرُّ العجْلِيُّ - وهو أحد صحابة النبي الذين حضروا الموقعة - فيقول: وَخَزَقَ الفرسُ المسلمين بالنشاب (الرماح)، وعضَّ المسلمين الألَمُ.
    وفي هذه اللحظة يبدأ بعض المسلمين في الفرار عن طريق الجسر إلى الناحية الأخرى من الفرات، وهذه أول مرة في فتوح فارس يفِرُّ فيها بعض المسلمين من القتال، وهذا الفرار في هذا الموقف له دليل شرعي ولا يُعَدُّ فراراً من الزحف، وقد قيل: إن الفرار من المثلين جائز، فما بالنا وجيش الفرس ستة أو سبعة أمثال جيش المسلمين. ولكن يُخطِئ أحد المسلمين خطأً جسيماً آخر، فيذهب عبد الله بن مرثد الثقفي ويقطع الجسر بسيفه، ويقول: والله لا يفِرُّ المسلمون من المعركة؛ فقاتلوا حتى تموتوا على ما مات عليه أميركم.
    ويُسقَطُ في أيدي المسلمين، ويستأنف الفُرْسُ القتال مع المسلمين، ويزداد الموقف صعوبة، ويُؤتَى بالرجل الذي قطع الجسر إلى قائد الجيش المثنى بن حارثة، فيضربه المثنى، ويقول له: ماذا فعلت بالمسلمين؟، فقال: إني أردت ألا يفرَّ أحد من المعركة. فقال: إن هذا ليس بفرار.
    انسحابمنظم
    وبدأ المثنى - وفي هدوء يُحسب له - يقود حركة الجيش المسلم المتبقي بعد الهجمات الفارسية القاسية والشديدة، ويقول لجيشه محمِّساً لهم: يا عباد الله، إما النصر وإما الجنة.
    ثم نادى على المسلمين في الناحية الأخرى أن يصلحوا الجسر ما استطاعوا، وكان مع المسلمين بعض الفرس الذين كانوا قد أسلموا وكانوا ذوي قدرة على إصلاح الجسور، فبدءوا يصلحون الجسر من جديد، وبدأ المثنى يقود إحدى العمليات الصعبة، وهي عملية انسحاب في هذا المكان الضيِّق أمام القوات الفارسية العنيفة، فأرسل إلى أشجع المسلمين واستنفرهم ولم يستكرههم، وقال: يقف أشجع المسلمين على الجسر لحمايته. فتقدَّم لحماية الجسر عاصم بن عمرو التميمي وزيد الخيل وقيس بن سليط صحابي رسول الله والمثنى بن حارثة على رأسهم، ووقف كل هؤلاء ليقوموا بحماية الجيش أثناء العبور، ويحموا الجسر لئلا يقطعه أحد من الفرس، ويقول المثنى بن حارثة للجيش: "اعبروا على هيِّنَتِكم ولا تفزعوا؛ فإنا نقف من دونكم، والله لا نزايل (لا نترك هذا المكان) حتى يعبر آخرُكم".
    ويبدأ المسلمون في الانسحاب واحداً تلوَ الآخر ويقاتلون حتى آخر لحظة، وتكسو الدماء كل شيء وتكثر جثث المسلمين ما بين قتيل وغريق في النهرين، ويكون آخر شهداء المسلمين على الجسر هو سويد بن قيس أحد صحابة النبي، وآخر من عبر الجسر هو المثنى بن حارثة، فقد ظل يقاتل حتى اللحظة الأخيرة ويرجع بظهره والفرس من أمامه، وبمجرد عبوره الجسر قطعه على الفُرسِ، ولم يستطع الفرس العبور إلى المسلمين، وعاد المسلمون أدراجهم ووصلوا إلى الشاطئ الغربي من نهر الفرات قبل غروب الشمس بقليل.
    ولم يكن الفرس يقاتلون بالليل؛ لذا تركوا المسلمين، وكانت فرصة للجيش الإسلامي لكي ينجو منسحباً إلى عمق الصحراء؛ لأنه لو ظل في مكانه لعبر إليه الجيش الفارسي في الصباح وقضى على من تبقى منه.
    في هذا الوقت كان قد فَرَّ من المسلمين ألفانِ، ومنهم من قد وصل في فراره إلى المدينة، واستُشهِد من المسلمين في هذه الموقعة أربعة آلاف شهيد، وكان قد اشترك فيها ثمانية آلاف، قُتِلَ منهم أربعة آلاف ما بين شهيد في القتال وغريق في النهر، ومن هؤلاء الآلاف الأربعة غَالِبُ أهل ثقيف، والكثير ممن شهد بدراً وأُحُداً والمشاهد مع رسول الله، وكان الأمر شديداً على المسلمين، ولولا فضل الله تعالى، ثم تولية المثنى بن حارثة الأمر ما كان لمن نجا أن ينجو من هذه المصيدة المحكمة التي أعدها الفرس للمسلمين.
    وكان المثنى كفاءة حربية منقطعة النظير، وهذه هي قيمة القيادة الصائبة، فقد كان أبو عبيد بن مسعود تملؤه الشجاعة والإيمان والإقدام، وقد كان أول من استُنفِرَ فخرج للجهاد وفي وجود الكثير من الصحابة، نفر قبلهم وأُمِّرَ على الجيش، ودخل الحروب في منتهى الشجاعة ولم تأخذه في الله لومةُ لائمٍ، وتقدم لمهاجمة الفيل وهو يعلم أنه سيُقتَل فيوصي بالإمرة لمن بعده، ولم يتوانَ عن القتال.
    ومع هذا فإمارة الجيوش ليست شجاعة وإيمان فقط، وإنما لا بد من المهارة العالية والكفاءة الحربية، حتى قال بعض الفقهاء: إذا وُجِدَ قائدان أحدهما من الإيمان بمكان ولكنه لا يدرك قيمة القيادة والإمارة، والآخر يصل إلى درجة الفسوق لكنه مسلم، ويستطيع قيادة الحروب بمهارة، فلا بأس أن يَلِيَ هذا الفاسقُ قيادة الجيش في الحروب؛ لأنه يستطيع أن ينجو بجيش المسلمين كله، والآخر ربما يؤدي بالجيش إلى الهلكة مع إيمانه وشجاعته.
