المبادئ العادلة والمقاصد السامية في الاقتصاد الإسلامي - تقرير
أحمد الشجاع
منذ وجود الإنسان على هذه البسيطة وهو يكافح من أجل البقاء وتعمير الأرض التي استخلف فيها، مستعينا بذلك بكل ما حباه الخالق من موارد ومقومات.
فلتأمين حاجته من الغذاء والكساء والمسكن والأمان ولتحسين وضعه المعيشي والاقتصادي عمل الإنسان على تطوير أساليب الإنتاج والتبادل، كما حسن من مستوى الأداء الإداري وتبنى السياسات الاقتصادية، واخترع النقود، وأحدث ثورة في عالم الاتصالات والمعلومات.
ولقد صاحب هذا التطور ظهور كثير من الآراء والأفكار الاقتصادية.. إضافة إلى ما أتت به الأديان السماوية من قواعد وأحكام وتشريعات تهتم بالجانب الاقتصادي.
وجربت البشرية – في تاريخها - الكثير من المبادئ والمذاهب والنظريات الاقتصادية، حتى وصل بها المطاف في هذا العصر إلى اعتماد المذهب الاقتصادي الرأسمالي في شتى بقاع العالم.
ولكن يبدو أن هذا المذهب في طريقه إلى الزوال بعد أن جرع العالم الكثير من الأزمات الاقتصادية على الفرد والمجتمع.. وبعد صبر طويل أو جهل عميق استمر أكثر من قرن من الزمان بدأت المجتمعات الغربية تشعر بأنها ضحية لهذا النظام الاقتصادي، وأدركت أنه نظام ظالم لم يحقق التوازن والاستقرار الاقتصادي داخل تلك المجتمعات.
ففي 17 سبتمبر الماضي ومن (وول ستريت) بنيويورك – مقر عرش الرأسمالية - انطلقت التحركات الشعبية المناهضة لهذا النظام، وتحت شعار (احتلوا وول ستريت) أعلنت الجموع الشعبية نيتها مواجهة هذا الظلم..ورفعوا لافتات تتعلق بعدم توفر العدالة الاقتصادية في الولايات المتحدة، ودعوا إلى اقتصاد عادل في وول ستريت.
وفي 15 أكتوبر الجاري شهد العالم تحركات شعبية واسعة احتجاجاً على السياسات الاقتصادية العالمية التي تكرس الاستغلال والجشع ضد ملايين البشر.
وتحت شعار: "يا شعوب العالم انهضوا"، و"انزل إلى الشارع"، و"اصنع عالماً جديداً"، دعا الغاضبون إلى التظاهر في 951 مدينة في 82 دولة احتجاجاً على الوضع الاقتصادي الهش الناشئ عن الأزمة الاقتصادية العالمية وسلطة رؤوس الأموال.
والسؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا هو: ما هو البديل؟ أو ما هو الحل؟.
هذا السؤال مطروح أمام كل مسلم يرى شعوب الغرب والشرق تنتفض ضد الرأسمالية، وتبحث عن بديل لها.
فهل سيبحث هو أيضاً عن بديل اقتصادي؟، وما هي مرجعيته التي سينطلق منها؟، وهل سيستمر العالم الإسلامي أسير التبعية وينتظر نتائج تلك الشعوب ليؤمن بما ستأتي به، أم أنه سيتحرر ويعود إلى عقيدته الإسلامية ليبني نظامه الاقتصادي الخاص به، ويتثبت للعالم أن الإسلام هو السبيل الوحيد المؤدي إلى العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
وفي هذا التقرير ملخص للنظام الاقتصادي الإسلامي وأسسه وحقائقه وأهدافه ودوره في تحقيق الاستقرار للحياة الإنسانية.
تعريف الاقتصاد الإسلامي
الاقتصاد في اللغة: مأخوذ من القصد وهو استقامة الطريق والعدل، والقصد في الشيء خلاف الإفراط ، وهو ما بين الإسراف والتقتير.
