مسألة إرضاع الكبير بين الخلاف المعتبر والفتاوى الشاذة


عبدالقادر علي ورسمه


مسألة إرضاع الكبير من المسائل الفقهية التي حدث فيها خلاف بين العلماء قديما وحديثا، ورغم أن الخلافات الفقهية لها قواعدها وضوابطها التي يعرفها العلماء وطلاب العلم الذين لديهم المعرفة الكاملة لفهم كلام الفقهاء وقواعدهم، إلا أننا ابتلينا في الآونة الأخيرة ببعض الجهلة من العلمانيين وكتاب الأعمدة في الصحف الذين لا يستطيعون التفريق بين الخلافات الفقهية والفتاوى الشاذة التي تصدر من هنا وهناك؛ ولذلك أصبحوا يشوهون الإسلام أو يستهزئون بالأحكام الشرعية، من غير أن ينظروا إلى أقوال العلماء الأجلاء ومذاهب السلف في مثل هذه المسائل التي يثيرها بعضهم في الفتاوى الجاهزة على الفضائيات والصحف التي لا تعرض على العلماء الكبار، وعليه فإننا نحاول في هذه العجالة عرض أقوال أهل العلم التي توضح خطأ تلك الفتاوى الشاذة، وزوابع المرجفين.

- مسألة دقيقة

وإجابة عن العديد من التساؤلات المطروحة حول مسألة إرضاع الكبير هل يحرم بالرضاع مَن رضع خمس رضعات من امرأة أجنبيّة عنه، ولكن بعد أن اشتدّ عوده، وبلغ مبلَغ الرجال؟ يقول د. أحمد عبد الكريم نجيب: هذه مسألة دقيقة لأهل العلم فيها مذهبان؛ أشهرهما: مذهب الجمهور من السلف والخلف، وعليه أكثر الصحابة، وهو اشتراط أن يكون الرضاع للطفل قبل سنّ الفطام، أي في الحولين الأولين من عمره عند الجمهور، وحتى العامين والنصف عند أبي حنيفة، والثلاثة أعوام عند زُفَر، ولا بأس بالأيّام القليلة بعد الحولين عند الإمام مالك، ومن أدلّتهم:

قوله تعالى: {والوالدات يُرضِعنَ أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يُتمّ الرضاعة}.

ووجه الدلالة في هذه الآية على أنه لا رضاعة محرِّمة بعد الحولين، أنّها تنص على تمام الرضاعة فيهما، والتام لا يقبل الزيادة، وعليه فكلّ رضاعة بعد سنّ الفطام لا اعتبار لها في التحريم بالرضاع.

وروى الترمذي عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله [: «لا يحرّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام».

قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أصحاب النبي [ وغيرهم؛ أنّ الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكامِلَين فإنّه لا يحرّم شيئاً.

والحديث عدا قوله: «وكان قبل الفطام» في (سنن ابن ماجة) أيضاً، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما بإسناد صحيح.

والقول الثاني: هو قول الظاهريّة بوقوع التحريم بالرضاعة للصغير والكبير على حدٍّ سواء، وعَدَم التفريق بين ما كان في الحولين أو بعدَهما، وقد ذكر هذا القول ابن حزم الظاهري رحمه الله فأطال الكلام عنه في (المحلى: 10 / 10 وما بعدها)، وانتصر له.

و عُمدة هؤلاء ما رواه مسلم في (صحيحه) عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي [، فقالت: يا رسول الله إنّي أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه. فقال رسول الله [: «أرضعيه»، فقالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير ؟ فتبسّم رسول الله [ وقال: «قد علِمتُ أنّه رجل كبير».

و في رواية عند مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن سالماً مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيته، فأتت ابنة سهيل النبي [ فقالت: إنّ سالماً قد بلغ ما بلغ الرجال، وعَقَل ما عقلوا، وإنّّه يدخل علينا، وإني أظنّ أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً، فقال لها النبي [: «أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة» فرجَعَت فقالت: إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة.

قلتُ: وهذا الحديث ظاهر في الدلالة على مذهب الظاهريّة في عدم التفريق بين الصغير والكبير في التحريم بالرضاعة، ولكنّه مُعارَض بما تقدّم من أدلّة مذهب الجمهور، وإذا كان القول به وجيهاً لذهاب أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها إليه، ولعملها به حيث كانت - كما في (سنن أبي داود) بإسناد صحيح - تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يُرضِعنَ من أحبت عائشة أن يراها، أو يدخل عليها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثمّ يدخل عليها، فإنّ هذا مخالف لما ذهَبت إليه بقيّة أمّهات المؤمنين الطاهرات رضوان الله عليهنّ أجمعين، حيث لم يكنّ يُدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً حتى يرضع في المهد، وقُلن لعائشة: «والله لا ندري لعلّها كانت رخصة من النبيّ [ لسالم خاصّة، فما هو بداخل علينا أحدٌ بهذه الرضاعة، ولا رائينا» كما أخبرت بذلك أم سلمة فيما رواه عنها مسلم وغيره.