    كانت موقعة الجسر في 23 من شعبان 13هـ، وكان أبو عبيد قد وصل إلى العراق في 3 من شعبان، وكانت أولى حروبه النمارق في 8 من شعبان، ثم السقاطية في 12 من شعبان، ثم باقسياثا في 17 من شعبان، ثم هذه الموقعة في 23 من شعبان، فخلال عشرين يوماً من وصول أبي عبيد بجيشه انتصر المسلمون في ثلاث معارك، وهُزموا في معركة واحدة قضت على نصف الجيش، ومن بقي فرَّ، ولم يبق مع المثنى غير ألفين من المقاتلين.
    وأرسل المثنى بالخبر إلى المدينة مع عبد الله بن زيد، وعندما وصل إلى المدينة كان عمر بن الخطاب على المنبر فَيُسِرّ إليه بالأمر نظراً لصعوبته على المسلمين، فيبكي عمر على المنبر، وكان لا بد أن يعلم المسلمون حتى يستنفر الناس للخروج مرة أخرى لمساعدة بقايا الجيش الموجودة في العراق، وبعد أن يبكي يقول: رَحِمَ الله أبا عبيد لو لم يستقتل وانسحب لكُنَّا له فئة، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل.
    وكان هذا الأمر يمثِّل للمسلمين الخزي والعار، ولم يتعودوا قبل ذلك على الفرار من أعدائهم، لكن عمر بن الخطاب يطمئنهم ويقول لهم: إنني لكم فئة، ولا يُعَدُّ هذا الأمر فراراً، وظل يحمسهم ويحفزهم، وكان معهم معاذ القارئ وكان أحد مَن فرُّوا، وكان يَؤُمُّ المسلمين في التراويح، فكان كلما قرأ آيات الفرار من الزحف يبكي وهو يصلي، فيطمئنه عمر، ويقول له: إنك لست من أهل هذه الآية.
    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: مشاهد وصور من منهج الصحابة في الفتوحات الإسلامية

    المدد الإسلامي
    قام عمر بن الخطاب بالنفير العام لكل المسلمين في الجزيرة العربية، وأرسل لكل قبيلة رسولاً أن يُخرِجوا من يستطيع منهم الحرب لقتال الفرس، وانتظر المثنى قدوم المدد الإسلامي له من المدينة، ويأتي لعمر بن الخطاب بعد أن أعلن الاستنفار العام جرير بن عبد الله وهو أحد صحابة النبي، وكان في الشام مع الجيوش الإسلامية الموجودة هناك، ولما علم بأمر موقعة الجسر أتى من فوره بعد أن استأذن قائدَه في الشام، وطلب أن يأتي بقبيلته (بجيلة) للمشاركة في حرب الفرس. وبجيلة هذه كانت إحدى قبائل العرب الموجودة في اليمن، ولما حدث انهيار سد مأرب وفرّت معظم القبائل من اليمن، سكنت كل منها في مكان، وتفرقت قبيلة بجيلة وسكن أهلها كلٌّ في مكان، فاستأذن جرير أن يجمع بجيلة وكان ذا رأي فيها، ويأذن له عمر لصعوبة الموقف، وقبل ذلك بعام رفض أبو بكر هذا الطلب من جرير، وأمره بالذهاب للقتال مع خالد.
    انطلق جرير في جميع أنحاء الجزيرة العربية يجوب القبائل مجمِّعاً قبيلته، ومحمِّساً لهم بأنه لا تُؤتى العرب وبجيلة موجودة فيهم، وظل يستثيرهم بهذا الأمر حتى جُمِع له منهم ألفان، وهو عدد كبير مقارنة بالعدد الذي خرج من المسلمين بعد استنفار عمر بن الخطاب للمسلمين ثلاثة أيام دون أن يخرج أحد إلا بعد ذلك، فقد خرج ألف فقط من المسلمين.
    وذهب جرير بالألفين من الجنود معه إلى عمر بن الخطاب، وقال لهم: أي الوجوه تحبون؟ فقالوا: الشام الشام أسلافنا.
    فيقول عمر: بل العراق العراق، لقد فتح الله على أهل الشام، وعَضَّ الألم المسلمين في العراق، فاذهبوا وانصروا إخوانكم. فوافقوا، ويبدو أنهم لم يوافقوا سريعاً؛ لأن جريراً قام فيهم خطيباً يحفزهم على القتال والذهاب إلى إخوانهم في العراق، وقال لهم: إنكم لن تُهزَموا، فإما النصر وإما الشهادة.
    ويحفِّزهم عمر بأكثر من ذلك فيقول: لبجيلة ربع الخمس من الغنائم. فيكون لهم 5 % من الغنائم إن تم النصر للمسلمين، وهذا نوع من تأليف القلوب والتحميس لهم.
    وتخرج قبيلة بجيلة إلى العراق بقيادة جرير بن عبد الله عليهم، والجميع تحت إمرة المثنى بن حارثة.
    تخرج أيضاً قبيلة كنانة وعلى رأسها غالب بن عبد الله أحد صحابة النبي القدامى، وشهد كل المشاهد مع رسول الله، وكان النبي يعتمد عليه كثيراً في العمليات الحربية التي يقوم بها، وأخرجه النبي على رأس الكثير من السرايا.
    ثم أتى من قبيلة الأزد سبعمائة، ومنهم عرفجة بن هرثمة، وكان قائداً للجيش التاسع من جيوش أبي بكر في حروب الردة.
    ووجهه عمر على رأس قبيلته إلى العراق لنصرة الجيوش الإسلامية.
    وأرسلت قبيلة تَيْم بعض أفرادها، وأمَّر عليهم عمر هلال بن علَّفة.
    وقبيلة بني عمرو وهي فرع من فروع قبيلة تميم، وأمّر عليهم عمر ربعي بن عامر وهو من أشراف العرب قبل الإسلام وبعده، ومن كبار الصحابة.
    وأتت مجموعات أخرى من قبائل كثيرة، وبدأت الجيوش الإسلامية تزداد بهذا المدد القادم إليها من المدينة وما حولها.
    ووصل تعداد هذا المدد 4000 من المقاتلين، وكان عمر قد أذن لمن ارتد وعاد إلى الإسلام أن يشارك في الحروب، فكثير من هؤلاء الآلاف الأربعة كان ممن ارتد عن الإسلام وعاد مرة أخرى.
    وكما يقول الدكتور سعد بن عبد العزيز القصيبي فإن المتابع لحركة الفتح الإسلامي يلحظ مدى تكاتف المسلمين بعضهم مع بعض وحرصهم على نصرة الآخرين، تحقيقاً لقول الرسول: [مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى]. ومن هذا المنطلق وتحقيقاً لرسالة الفتح الخالدة، لم يقتصر الفتح على إرسال الجند للقتال فحسب؛ بل اتبع ذلك بالمدد الذي جاء للعون والمساعدة لتحقيق رسالة الإسلام الخالدة في المعمورة.