أما في الاصطلاح: فهو "الأحكام والقواعد الشرعية التي تنظم كسب المال وإنفاقه وأوجه تنميته".
فمفهوم النظام الاقتصادي الإسلامي: هو مجموعة الأحكام والقواعد والوسائل التي تطبق على النشاط الاقتصادي في المجتمع المسلم لحل مشاكله الاقتصادية في النواحي الإنتاجية والتوزيعية والتبادلية.
كما يتضمن هذا النظام ما يتعلق بتوزيع الثروة وتملكها والتصرف فيها. فقد جاء الإسلام بمبادئ وأصول معينة تنطوي على سياسة اقتصادية متميزة، وقد جرى تطبيق هذه المبادئ وتلك السياسة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بدقة، والتزم بها بعده الخلفاء الراشدون، كما ارتبط بها حكام وأئمة المسلمين خلال التاريخ الإسلامي بدرجات متفاوتة.
ويعرف البعض الاقتصاد بأنه: العلم الذي يبحث في كيفية إدارة واستغلال الموارد الاقتصادية النادرة لإنتاج أمثل ما يمكن إنتاجه من السلع والخدمات لإشباع الحاجات الإنسانية من متطلباتها المادية التي تتسم بالوفرة والتنوع في ظل إطار معين من القيم والتقاليد والتطلعات الحضارية للمجتمع، كما يبحث في الطريقة التي توزع بها هذا الناتج الاقتصادي بين المشتركين في العملية الإنتاجية بصورة مباشرة، وغير المشتركين بصورة غير مباشرة، في ظل الإطار الحضاري نفسه.
ويرى الباحثون أن كل بناء اقتصادي يقوم على شقين رئيسين:
الأول: مادي تقني، والثاني: معنوي مذهبي.
فهناك أولاً الجانب المادي والتقني من العملية الإنتاجية، وهو الجانب الذي يتناوله علم الاقتصاد والعلوم الطبيعية الأخرى بالدراسة، وهذا الجانب يعرف بالاقتصاد الأساسي أو الأصلي، وهو لا يختلف من بلد إلى آخر، مهما اختلف المذهب، ومهما اختلف النظام الاقتصادي المعمول به في كل منها.
وهناك ثانياً الجانب المذهبي، وهو الذي يستهدف ضبط السلوك البشرى على هذا الاقتصاد الأساسي أو الأصلي. وهذا الجانب ينطوي على تصور عقائدي يحدد الهدف ويعين القيم ويرسم قواعد السلوك التي يلتزم الفرد والجماعة باتباعها.
ويمكن القول إن للاقتصاد الإسلامي جانبان:
- جانب ثابت:
وهو عبارة عن مجموعة المبادئ أو الأصول السياسية والاقتصادية التي جاءت بها نصوص القرآن والسنة ليلتزم بها المسلمون في كل زمان ومكان.
كما في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275 ]، وكون الرجل له مثل حظ الأنثيين من الميراث كما في قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ} [النساء:11]، وحرمة دم ومال المسلم للحديث: ((إن الله قد حرم دماءكم وأموالكم)) [رواه البخاري].
إلى غيرها من وجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، وأحكام الحدود والمقدرات.
وتمتاز هذه الأحكام بأنها لا تتغير ولا تتبدل مهما تغيرت الأزمنة والأمكنة، كما أنها تتصف بصفة العموم والمرونة؛ لتطبق على جميع الناس من غير عسر ولا مشقة، فهي حاكمة لتصرفات الناس لا محكومة بهم.
- جانب متغير:
وهو عن الأساليب والخطوط العملية والحلول الاقتصادية التي تتبناها السلطة الحاكمة في كل مجتمع إسلامي لوضع أصول الإسلام وسياسته الاقتصادية في واقع مادي يعمل المجتمع في إطاره، ومن ذلك بيان العمليات التي توصف بأنها ربا أو صور الفائدة المحرمة ومدى تدخل الدولة.