والظاهر أنّ لتخصيص الرخصة بسالم رضي الله عنه من دون الناس، وجها من حيث اختيار معظم أمهات المؤمنين له، وذهاب معظم الصحابة وجمهور العلماء إلى القول به، وهو المفهوم من ظاهر النصوص المعارضة لحديث سهلة بنت سهيل، ولو كان الأمر على إطلاقه لشاع بين الصحابة الكرام فمن بعدهم من السلف، وتعدّدت طرقه، ورويت أخباره.

ولذلك فالراجح في المسألة هو قول الجمهور باشتراط كون الرضاع قبل الفطام لتحليل الخلوة وتحريم النكاح، والله أعلم.

و قد ذهب بعض أهل العلم إلى الجمع بين القولين السابقين بالترخيص في إرضاع الكبير وترتيب أحكام الرضاعة عليه في التحليل والتحريم عند وجود المشقة في الاحتجاب عنه، وعدم الاستغناء عن دخوله على النساء، كما في قصة سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهما، وهذا القول منسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو بعيد؛ لأنّ المشقّة غير منضبطة، أما لو كانت ضرورة، فللضرورة شأنٌ آخَر، والضرورات تقدّر بقَدَرِها.

وقد نبه الدكتور مسألة أشكلت على بعض الناس وهي: أن رضاع الكبير من المرأة مع ما يُشعِر به ذلك من تلامس بشرتيهما رُغم عدم وقوع التحريم قبل تمام الرضاع خمساً، ومن أحسن ما قيل في توجيه ذلك قول الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم (10 / 31): «قال القاضي: لعلّها حَلَبَته ثم شرِبَه، دون أن يمسَّ ثديَها، ولا التَقَت بشرتاهُما وهذا الذي قاله القاضي حَسَنٌ، ويُحتَمل أنّه عُفيَ عن مسّه للحاجة، كما خُصَّ بالرضاعة مع الكِبَر.

قول مبتدع

أما فيما يتعلق ببعض الفتاوى التي بدأت تخرج علينا برضاع الموظفين، التي أصبحت تثير سخرية الفساق والعلمانين الذين يحاولون تشويه الإسلام من خلال تمسكهم ببعض هذه الفتاوى الشاذة، فيقول الشيخ سليمان سعود الصقر عنها: القول برضاعة الموظفين لتفادي الخلوة المحرمة، قول مبتدع، نسأل الله العافية؛ لأن رضاعة الكبير ليست بشيء عند الصحابة، باستثناء عائشة رضي الله عنهم أجمعين، وقولها مرجوح مستغرب عندهم.. وأهل العلم من التابعين.

وهناك أقوال لكثير من الصحابة مخالفة لما كان عليه باقي الصحابة، وهي بالتالي متروك العمل بها، مثلا: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال عمر: علي أقضانا، وأبي أقرؤنا، وإنا لندع من قول أبي، وأبي يقول: أخذت من فم رسول الله[، والله يقول: {ما ننسخ من آية أو ننسها}.

ومثال آخر: أن أبا طلحة الأنصاري كان صائما في يوم أمطرت به السماء في المدينة بردا، فأكل البرد وهو صائم وقال: لا أجده طعاما ولا شرابا؛ فليس بحرام أكله على الصائم !! وقد خالفه باقي من سمع بذلك من الصحابة – أو نحو ذلك، وهو أثر صحيح الإسناد عنه. انظر سيرة أبي طلحة رضي الله عنه في (سير أعلام النبلاء).

ومن ناحية أخرى أيضا فإن الموظف الواحد ربما ترضعه نساء كثر (حسب تنقلات الموظفين، وذهابهم ومجيء غيرهم...) وأيضا هذا أمر فيه من المفاسد العظيمة المخالفة لهدي النبي[،ما لا يعلمه إلا الله - لو صح الأصل الذي يبنون عليه- ومن مفاسده العظيمة: انتشار الأخوة والآباء والأمهات والأعمام والأخوال من الرضاعة... حتى ربما ينكح الناس محارمهم وهم لا يدرون.

أصل الخلاف في حديث سالم

وفي السياق نفسه يوضح الدكتور ناصر بن محمد الماجد عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام أسباب الخلاف في حديث سالم الذي عده جمهور العلماء حادثة عين، كما يؤكد أن الرضاع المحرّم هو ما كان في الصغر حيث يقول: وقد ذهب جماهير الأمة من السلف والخلف إلى أن الرضاع المحرم ما كان في الصغر، ومن أدلتهم ما رواه الشيخان البخاري (2647) ومسلم (1455) عن عائشة –رضي الله عنها- أن النبي[دخل عليها وعندها رجل فكأنه تغير وجهه كأنه كره ذلك، فقالت: إنه أخي، فقال:»انظرن من إخوانكن؛ فإنما الرضاعة من المجاعة»، قال ابن حجر:«وقوله: «من المجاعة» أي: الرضاعة التي تثبت بها الحرمة وتحل بها الخلوة، هي حيث يكون الرضيع طفلاً لسد اللبن جوعته؛ لأن معدته ضعيفة يكفيها اللبن، وينبت لحمه فيصير كجزء من المرضعة» اهـ، ومن أدلتهم: حديث ابن مسعود عند أبي داود (2059) مرفوعاً وموقوفاً قال: «لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم»، ومنها: ما رواه الدارقطني (4/174) وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله [: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين».