    وعلم المثنى بن حارثة - وهو في مكانه منتظراً المدد الإسلامي - أن الجيوش الفارسية قد علمت أن المسلمين ما زالوا معسكرين في أماكنهم، وأن المدد قادم إليهم ولم تنتهِ الحرب كما توقعوا، فأخرجت بوران بنت كسرى جيشاً لقتال المسلمين، وأمَّرت عليه رجلاً يُسمّى مهران، وكان رستم هو الذي يدير هذه العمليات الحربية حتى إمارة بوران بنت كسرى، فيخرج هذا الجيش وفيه أكثر من سبعين ألفاً كلهم من الفرسان ومعهم ثلاثة أفيال، فهي أكبر قوة عسكرية تخرج من فارس؛ وذلك للقضاء بشكل نهائي على الجيش الإسلامي.
    معركة (البويب)
    بعد أن تجمع أربعة آلاف من أنحاء الجزيرة العربية، وجَّهَهُم عمر بن الخطاب إلى فارس، وأمَّر على كل طائفة رئيساً منها، وكانت أكبر هذه الطوائف قبيلة بجيلة وعلى رأسها الصحابي الجليل جرير بن عبد الله.
    وفي هذه الأثناء كان المثنى بن حارثة - وبعد الهزيمة الساحقة للمسلمين في موقعة الجسر- قد انسحب بقواته كلها على حدود الصحراء قرب الحفير، ولو ظل في مكانه لكان بإمكان الجيش الفارسي أن يبيده تماماً، وظل في مكان بعيد في الصحراء حتى إذا هجم الفرس يستطيع أن ينسحب بعيداً في الصحراء ويقاتلهم فيها، ولم يكن الفرس يعرفون مهارة الحرب في الصحراء كما يعرفها العرب المسلمون في الجزيرة العربية، وكان هذا تصرفاً في غاية الحكمة من المثنى.
    وكان الفيرزان - وهو أحد قادة الفرس، لكنه أقل درجة من رستم - قد قام بتمرد على رستم، وكانت له قواته الخاصة، وبعد تمرده قام الأساورة - وهم رجال الدين في فارس - بالصلح بينهما، وقالوا لهما: إن الخلاف بينكما هو الذي جرَّأ العرب علينا، وتسبب فيما تعانيه فارس من انقسام ومحن.
    واستجاب الاثنان - رستم والفيرزان - وذهبا إلى بوران بنت كسرى، وطلبا منها توجيه جيش موحَّد من جنود رستم والفيرزان لكي يقضوا على المسلمين في معركة فاصلة، ووافقت بوران على هذا الأمر، وخرج الجيشان من فارس، وكان تعداد المقاتلين ما بين الستين والسبعين ألف مقاتل وكلهم من الفرسان، ومعهم ثلاثة أفيال وعلى رأس الجيش قائد يُسمَّى مهران بن باذان، وكان أحد قادة رستم، وكان يعرف العربية جيداً ويعرفه العرب جيداً؛ فقد تربى فترة من حياته في اليمن عندما كانت مقاطعة فارسية.
    المثنى يختار مكان المعركة
    وتوجّه الجيش الفارسي الجرَّار من المدائن في طريقه إلى الحيرة، وذلك لمقابلة المثنى بن حارثة الذي يعسكر بجوار الحيرة، وعلمت المخابرات الإسلامية بهذا الأمر، واستفاد المثنى من الأخطاء السابقة ومن خبراته مع خالد بن الوليد، فقرر أن يختار هو مكان المعركة، وتوجه بجيشه إلى منطقة تُسمَّى البُوَيْب وأرسل رسالة إلى جرير بن عبد الله، ورسائل أخرى إلى أمراء القوات الإسلامية القادمة من المدينة بأن يتوجهوا إلى البُوَيب؛ لأنه قد عجل له أمر لا يستطيع معه البقاء في مكانه القريب من الحيرة، وتقدّم المثنى واختار المكان قبل أن يأتي الجيش الفارسي وعسكر في المكان، وكان المكان الذي اختاره في غرب نهر الفرات.
    فهذا النهر يفصل بين الجيش الإسلامي والجيش الفارسي القادم من المدائن، وبعد فترة جاء المدد الإسلامي وانضم إلى جيش المثنى، وجاء الجيش الفارسي، وأصبح قوام الجيش الإسلامي ثمانية آلاف، وقوام الجيش الفارسي ما بين الستين والسبعين ألفاً على الضفة الأخرى لنهر الفرات، وعلى نهر الفرات يوجد جسر، وكأن الأحداث تتكرر مرة أخرى.
    وأرسل الجيش الفارسي كالعادة رسالة إلى المثنى فيها: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم. فأجاب المثنى الفرس بأن يعبروا هم إلى المسلمين، وعاد الرسول إلى أهل فارس وأخبرهم بالأمر.
    كان المثنى قد نظَّم جيشه جيدًا.. وبدأ يحفِّز الجيش للقتال، ويمرُّ على كل قبيلة بمفردها قائلاً لأهلها: والله لا نحب أن نُؤْتَى من قِبَلِكُم اليوم، ولا أكره شيئاً لي إلا أكرهه لكم.
    ولم يذكِّر المسلمين على الإطلاق بموقعة الجسر، وذلك حتى لا يتذكروا الهزيمة في هذا الموقف الذي يحتاجون فيه إلى قوة عزيمة، وبأس شديد.
    وأمر الشعراء، فقام كل الشعراء يحمسون الناس بأشعارهم للقتال، ويذكرونهم بالله تعالى، وبموعوده الجنة أو النصر.
    رتَّب المثنى الجيش بصورة دقيقة ومنظمة للغاية، حتى قال المؤرخون: إن صفوف المقاتلين كانت كصفوف المصَلِّين..وأصب ح الجيش المسلم مهيئاً للقتال جيداً، وبدأ الجيش الفارسي يعبر الجسر الضيِّق إلى أرض قد حاصرها المسلمون من كل مكان، ويتكرر المشهد.