ويستند إلى أدلة قد تتغير أحكامها باختلاف أحوال النظر فيها. فهي خاضعة لاجتهاد العلماء وتغيرها بحسب المصلحة يختلف أحياناً بحسب الأشخاص والأزمان والأمكنة، فيجوز لولي الأمر المجتهد أو العلماء المجتهدين أن يختاروا من الأحكام ما يرونه مناسباً لمستجدات الحياة وفق مقاصد الشريعة المعتبرة، ومن أمثلتها:
- تضمن الأجير المشترك - كما فعل علي بن أبى طالب - ما لم تقم بيّنة على أنه لم يتعد، وقد كان الحكم قبل
ذلك بعدم تضمينهم؛ لأن يدهم يد أمانة ويد الأمان غير ضامنة، فلما جاء عهد علي – رضي الله عنه – ضمّنهم لاختلاف أحوال الناس وضياع الأمانة بينهم وقال: "لا يصلح للناس إلاّ ذلك".
- إيقاف عمر صرف سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة معللاً ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كان يعطيهم ليتألف قلوبهم والإسلام ضعيف، أما وقد أعزّ الله دينه فلا حاجة لتأليفهم، وقد أقرّه الصحابة على ذلك، فكان إجماعاً.
- والخراج على الأراضي المفتوحة عنوة. وما عدا ذلك من الأحكام مما لا يرجع إلى أصل قطعي أو ظني فهو باطل؛ لأنه سيكون من الهوى واستحسان البشر، كتحليل الربا، وإباحة الرشوة وبيع الخمور ولحوم الخنزير كما يفعل للسياحة وغيرها .
ويؤكد الدكتور رفعت السيد العوضي أن ما ورد في الكتاب والسنّة حول المسألة الاقتصادية بشكل عام، أو ما يمكن أن وصفه بنظرة الإسلام إلى المال، إنما هو قيم وسياسيات ومبادئ عامة لضبط السيرة الاقتصادية، ورسم اتجاهها وحمايتها من الانحراف، أكثر من كونها برامج تفصيلية، وأوعية لحركة الأمة الاقتصادية، وأن العقل المسلم هو الذي يجتهد في ضوء هذه القيم والسياسيات العامة في إيجاد البرامج والأوعية الشرعية للمسألة الاقتصادية في كل زمان ومكان.
وأشار إلى أن كثيراً من العلوم الإنسانية ومنها علم الاقتصاد، قد توقفت في حياة الأمة على المستوى العام إلاّ من بعض محاولات، وملاحظات لم يكتب لها أن تشكل مجرى إسلامياً في حمأة الاقتصاد الربوي، وقال: لابد لنا اليوم من النزول إلى الساحة لاستئناف المسيرة الاقتصادية الإسلامية، ومجاوزة عقدة الخوف من الخطأ التي يتولد عنها استسهال عملية التقليد والمحاكاة سواء كانت داخلية أم خارجية.
وأضاف موضحاُ أن بالإمكان الإفادة من الكسب البشري للأمم الأخرى، وما أنجزته في مجال التقنية الاقتصادية وآلات الفهم والتفسير في كل الجوانب التي ليس لها علاقة بالجانب القيمي، مع الحذر الشديد أن كثيراً من هذه التقنيات ليست محايدة، بل هي إفراز لحضارة وثقافة.. وظروف وشروط قد تختلف جزئياً أو كلياً عن ظروفنا.
وقال: إن إصرارنا على تمييز الاقتصاد الإسلامي من غيره، تأكيد لهذا الحذر، وإبراز للأهداف والقيم التي تحكمه من دون سائر الأنماط الاقتصادية الأخرى.
نشأة علم الاقتصاد الإسلامي
من المقرر أن الإسلام نظم حياة الأفراد بما يحقق لهم مهمة الاستخلاف، وعبودية الله عز وجل في الأرض، ولم يدع مجالاً من مجالات الحياة إلا وبيّن ما يحتاجه الإنسان من أحكام وتصورات تحقق الكثير من المصالح الدنيوية والأخروية، ومن ذلك تنظيم احتياج الناس لكسب المال وتوفير الاحتياجات الحياتية الخاصة بهم.