وأصل الخلاف في قصة سالم وإرضاع سهلة بنت سهيل له، فجمهور أهل العلم قالوا: هي قضية عين لا تعارض الأحاديث الصريحة الدالة على أن الرضاع المؤثر ما كان في الصغر بحيث يؤثر في إنشاز العظم وإنبات اللحم مما يصير به الرضيع كجزء من المرضعة، ومن ثمَّ حملوا تلك الواقعة على الخصوص واستندوا في ذلك إلى فهم زوجات النبي [ عدا عائشة –رضي الله عنها- فقد روى مسلم (1454) وغيره من حديث أم سلمة –رضي الله عنها- قالت: «أبى سائر أزواج النبي[ أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة: والله ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله [ لسالم خاصة؛ فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا»، وأما الذين ذهبوا إلى القول بجواز رضاع الكبير وأنه مؤثر، فقد استدلوا بظاهر قصة سالم وعدم وجود ما يخصصها، وأيدوا قولهم بفهم عائشة –رضي الله عنها- وعملها بذلك حتى بعد وفاة النبي[ كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود (2061) وغيره، وفيه: «فبذلك كانت عائشة –رضي الله عنها- تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها وإن كان كبيراً خمس رضعات ثم يدخل عليها».

وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله: نرى أن حديث سالم مولى أبي حذيفة خاص بسالم كما هو قول الجمهور؛ لصحة الأحاديث الدالة على أنه لا رضاع إلا في الحولين، وهذا هو الذي نفتي به.



حالة نادرة ومرتبطة بلحظة تشريعية لن تتكرر



ومن جانبه يلخص لنا فضيلة الشيخ أشرف عبد المقصود الإشكالات التي يوردها بعض المرجفين على قصة سالم حيث يقول: وقصة الحديث تتلخص في: أن أبا حذيفة كان قد تبنى سالما قبل أن يبطل التبني، يعني اتخذه ابنا له وصار كابنه تماما يدخل البيت وزوجة أبي حذيفة لا تحتجب عنه لأنه ابنها. فلما أبطل الله تعالى التبني صار سالم - وقد كبر - أجنبيا من «سهلة» امرأة أبي حذيفة التي جاءت تشتكي إلى النبي [ وتقول: إنَّ سالما كان أبو حذيفة قد تبناه يدخل علينا ونكلمه، وقد بَطَلَ التبني، فقال لها النبي [: «أرْضِعيه تَحْرُمِي عَلَيه»، ولا شك أن سالما لم يرضع مباشرة من ثدي امرأة أبي حذيفة، كما يُصَوّر أهل الإفك.

فيقال لمن زعم: أن من كانت حاله وحاجته مثل حاجة سالم جاز له الأمر: إن حالة سالم مولى أبي حذيفة حالة نادرة ومرتبطة بلحظة تشريعية لن تتكرر، ومن سوّى بين الحاجتين فقد أخطأ بدليل أن حاجة سالم غير ممكنة ولن تنطبق على أحد بعده، فسالم حضر إباحة التبني وكان ابنا بالتبني لأبي حذيفة وحضر بطلان التبني !! وإلى هذا التوجيه السَّديد أشار شيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله، فقال في (الشرح الممتع: 13 / 436): «ليس مطلق الحاجة بل الحاجة الموازية لقصة سالم، والحاجة الموازية لقصة سالم غير ممكنة؛ لأن التبني أبطل فلما انتفت الحال انتفى الحكم» اهـ. فمَنْ مِن الناس اليوم له مثل حكم سالم في التبني؟ لا أحد، ثم بعد بطلان التبني احتاج سالم لهذا الحكم، فكان جواب النبي [ لحاجته هذه التي لا تنطبق على غيره، فهي حالة خاصة انتهت بانتهاء أطرافها.


ومما يؤكد هذا الجواب - كما يبين ابن عثيمين - أن رضاع الكبير مُحَرَّم ولا يجوز: أن النبي [ لما قال: «إيَّاكُم والدُّخول على النِّساء» قالوا: يارسول الله: أرأيت الحمو؟ -وهو قريب الزوج كأخيه مثلا- قال: «الحمو الموت» رواه البخاري (5232) ومسلم (2172)، وكلنا يعلم أن الحمو في حاجة لأن يدخل بيت أخيه إذا كان البيت واحدا ولم يقل النبي [: الحمو ترضعه زوجة أخيه، مع أن الحاجة ماسة لدخوله؛ فدل هذا على تحريمه للغير من باب أولى!