    فعندما يعبر الفرس يكونون شرق نهر الفرات، وفي غربهم البحيرة وفي شمالهم نهر البُوَيب، والجيش الإسلامي في المنطقة يحصر المنطقة بكاملها، وتدخل القوات الفارسية وهم ما بين الستين والسبعين ألفاً في هذه المنطقة الضيقة، ويفتقد جيش الفرس عنصر الكثرة؛ لأن المساحة التي تركها المسلمون للفرس ضيقة، ويقف جيشهم بكامله صفوفاً خلف بعضهم، ويقابل صفهم الأول فقط صفَّ المسلمين الأول، ولا يستطيع أحد الدخول في المعركة غير الصف الأول من كلا الجيشين، فلا قيمة لعدد الجيش إذن، وإنما يُبْنى النصر أو الهزيمة على مدى قوة الصف المحارب من كلا الفريقين، وإن كان على المسلمين أن يحاربوا وقتًا طويلاً نظراً لكثرة الجيش الفارسي، وكان هذا اختياراً موفقاً من المثنى، وتعويضاً لما حدث في معركة الجسر من اختيار سيئ لأرض المعركة.
    كانت فرسان الجيش الإسلامي في المقدمة، وفي مقدمة الفرس ثلاثة أفيال، وأوصى المثنى جنده بالصبر في القتال، وبالفعل صبروا كثيراً، ونظراً للتدافع الشديد من قبل الفرس بدأ الفرس يهجمون على ميمنة الجيش الإسلامي بقيادة بشير بن الخصاصية، وكان المثنى - وهو في المقدمة - قد رأى اعوجاجاً في صف البشير، فأشار إلى أحد الرسل أن يذهب إليهم ويقول لهم: الأمير يُقرِئُكُم السلام، ويقول لكم: لا تفضحوا المسلمين اليوم.
    واعتدلت هذه الصفوف، ونظروا إلى المثنى فوجدوه يضحك، فازدادت معنوياتهم كثيراً، وهكذا كان المثنى يقود جيشه.
    وفكر المثنى بعد أن رأى صفوف الفرس الكثيرة متلاحمة تلاحماً قويّاً، ويصعب السيطرة عليها وهي بهذا الوضع، فقرر أن يفرقها لينتصر عليها، فنادى على جرير بن عبد الله وقبيلته بجيلة وتقدمها هو (المثنى)، وبدأ يضاعف الضربات على وسط الجيش الفارسي، واستطاع الجيش الإسلامي بالفعل أن يفصل الجيش الفارسي إلى جزأَيْن: أحدهما على اليمين والآخر على اليسار، وكلا الجزأين يفتقد الاتصال بالآخر، وازداد ضغط القوات الإسلامية حتى فُصِلَ الجيش الفارسي عن بعضه تماماً، ووفَّق الله جرير بن عبد الله البجلي فقتل مهران بن باذان قائد الفرس، وكان لقتله أثر كبيرٌ على الفرس، حتى إن المسلمين اختلفوا بعد المعركة فيمن قتله، فقال جرير بن عبد الله: والله أنا قتلته، وقال منذر بن حسان: والله أنا قتلته. لكن معظم الأقوال أن جريراً هو الذي قتله.
    وبدأت قوى الجيش الفارسي تنهار أمام الضغط الإسلامي على جزأي الجيش المنقسم، وهذا كله يحدث دون أن تشترك المجموعة الاحتياطية بقيادة مذعور بن عدي؛ حتى تحمي ظهر المسلمين من أي التفاف ربما يحدث من الجيش الفارسي حول الجيش الإسلامي.
    بعد هذا القتل في الجيش الفارسي بدأ الفرس يفكرون في الهرب، وذهب المثنى بنفسه وقطع الجسر على الفرس الذين يريدون الهروب، وانحصر الفرس في هذا المكان وليس لهم إلا أن يقاتلوا، وبدأ المسلمون في معركة تصفية مع الجيش الفارسي.
    الاعتراف بالخطأ
    ومع أن قطع المثنى للجسر كان أحد أسباب النصر للمسلمين والهزيمة للفرس إلا أن المثنى حزن لهذا الأمر؛ لأنه قال بأنه لا يجب أن يُكْرَه أحدٌ على القتال، وكان يجب ألاّ يُقطع خط الرجعة على الفرس، بل كان يجب مطاردة فلولهم الهاربة، وإحداث الرعب في مَن بقي منهم؛ وذلك لأن من حُصِرَ منهم ولا يستطيع الفرار ليس أمامه إلا الموت أو الانتصار على المسلمين، وهو وإن قُتِلَ فلا شك أنه قبل أن يُقتَل سيصيب من الجيش الإسلامي. ومن هنا نَدِم المثنى على قطعه للجسر، وأوصى جيشه بعدم تكرار هذا الأمر في المعارك الأخرى.
    فمع كون المثنى هو القائد إلا أنه عندما ظن أنه أخطأ جمع جيشه، وعلَّمه الصواب معترفًا بخطئه، غير متعالٍ على جنده.
    لم يكتفِ المثنى بما تم، ولكنه أرسل قواته لتتبع الفارِّين، ولفتح الأراضي التي كانوا قد تركوها منذ فترة قصيرة، وأرسل مجموعة من القواد مع جيوشهم إلى منطقة السواد ما بين دجلة والفرات، وانتشرت القوات الإسلامية تفتح هذه الأراضي التي كانت قد عاهدت المسلمين من قبل ثم نقضت عهودها معهم، واستخلف المثنى بشير بن الخصاصية على الحيرة، وظل هو في البُوَيب يدير الموقف.
    وسيطر المسلمون على المنطقة الواقعة ما بين الأبلَّة وحتى المدائن، وهي المنطقة التي كان يسيطر عليها خالد بن الوليد بعد فتحه للحيرة.
    ونجد أن المثنى بن حارثة كان يقاتل الفرس في مجالين مختلفين، ويفكر في البدء في القتال في المجال الثالث.
    المجال الأول: القتال في المواقع الضخمة حيث تكون القوات أمام القوات، مثل موقعة البُوَيب، وبابل من قبلُ.
    المجال الثاني: السرايا والفرق التي تستطيع مهاجمة الأماكن التي تخلو من القوات الفارسية الكبيرة، وتسيطر على هذه الأراضي وتحميها من القوات الفارسية الضعيفة الموجودة في تلك المناطق.
    المجال الثالث: الذي كان يفكر فيه المثنى هو ما يسمى في العصر الحديث بـ"حرب الاستنزاف"، أي القيام بغارات مفاجئة على الجيش الفارسي في عمق أراضي الفرس، دون أن يحتفظ بتلك الأراضي لقلة القوات الإسلامية، فيحدث ذلك نوعاً من الرعب والفزع عند الفرس، وتعود بعد ذلك هذه القوات ومعها بعض الغنائم والأموال.