وقد كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي الأنموذج الأمثل لتطبيق هذا التشريع الاقتصادي وكذلك حياة الخلفاء الراشدين.
إلا أن الحياة والمشكلات الاقتصادية في الصدر الأول كانت محدودة لأمرين:
- فقر البيئة وتواضع الأنشطة الاقتصادية كالرعي والتجارة المحدودة والزراعة القليلة.
- قوة الوازع الديني في النفوس فلا تجد غشاً ولا تدليساً ولا غبناً ولا احتكاراً.
ولكن مع توسع المعاملات بين الناس وازدهار التجارة والصناعة، وانفتاح المجتمعات والدول على بعضها البعض، وضعف الوازع الديني والإيمان بالله، وظهور الحيل والخديعة في معاملات الناس؛ استجدت قضايا اقتصادية تختلف تماماً عما عاشه سلف الأمة؛ كالشركات الحديثة وبيوع الأسهم والبورصات والمعاملات المصرفية وغيرها، إضافة إلى الحاجة لضبط معاملات الناس وعقودهم لكي لا تفضي إلى النزاع والخلاف؛ مما أدى إلى اهتمام العلماء بدراسة هذا العلم وبحث قضاياه ومعالجة مشكلاته.
مذاهب أخرى
وفي بداية القرن العشرين ظهرت مذاهب اقتصادية تبنتها دول عظمى تريد الثروة واستعمار خيرات الشعوب، أشهرها النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي.
يقوم النظام الرأسمالي على الأسس التالية:
أ - الفرد هو المالك الوحيد لما يكتسب سواء اكتسبه بالطرق المشروعة، أم غير المشروعة، إذ لا فرق في النظام الرأسمالي بين البيع والربا.
ب - للفرد أن يتصرف فيما يملكه وفق ما يشاء دون قيد أو شرط.
ج - للفرد أن يحتكر ما تصل إليه يده من وسائل الإنتاج مهما كثرت وتنوعت.
د - للفرد أن يصرفها في الوجوه التي تعود عليه بالمنفعة، ولا يلزم بصرفها في وجوه لا تعود عليه بالمنفعة أو تكون المنفعة فيها قليلة. ويقول الشيخ عبد الله الطيار: وإذا نظرنا إلى هذه النظرية من وجهة النظر الاقتصادية رأيناها تستلزم اختلال التوازن بين الأفراد، وتجمع وسائل الإنتاج عند طائفة تكون بأيديها الأموال الطائلة التي تحتكرها، وذلك على حساب الطائفة الأخرى. وهنا يظهر في المجتمع طبقتان لا ثالثة لها: طبقة المتمولين أصحاب الثراء والجاه، والطبقة الثانية طبقة الفقراء. وبناء على هذه النظرية تنعدم في المجتمع روح التعاطف والتعاون، وتسود الأنانية في طبقة المرابين وملاك المصانع الذين يتحكمون في الأموال الطائلة، وذلك كله على حساب طبقة الفلاحين والعمال الذين لا حول لهم ولا طول، وليس لهم أمام أصحاب الثراء إلا الخشوع والخضوع والعيشة النكدة في مجتمع يزعم أنه بلغ القمة في الرقى والمدنية.
وفي هذه الحالة لا مفر للمعوزين من إحدى طريقين:
إما ملء بطونهم عن طريق ارتكاب الجرائم من قتل وسرقة وربا.
أو الخلاص من هذه الحياة بالانتحار بأي وسيلة من وسائله الشائعة لدى الغرب.
أما النظام الشيوعي فيقوم على الأمور التالية:
أ - وسائل الإنتاج حق مشترك بين أفراد المجتمع ولا حق للأفراد بصفتهم الفردية أن يملكوا شيئاً منها ويتصرفوا فيها حسب رغباتهم.
ب - المجتمع يهيأ للأفراد مرافق العمل، وهم يقومون بأعمالهم على الوجه المطلوب منهم.
ج - لا وجود في هذا النظام للملكية الشخصية فضلاً عن أنه لا يحق للفرد جمع الأموال وتوظيفها في المجالات التي عليه الارتزاق منها.