    وفكر المثنى في الهجوم على أسواق فارس، وكانت أسواقهم من الشهرة بمكان في التاريخ، فقد كان فيها ثراء كبير، وكانت تُدِرُّ الكثير من الأموال على القصر الفارسي، وكان بهذه الأسواق بعض الحاميات لحراستها، وكانت تأتيها التجارة العظيمة من الهند والسند والصين ومن فارس أيضًا، وكانت تلك التجارة في الذهب والفضة والحرير وأشياء من هذا القبيل، لكن كان أهم ما فيها الذهب والفضة.
    قرر المثنى أن يقوم بغارة على تلك الأسواق، وقرر أن يبدأ بالغارة على سوق الخنافس وكان ذلك في شهر شوال، وكانت هذه المنطقة قد فتحها خالد لكنها ثارت على المسلمين وفقدوها، ولم يكن الجيش الإسلامي قد وصل إليها.
    وتعمية على الجيش الفارسي لم يتحرك المثنى شمالاً تجاه الخنافس، وإنما تحرك جنوباً تجاه الحيرة، ثم غرباً عند أُليِّس، ثم توغل في عمق الصحراء بعيداً عن العيون حتى وصل إلى الخنافس في أول الصبح، وهاجم الحامية الفارسية التي تحرس السوق وقتلهم، وأمر الجنود ألا يحملوا إلا ما يستطيعون العودة به، فحمل الجنود الذهب والفضة.
    وقبل أن تصل الأخبار إلى الأنبار، كان المثنى قد توجه إلى منطقة الأنبار التي كانت فيها موقعة ذات العيون، وعندما رأى أهل الأنبار قوة المسلمين استسلموا على الفور وقالوا: عهدنا مع الأمير كما هو. فقبل منهم المثنى ووضع على الأنبار حامية، وأخذ منهم دليلاً يدله على منطقة بغداد (حوالي 40 كم شمال المدائن)، ولم يكن المسلمون قد دخلوها من قبل، ومن ثَمَّ أخذ معه هذا الدليل، وكان قد استصحب لهذا الأمر دليلاً آخر أتى به معه من الحيرة، وكان يسمع من كلا الدليلين كلٍّ على حدة؛ وذلك لئلا يُخدع.
    وتحرك من الأنبار متجهاً إلى بغداد، وقبل أن يصل المثنى إلى بغداد عسكر في الطريق، وبدأ ينظم القوة الصغيرة التي معه ويرتبها، وأرسل طلائع صغيرة على كل الطرقات المؤدية إلى بغداد؛ حتى يمنع إيصال أخبار هذه الغارة إلى أحد من أهل بغداد، تماماً كما يحدث في التشويش على الرادار.
    وتناجوا بالبر والتقوى
    استراحت القوة الإسلامية في هذه المنطقة بعد الجهد الذي بذلوه في تلك الغارة، وسمع المثنى بن حارثة أحد الجنود يقول للآخر: والله ما أسرعَ الفرس في طلبنا؛ فقد توغلنا في أرض فارس، فهو يخاف من الفرس أن يتتبعوا هذه الفرقة بعد هذه الغارات، فغضب المثنى من هذا الأمر، ووقف يخطب فيهم قائلاً: تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان، انظروا إلى الأمور وقدروها ثم تكلموا.. ثم يوضح لهم المثنى حقيقة الأمر فيقول لهم:
    إنه لم يبلغ النذير مدينتهم بعد (أي لم يبلغ خبر هذه الغارة إلى المدائن)، ولو بلغهم لحالَ الرعبُ بينهم وبين طلبكم، إن للغارات روعاتٍ تنتشر عليها يوماً إلى الليل، ولو طلبكم المحامون من رأي العين، ما أدركوكم وأنتم على الجياد العِرَابِ (الخيول العربية الأصيلة)، وهم على المقاريف البطاء (الخيول المهجنة)، حتى تنتهوا إلى معسكركم وجماعتكم. ولو أدركوكم لقاتلتهم لاثنتين: التماس الأجر ورجاء النصر، فثِقوا بالله وأَحسِنوا به الظن، فقد نصركم الله في مواطن كثيرة وهم أعدُّ منكم (أي أكثر عدة). وسأخبركم عني وعن انكماشي (أي سرعتي)، والذي أريد بذلك إن خليفة رسول الله أبا بكر أوصانا أن نقلل العُرْجَة (الإقامة في أرض العدو)، ونُسرِع الكَرَّة في الغارات.
    وقد استفاد المثنى من الصديق مع أنه لم يره في حياته إلا مرتين، مرة عندما ذهب يستأذنه لقتال أهل فارس، والمرة الثانية عندما ذهب إليه ليطلب المدد لجيشه.
    في هذه الأثناء تملَّك الجيشَ الفارسيَّ الرعبُ الشديدُ؛ إذْ كيف يصل المسلمون إلى عمق الأراضي الفارسية بهذه الصورة، وبدأ قادة الفرس يلوم بعضهم بعضاً، ودبَّ الخلاف مرة أخرى بين رستم والفيرزان، واجتمع الأساورة اجتماعاً كبيراً، وقالوا لرستم والفيرزان: إن ظللتم على خلافكم هكذا لَنقتُلنَّكم، ولا يمنعنا من قتلكم إلا الهلكة، ولكن إن دمتم على هذا الخلاف لقتلناكم وهلكنا، لكننا اشتفينا منكم، فأجمعا أمركما والقيا العدو صفًّاً واحداً.
    وكان للأساورة رأي مسموع في البلاط الملكي وعند بوران بنت كسرى، وخشي رستم والفيرزان أن تكون عاقبتهما القتل، أو التخلِّي عن إمرة الجيوش على الأقل، ومن ثَمَّ قرَّرا التوحُّد والقيام بحرب ضد المسلمين.
    (يزدجرد)كسرى فارس
    كان حكم فارس حتى هذا الوقت في يد امرأة هي "بوران بنت كسرى"، وفكَّر الفرس في أن يأتوا برجل يصلح أن يكون حاكماً لفارس، ولا بد أن يكون من آل ساسان، فجمعوا نساء كسرى وكانوا بالعشرات وجواريه بالمئات، وأخذوا يعذبونهن حتى يَدُلُّوهم على أحد أبناء كسرى، فأقرَّت إحداهن بعلمها أن ابنًاً لإحدى نساء كسرى ما زال حيًّاً، فأتوا بها وعذبوها حتى أقرَّت بمكانه. فذهبوا إليه وأتوا به، وكان اسمه يزدجرد الثالث، وقدموا له الولاء والطاعة وكان عمره 21 عاماً.
    بدأ يزدجرد ينظم الجيوش ويدير الأمور وهو حديث عهد بذلك، وأول ما فكر فيه هو القضاء على قوة المسلمين، وقرر أن يلقي بكل القوة الفارسية لقتال المسلمين، وتحت قيادة رستم والفيرزان.
    جُمِعت أعداد ضخمة من الجنود، وتوجهوا تجاه الجيش الإسلامي، ووصلت الأخبار إلى المثنى بتجمع الفرس العظيم لملاقاة المسلمين.
    واستفاد المثنى من خبراته السابقة مع خالد بن الوليد، فانسحب بجميع قواته من المناطق التي كان قد استولى عليها؛ الأنبار وساباط ومن الحيرة، وانسحب أيضاً من الأبلّة وجعل تجمعه في منطقة تُسمى ذا قار، وكان بهذه المنطقة قبل ذلك موقعة بين العرب والفرس في الجاهلية، وانتصر فيها العرب، وظلوا يذكرونها كثيراً.
    وما يميز منطقة ذي قار أنها على أبواب الصحراء، والجيش الفارسي لا يجيد القتال في الصحراء، وكان هذا هو المكان الذي اختاره المثنى حتى يعسكر فيه ويستطيع الجيش الإسلامي من خلاله أن يفر إلى الصحراء في أسوأ الحالات، عند حدوث هزيمة مثلاً.
    واتجه الجيش الفارسي من المدائن إلى ذي قار، وأرسل المثنى رسالة إلى عمر بن الخطاب يخبره فيها أن الفرس يجمعون كل عدتهم وعتادهم لقتال المسلمين، وبمجرد أن وصلت الرسالة أعلن عمر بن الخطاب النفير العام، وأرسل الدعاة إلى كل الجهات لحثِّ الناس على الجهاد وقتال الفرس؛ لأن الجيش الإسلامي وقوامه ثمانية آلاف لا يقوى على مواجهتهم بهذا العدد الضخم الذي لم يستطع المسلمون أن يحددوه بعد.
    وفاة المثنى
    كان المثنى قد أُصيب في موقعة الجسر، وظلَّ متأثراً بها طيلة هذه الفترة، فبعد أن أرسل رسولاً إلى عمر بن الخطاب، وقبل أن يصل الرسول كان الله تعالى قد اختاره إلى جواره، وكتب وصية إلى عمر بن الخطاب وأرسلها مع أخيه المُعَنَّى بن حارثة وفيها: لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء. وفي الوقت نفسه كان رسول المثنى قد وصل إلى عمر، ولم يعلم عمر بعدُ بأمر وفاة المثنى، فكتب رسالة له فيها: "لا تقاتل الفرس إلا على أبواب الصحراء".
    وكان هذا التوافق في الرأي يدل على بُعد النظر وعمق التفكير، فقد استفاد المثنى بن حارثة كثيراً من تجاربه السابقة، وفي الوقت ذاته فإن عمر بن الخطاب وهو في المدينة يرى الرأي الصائب لعمق فكره، وحسن تخطيطه وإدارته.
    دروس في الشورى
    أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الأمراء والخطباء والشعراء في كل أطراف الجزيرة العربية لكي يحثُّوا الناس على الجهاد؛ فجاء إلى المدينة وفي وقت قليل - أقل من شهر - حوالي أربعة آلاف مسلم من الجزيرة العربية، منهم ثلاثة آلاف من اليمن وألف من قبيلة قيس، وقرروا أن يخرجوا للجهاد في سبيل الله سواء إلى الشام أو إلى العراق، لكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اختار العراق؛ لأن الشام في هذا الوقت كانت الحروب فيها قد تقدمت تقدماً عظيماً لصالح المسلمين تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح.
    جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أربعة آلاف مقاتلٍ في منطقة صرار، وبدأ في تجهيز الجيش وتنظيمه؛ فجعل على الميمنة الزبير بن العوام رضي الله عنه، وعلى الميسرة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وجعل نفسه على المقدمة، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد خرج رضي الله عنه بكل طاقة المدينة المنورة، وخرج هو على رأس هذا الجيش.
    لم يكن عمر رضي الله عنه يرى أن من الحكمة أن يخرج بنفسه - وهو أمير المؤمنين والمسؤول الأول عن الدولة الإسلامية الممتدة شرقًا وغربًا، والتي تحارب جيوشُها في أكثر من جهة لنشر الإسلام - مع الجيش الخارج للقتال في فارس ويترك المدينة المنورة، فكيف يكون الحال إذا قُتِلَ مثلاً؟ لا شك أنها ستكون كارثة، ولكنه خرج ابتداءً استكمالاً لبذل الجهد، وحثًّا للناس على الخروج للجهاد في سبيل الله.
    فقال عمر رضي الله عنه للناس: أَشِيرُوا عليَّ. أي في أمر خروجي معكم.
    فقال عامة الناس: سِرْ وسِرْ بنا معك.
    وافق عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رأي العامة وهو لا يراه صواباً، لكنه انتظر رأياً آخر، فقام علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما - وهما من كبار الصحابة - وقالا كما قال العامة: سِر وسِر بنا معك.
    فقام العباس بن عبد المطلب وقال: لا والله لا أرى ذلك رأياً بل تبقى في المدينة ويخرج على المسلمين أحد صحابة رسول الله.
    وقام عبد الرحمن بن عوف وقال: والله إني أرى رأي العباس، لا تخرج من المدينة، وتبقى على إمرة المسلمين ويخرج غيرك على إمرة الجيش.
    وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع لرأي العباس وعبد الرحمن بن عوف قبل ذلك كثيراً، وهما ذوا خبرة وحكمة في الأمور، وكان المسلمون إذا احتاجوا شيئاً من عمر بعثوا له عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، وإلا أرسلوا له العباس رضي الله عنهم جميعاً.
    وبدأ المسلمون يتناقشون في هذا الأمر، فقام عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وقال مخاطباً عمر رضي الله عنه: اجعلني فداك بأبي وأمي، تبقى للمسلمين في المدينة، والله أخشى لو خرجت لقتال الفرس في العراق وقُتِلْتَ ألاّ يكبر المسلمون بعد ذلك، ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله.
    سمع ذلك المسلمون فتراجع على الفور علي بن أبي طالب وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما عن رأيهما، وكانا من كبار أصحاب الرأي بخروج عمر رضي الله عنه مع الجيش، وعندما رأى عامة المسلمين تراجع هذين - رضي الله عنهما - وافقوا جميعاً على بقاء الفاروق رضي الله عنه بالمدينة، وخروج أحد صحابة النبي على إمرة الجيش.