د - لا وجود في النظام الشيوعي للربا ولا تستسيغ المبادئ الشيوعية أي شكل من أشكاله، إذ هي تستأصل جمع الأموال الذي هو أصل للربا.
ولكن الشيوعية تراجعت عن هذه المبادئ وسارت في ركب الرأسمالية وخصوصاً في إباحة الربا، إذ أجازت الأنظمة الشيوعية للفرد الذي يزيد راتبه عن حاجته أن يوظف أمواله في المصارف لتدر عليه الأرباح.
وبهذا العرض لهذين النظامين نجد أنهما على طرفي نقيض، فالنظام الرأسمالي يجعل الفرد المتملك هو كل شيء في المجتمع، ويهمل الأغلبية الساحقة الذين لا يملكون رءوس المال، ويوجد الضغائن بين هذين الصنفين. ولا يوجب بأي حال من الأحوال ومهما بلغت درجة الفقر والعوز على أصحاب رؤوس المال شيئاً في أموالهم، بل لا يحبب عليهم الإنفاق، وإنَّما يذكي في نفوسهم حب الذات وتكديس المال.
وعلى النقيض من هذا النظام يأتي النظام الشيوعي الذي يلغي جانب الفرد نهائياً ويحاول أن ينعش جانب المجتمع، ولكن بوسيلة فاسدة تقضي على روح العمل عند الأفراد وتجعلهم كالآلات يسخرهم الحكام الشيوعيون لنيل مقاصدهم في جمع الأموال الطائلة.
وكلا هذين النظامين لا يتفق مع فطرة البشر؛ لأنهما يقومان على الظلم والعسف والإرهاب وتحكم بعض الأفراد على حساب الأكثرية المحرومة.
وما زال النظام الرأسمالي يحتل السيطرة على اقتصاد أكثر دول العالم، ويسيطر عليها تحت غطاء (العولمة).
وأخذ يُنادى بها ويروّج على أنها المخرج من الواقع المظلم الذي تعيشه كثير من الأمم؛ ليخرجها من انحطاطها إلى مدارج النهضة، حسب زعم أنصار العولمة.
ومن الإجراءات التي اتبعها الفكر الرأسمالي لعولمة الاقتصاد تأسيسه لمنظمة التجارة العالمية، التي تعتبر امتداداً لاتفاقية (الجات)، وهي: الاتفاقية العامة على الرسوم الجمركية والتجارة.
وتهدف إلى تحرير تجارة السلع الزراعية والصناعية والمنسوجات والخدمات، وتحرير التبادلات التجارية والتدفقات المالية الناتجة عن العقود الحكومية الضخمة.
ولما أخفقت (الجات) في تحقيق ما أرادته الدول الرأسمالية، وذلك أن الاتفاقيات والتوصيات التي تقوم بها (الجات) لا تعتبر ملزمة للأعضاء، فاستعاضت عنها بـ (منظمة التجارة العالمية) التي رأت النور في مراكش عام 1994م وبدأ العمل بها 1995م.
ومن أهم سلبياتها:
1- إن فتح الأسواق وحرية التجارة ستؤدي إلى غلبة الاستثمار الأجنبي وسيطرة الشركات المتعددة الجنسية التي تنتج أكثر من 87% من واردات العالم و94% من صادراته؛ وبالتالي سيضعف الإنتاج الحكومي ويعاني من الركود لعدم قدرته على المنافسة مما سيشل اقتصاد كثير من الدول النامية.
2- سيؤدي الدخول في منطقة التجارة العالمية إلى توقف الدعم الحكومي للمنتج الوطني وبالتالي إلى ارتفاع أسعار تلك المنتجات وبالأخص الزراعية؛ فينعكس على زيادة الاستيراد والشراء من المنتجات العالمية الأرخص؛ فتضعف بالتالي المنتجات الوطنية وتخسر شركاتها.
3- زيادة معدل البطالة والتضخم في كثير من الدول نتيجة ارتفاع الأسعار المتوقع.
4- اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء؛ لأن العولمة الاقتصادية تؤكد مبدأ المصلحة الفردية فقط، كذلك ستصاب الشعوب بحمى الاستهلاك والشراء نتيجة إغراق الأسواق بالمنتجات الكمالية وطغيان الدعاية والإعلان على عقول الناس؛ مما يحقق ثراءً أكبر للأغنياء وفقراً للبقية من الأفراد؛ والسبب الأخير هو المحرك الأساسي للاحتجاجات الشعبية العالمية التي انطلقت من حي وول استريت في نيويورك، وشمل أكثر من ثمانين دولة حول العالم، خصوصاً العالم الرأسمالي.
ومن هنا كان من المهم بيان الدور الذي يمكن أن يقوم به الاقتصاد الإسلامي لحل مشكلات العالم الاقتصادية، وكيف يحقق للأفراد النماء والاستقرار والكفاية دون الوقوع في منزلق الحاجة والعوز.
أما النظام الإسلامي فالجانب التطبيقي فيه ضعيف؛ بسبب هيمنة الدول الأجنبية على بلاد المسلمين، وإقصائهم للشريعة الإسلامية من التطبيق والتحكيم في شؤون الحياة.
وتأتي الحاجة للنظام الاقتصادي الإسلامي في عصرنا الحاضر أكبر وأشد من أي عصر آخر لأسباب، منها:
1- أنه يعالج باطن الإنسان وكيانه الداخلي، ويطّهر نفسه بالمراقبة المستمرة لله عز وجل، ويربطه بالإيمان بالله واليوم الآخر. ويظهر ذلك من خلال صور الإنفاق للأقربين والمحتاجين، وأداء الزكاة، والتكافل والبر بالأيتام المحتاجين، وعدم الغش وأكل أموال الناس بالباطل والخوف من الإضرار بالآخرين.
2- تحقيق العدالة والتوازن بين حاجات الفرد والمجتمع. ومصلحة الفرد والجماعة.
3- دوره الكبير في علاج الأزمة المعاصرة التي بدأت في السبعينات من خلال المظاهر التالية:
أ - فقدان آلية الأسعار لفعاليتها في مواجهة الأزمات فالأسعار فيما مضى تتجه نحو الانخفاض في وقت الأزمة أما الآن فتتجه نحو الارتفاع وهو ما يسمى بالتضخم الركودي.
ب - أزمة الديون الخارجية التي تحكم أكثر الدول في العالم.
ج - النهب المستمر للدول الفقيرة من خلال استنزاف الفائض الاقتصادي فيها.
وبحسب الدكتور رفعت السيد العوضي فإن الاقتصاد الوضعي له أسسه الفلسفية والاقتصادية، التي يبنى عليها، وله فروضه التي يقوم عليها التحليل فيه، وحيث تحكم سلوك وحداته الاقتصادية.
وعندما يدرس الاقتصاد الوضعي فإنه يكون محكوماً بهذه الأسس، سواءً أعلن هذا، أو لم يعلن.
ولا شك أن للاقتصاد الإسلامي أسسه وفروضه، سواء تناقضت كلية مع أسس الاقتصاد الوضعي، أو جاء اتفاق في بعض الجزئيات.
ووضع الدكتور العوضي تعريفاً لبعض أسس الاقتصاد الوضعي وموقف الإسلام منها:
1- الاقتصاد الوضعي مؤسس على أن مصدر المعرفة هو الإنسان، فهو قادر بإمكانياته الذاتية أن يكتشف القوانين التي تحكم الظواهر، ومنها الظاهرة الاقتصادية، وأنه قادر على هذا الاكتشاف بعقله، وليس بمساعدة قوى خارجية غيبية، ثم قادر أن يسيطر على الظواهر، ومنها الظاهرة الاقتصادية بواسطة القوانين التي تحكم حركتها.
مصدر المعرفة على هذا النحو الذي يؤمن به الاقتصاد الوضعي ليس مقبولاً إسلامياً. إن مصدر المعرفة في الاقتصاد الإسلامي فيما هو محكوم بفقه هو الله، وفيما دون ذلك فالإنسان يعمل عقله وفق ضوابط شرعية.
2- في الاقتصاد الوضعي المستهدف هو اكتشاف القوانين، التي تحكم الظواهر الاقتصادية، بل إن ذلك يعتبر هو موضوع علم الاقتصاد، في مقابل ذلك فإن الاقتصاد الإسلامي يهتم أولاً بتحديد طبيعة وشكل العلاقات بين أفراد وفئات المجتمع كما يهتم باستهداف تحقيق غايات معينة.
والمقابلة بين الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي توضح ما يلي:
إن الاقتصاد الإسلامي يبدأ بتحديد الغايات المستهدفة، ويشكل العلاقات، ولا يبدأ باكتشاف القوانين؛ لأنها في حقيقة الأمر معطاة لما سبق تقريره من غايات وعلاقات.
3- الاقتصاد الوضعي من حيث محرك الاقتصاد تتنازعه فلسفتان: الفلسفة الفردية، والفلسفة الجماعية، في الفلسفة الفردية باعث الاقتصاد المصلحة الخاصة، ولذلك فإن الحرية الاقتصادية هي الوعاء الملائم للاقتصاد، وإن أكفأ دور اقتصادي للدولة هو ألا يكون لها دور.
بينما الفلسفة الجماعية تقوم على النقيض من ذلك في الاقتصاد الإسلامي فإن الفرد أحد أشخاص الاقتصاد، ولذلك فإن المصلحة الخاصة معتبرةٍ، والدولة أيضاً أحد الأشخاص، ولذا فإن المصلحة العامة معتبرة اعتباراً مباشراً.
4- الفكر الوضعي قائم على أن أحسن اسم لعلم الاقتصاد هو أن ندعوه علم التبادل، ولذلك فإن السوق، هو ما يبدأ به وينتهي إليه الاقتصاد.
السوق، وكيف يصل إلى التوازن، وكيف يمكن أن يحدث الاختلال، وما الذي يسببه، وكيف يمكن العودة إلى التوازن. إن هذا هو شاغل الفكر الاقتصادي الوضعي.
في مقابل ذلك، فإنه قد يمكن القول: إن من أحسن ما يسمى به الاقتصاد في الإسلام هو أن ندعوه علم الاعمار، كيف يحقق الإنسان الاعمار، والاعمار المقبول، وما الذي يعمل عليه، إن هذا كله هو شاغل الفكر الاقتصادي الإسلامي.
ونقل الشيخ الطيار عن قوله: ".. فنظرية الإسلام الاقتصادية بكلمات مختصرة هي أن الرابطة بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة وثيقة من حيث فطرتهما، فمن الواجب أن تكون بينهما الموافقة والمعاونة لا المزاحمة والمصارعة".
أركان الاقتصاد الإسلامي
يقوم الاقتصاد الإسلامي على ثلاثة أركان:
الركن الأول: الملكية المزدوجة:
وهي الملكية الخاصة التي يختص الفرد بتملكها دون غيره، والملكية العامة هي الملك المشاع لأفراد المجتمع.
والاقتصاد الإسلامي يقوم على تلك الملكيتين في آن واحد، ويحقق التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، ويدعم هاتين المصلحتين طالما لم يكن ثمة تعارض بينهما، وكان التوفيق بينهما ممكناً.
أما لو حصل التعارض فإن الإسلام يقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، ومن الأدلة على ذلك:
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبيع حاضر لباد)) [رواه البخاري]، يعني أن يكون له سمساراً فيرفع السعر على الناس بأعلى مما لو باع البادي بنفسه.
- قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تلقوا الركبان)) [رواه البخاري]، فالمتلقي سيشتري بسعر أقل، وسيبيع الناس بسعر أعلى، وهو فرد قد حرم الناس من الشراء من الركبان أنفسهم بسعر أقل.
- أجاز بعض الفقهاء إخراج الطعام من يد محتكره قهراً وبيعه على الناس.
يتبع