    اختيار قائد الجيش
    وظهرت مشكلة أخرى أمام عمر رضي الله عنه وأمام المسلمين، وهي اختيار قائد لهذا الجيش الخارج لقتال الفرس في هذه الموقعة الفاصلة.
    واجتمع قادة المسلمين للتشاور في هذا الأمر المهم للغاية، وبدءوا في عرض الأسماء المؤهلة لهذا الأمر الجلل، ولم يستقروا بعدُ على اختيار القائد العام للجيش، وفي هذه اللحظات وهم ما زالوا في منطقة صرار، وصلت رسالة من هُذيل - وهي منطقة تقع شرقي مكة، وكان يحكمها سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه أحد كبار أصحاب النبي، وكان قد أمَّره عليها أبو بكر الصديق رضي الله عنه - تقول الرسالة: إن أمير هذه المنطقة قد جمع الزكاة والصدقات، وأنه قد أعدَّ ألف فارس من ذوي النجدة، وقرأ عبد الرحمن بن عوف الرسالة قبل أن تصل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
    فقال عبد الرحمن بن عوف لعمر بن الخطاب: واللهِ وجدته.
    قال عمر: من؟، قال: الأسد في براثنه. فعرف عمر رضي الله عنه أنه سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه، ووافق على قيادة هذا الأسد للجيش.
    وأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ردًاً على رسالته أن قبلنا الصدقات، وأَرْسِلِ الجندَ، وأنت أمير الجيوش. ويأتي هذا الصحابي تلبية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويصبح أميراً على هذا الجيش.
    دروس من وصايا الفاروق
    عند خروج سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من صرار متجهاً إلى العراق، قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا سعد، لا يغرنّك أن قيل: إنك خال رسول الله؛ فإنه ليس لله نسب إلا الطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي منذ بُعِث حتى فارقنا، فالزمه فإن ذلك الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتَها ورغبت عنها حبِطَ عملك، وكنتَ من الخاسرين".
    وعندما خرج بالجيش ناداه عمر رضي الله عنه موصياً إياه قائلاً: "إن الله إذا أحب عبداً حبَّبه، وإذا أبغض عبداً بغّضه، فاعتبر منزلتك عند الله تعالى بمنزلتك عند الناس".
    وكان عمر رضي الله عنه لا يدع ذا سطوة، ولا ذا رأي أو جاه، ولا شاعراً ولا خطيباً إلا أرسله تجاه العراق حتى تتبعهم أقوامهم، وكان يقول: واللهِ لأضربنَّ ملوك الفرس بملوك العرب.
    الوصية العمرية الخالدة
    وأرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصية جديدة إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهي من الوصايا التي ظلت محفوظة كأفضل وصية أعطيت لجيش من جيوش المسلمين، وظل الأمراء بعد ذلك يوصون بها جيوشهم، وتحمل الوصيةُ المنظور الصحيح للحرب في الإسلام، كما تحمل الكثير من المعاني العظيمة.
    يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في هذه الوصية:
    "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد.. فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العُدَّة على العدو، وأقوى العدة في الحرب".
    هذا ما بدأ به الفاروق الحكيم رضي الله عنه وصيته، فإن أفضل سلاح لمحاربة الأعداء هو تقوى الله، وإذا لم يتوافر هذا السلاح فلا قيمة لأي سلاح آخر مهما بلغت قوته وعَظُمَ شأنه.
    "وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليست كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا ولن نغلبهم بقوتنا".
    يضع الفاروق رضي الله عنه يد المسلمين على مفاتيح النصر الحقيقة، ويعلمهم أن النصر إنما يأتي بطاعة الجيش لله، وليس النصر بالعدة أو العتاد، وإلا لكان في جانب العدو؛ فإنهم أكثر قوة وعتادًا، فإذا تساوى الجيشان في المعصية فهما عند الله سواء، فلن يكون الله معنا ولن يكون معهم فينتصروا علينا بالعدة والعتاد، فقوتنا إنما هي أن الله معنا، وإذا افتقدنا هذا العنصر -عنصر القوة من الله- كانت لهم الغلبة؛ لأنهم دائمًا يكونون أكثر عددًا وعدة.
    "واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله".
    يأمرهم رضي الله عنه ويذكرهم بالحياء من الملائكة الذين معهم ولا يفارقونهم، وبالحياء من الله؛ لأنهم إنما خرجوا جهاداً في سبيله.
    ثم يلفت نظرهم إلى أمرٍ مهم نحن في واقعنا أحوج إليه من غيرنا يقول رضي الله عنه:
    "ولا تقولوا: إن عدونا شرٌّ منا ولن يُسلط علينا وإن أسأنا، فرُبَّ قوم سُلِّط عليهم شَرٌّ منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل - لما عملوا بمساخط الله - كفرةُ المجوس فجاسوا خلال الديار، وكان وعداً مفعولاً".
    يذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه لهم نموذجًا عملياً يخالف ما قد يعتقده البعض من أن العدو - لا شكَّ - أكثرُ معصية منهم؛ لأنهم مسلمون وعدوهم كافر، فيضرب لهم هذا المثل ليمحوَ من أذهانهم هذا التصور المغلوط، مؤكداً لهم أهمية الطاعة وخطورة المعصية عليهم.
    وهنا يعلق السرجاني قائلاً: وهذه الصورة التي ضرب الفاروق رضي الله عنه بها المثل منطبقةٌ تماماً على المسلمين في الواقع المعاصر؛ فقد سُلِّط عليهم بمعاصيهم وذنوبهم أخبثُ أهل الأرض، فنرى اليهود - وهم أشر الخلق - يتحكمون في المسلمين، ليس في فلسطين فقط بل في العالم كله، ويذيقون المسلمين في فلسطين سوء العذاب، ونرى الهندوس وهم عبدة البقر والفئران يذيقون المسلمين العذاب في كشمير، والشيوعيين وهم لا يعرفون رباً ولا إلهاً يعذبون المسلمين في كل الجمهوريات الإسلامية في جنوب روسيا، ونرى الشيشان وغيرها وما يجري من أحداث في هذه المنطقة، وكذلك الصِّرْب، وما من منطقة في العالم إلا والمسلمون مستضعفون فيها من قِبَلِ أُناسٍ هم أكثر معصية، بل إنهم مشركون ومع ذلك يُسلطون على المسلمين؛ وذلك لأن المسلمين عصوا ربهم فسُلِّطَ عليهم العدُوُّ.
    ويجب أن نأخذ هذا الأمر بشيءٍ من الاهتمام، فإن الإنسان - وهو في محيطه الضيِّق - ربما يذيقه أحد اليهود أو النصارى أو الظالمين العذاب، وربما يتعجب المسلم كثيراً ويتساءل: كيف يحدث هذا وأنا مسلم وهذا كافر أو ظالم؟!.
    والجواب يتضح من وصية الفاروق رضي الله عنه، وهو أن هذا الإنسان المسلم بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في حياته وأعماله من طاعاتٍ ومعاصٍ، وفي حاجة إلى تنقيةِ قلبه، وعودة إلى ربه، وتوبة من الذنوب والمعاصي والآثام، وإنما تأخر النصر على المسلمين لكثرة المعاصي منهم.
    "واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على أعدائكم".
    إلى هذه اللحظة لم تتطرق الوصية بعيداً عن إصلاح النفس، والبُعد بها عن المعاصي والآثام، والاقتراب من الله نظراً لأهمية هذا الأمر، وأثره الكبير في إحراز النصر على الأعداء.
    ثم ينتقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وصيته إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى جانب آخر من الجوانب المهمة، وهو كيفية التعامل مع الجيش والانتقال من مكان لآخر؛ يقول له:
    "وترفق بالمسلمين في سيرهم، ولا تجشمهم سيراً يتعبهم، ولا تقصّر بهم عن منزلٍ يرفق بهم؛ فإنهم سائرون إلى عدو مقيم حامي الأنفس".
    يشير عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الفقرة من هذه الوصية الخالدة إلى ضرورة راحة الجند وعدم تحميلهم ما لا يطيقون، وتحيُّن أي فرصة يستريحون فيها من عناء السفر الطويل؛ ذلك لأنهم قادمون على عدو مقيم، فينبغي ألا تذهب طاقة الجند هباءً حتى إذا لاقوا عدوهم استطاعوا أن يحاربوا وهم ما زالوا من القوة بمكان.
    ثم يقول له: "وأقم بمن معك كل جمعة (كل أسبوع) يوماً وليلةً؛ حتى تكون لكم راحة تجمعون فيها أنفسكم، وتلمون أسلحتكم وأمتعتكم".
    ثم تأتي هذه الوصية المهمة التي تُذكَر للمسلمين، وتدل على حسن معاملتهم للغير، يقول عمر رضي الله عنه:
    "ونَحِّ (أي أَبعِدْ) منازلهم عن قرى أهل الصلح وأهل الذمة". أي: لا تجعل أماكن نزولك وراحة جيشك بجوار قرى أهل الصلح وأهل الذمة.
    "فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا ترزأ أحداً من أهلها شيئاً؛ فإن لهم حرمة ابتُلِيتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فَوَفُّوا لهم، ولا تنتصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح".
    هنا يظهر لنا حرص الفاروق عمر رضي الله عنه على عدم الظلم لأهل الصلح وأهل الذمة ممن قد يمر عليهم الجيش المسلم في مسيره، وإن اضطُرَّ لدخول هذه القرى لأي سببٍ، فلا يُدخِل إلا من يثق بأخلاقه، وألا يؤذي أحداً من أهل هذه القرى، ويأمر بحفظ حرمتهم والوفاء بعهدهم وعدم ظلمهم.
    وينتقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى جانب مهم من الجوانب الحربية وهو جانب المخابرات العسكرية، فيوضح الدور الذي تقوم به، ومهمته، وكيفية اختيار أفرادها، يقول رضي الله عنه:
    "وإذا وطئت أدنى أرض العدو فأزجِ العيون بينك وبينهم، ولا يخفى عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب أو من أهل الأرض من تطمئنُّ إلى نصحه وصدقه. وليكن منك عند دنوِّك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم، فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم، وتتبع عوراتهم (أي مخابئهم وتحركاتهم)، وانتقِ للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخيَّر لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدواً كان أول من تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد، والصبر على الجِلاد. ولا تخصَّ أحداً بهوى فيضيع من أمرك ورأيك، ولا تبعث طليعة ولا سرية في وجهٍ تتخوف فيه نكاية أو ضيعة. فإذا عاينت عدُوَّك فاضْمُم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك، واجمع مكيدتك وقوتك كلها، ثم لا تعاجلهم المناجزة حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها، ثم أزج حراسك على عسكرك، وتحفظ من البيات جهدك. ولا تُؤتى بأسير ليس له عهد إلا قطعت رقبته؛ لترهب به عدو الله وعدوك، والله ولي أمرك ومن معك وولي النصر لكم على عدوكم والله المستعان ".
    ويظهر هنا التأكيد على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، واعتبار الغرض من جمع المعلومات عن العدو ليس التمكن من محاربته، بقدر ما هو التحرز من استكراه الطرف الثاني للمسلمين على القتال، ولذا يجب على المسلمين الكف بعد الأخذ بالأسباب، والتأهب ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً مع أخذ الحيطة والحذر البالغين.
    الخلاصة
    يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[سورة الصف، آية:9]، ويقول تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}[سورة غافر، آية: 51].
    هذا النصر الذي ذكره الله تعالى استحقه المسلمون الفاتحون الذين كان هدفهم الأول نصرة الدين.
    فقد كان الهدف الرفيع والمقصد السامي لحركة الفتوحات التي قادها الصديق - كما يقول الصلابي - نشر دين الله تعالى بين الناس، وإزاحة الطواغيت من على رقاب الناس، وكان الصديق والمسلمون معه على يقين بما أخبر الله ورسوله من النصر والتمكين، وهذا اليقين من أخلاق جيل النصر.
    ولأن سندهم الأول وسلاحهم الأمضى هي التقوى والعقيدة الصحيحة، فقد استطاع المسلمون الفاتحون أن يدحروا أقوى الجيوش ويسقطون أقوى الدول في زمانهم.
    ـــــــــــــــ ـــــــــــــ
    المصادر
    - (من مشاهير الصحابة رضي الله عنهم)، علي بن نايف الشحود.
    - (أبو بكر الصديق)، محمد رضا.
    - (أبو بكر الصديق رضي الله عنه شخصيته وعصره)، د. علي محمد الصَّلاَّبي.
    - (أمير المؤمنين عمر بن الخطاب)، د. علي محمد الصَّلاَّبي.
    - موقع (قصة الإسلام).
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •