كيف يُبيح الشرع للآباء إلزام أبنائهم بالعبادات والتكاليف الشرعيّة؟

السؤال :


كيف يُبيح الشرع للآباء إلزام أبنائهم بالعبادات والتكاليف الشرعيّة؟
أرى أن الولد إذا ضُرب لأنه لا يصلي ولا يقتنع بالصلاة؛ سيصبح منافقًا يُصلي خوفًا من والديه وليس باقتناع وخوف من الله.
وهل {لا إكراه في الدين} تُطبق فقط على غير المسلمين أو على المسلمين أيضًا؟

الجواب يتضمن ٣ محاور:


بيان أهمية وضرورة الإلزام بوجه عام، وفي التربية على وجه الخصوص.
معنى قوله تعالى {لا إكراه في الدين}.
ردّ شبهة أن الإلزامات الشرعية تُنتج منافقين.

المحور الأول:


بيان أهمية وضرورة الإلزام بوجه عام وفي التربية على وجه الخصوص.

أولًا: هناك عددٌ من الأخطاء والأوهام عند من يريد نفي الإلزام مطلقا، وهي:
الوهم الأول:ادّعاء أن النفس تعتاد الفضائل وتفعلها بمجرد القناعة .
فعامة الفضائل عند عامة الناس تكون بدايتها بنوع من الإلزام والحض الشديد؛ حتى تألفها النفوس وتعتادها، فهذه طبيعة النفس وجبلتها أنها تميل للركون والدعة ما لم يكن ثَمَّ باعث قوي وحافز شديد، ثم إن النفوس تميل مع هواها وتسترسل في السير على مقتضى الطبع، فتحتاج إلى تهذيب وتقويم يجريها على المنهاج السديد. والمكارم لا تؤلف إلا بنوع من القسر سواء كان ذلك قسر الإنسان لنفسه أو لغيره معينًا له ومروِّضًا له على درب الفضائل، والمكارم منوطة بالمكاره.
فالقول بأن الفضائل تعتادها النفس وتقبل عليها بمجرد القناعة هذا محل وهم كبير، فكم من الناس من هو مقتنع مصدق لا إشكال عنده من الناحية النظرية، لكنه متراخٍ في العمل، مستروحٌ إلى الأماني، راكبٌ مطية التسويف، فيترك الفضائل وهو يحبها ولا يأباها؛ جريًا على مألوفات النفس، وطاعة لها في هواها.
وقوام التكليف الشرعي: هو إخراج النفس من داعية الهوى وترويض الطبع على الطاعة، وذلك كله ليس موقوفًا على مجرد القناعة؛ بل هو محتاج إلى كسر للشهوات، ورغَبٍ عن الرغبات، وتضحية بالملذات، فالنعيم لا يدرك بالنعيم، والنفس لا بد لها من كبح لجام هواها، وإلا تمادت.
الوهم الثاني: تصوّر أن جميع أبناء المسلمين بمجرد الإلزام الشرعيّ سيصبحون في هذه الحالة من النفاق وبغض التدين .
فإضافة على ما سبق، هناك تصوّر وهمي في استشكال السائل من جهة ثانية؛ فعامة أبناء المسلمين وبناتهم الذين نشأوا نشأة إسلامية سوية، فإنهم يألفون مظاهر التدين باكرًا، بل يحاولون تقليدها بأنفسهم ومحاكاتها رغبًا وإقبالًا. فكونه يؤمر ثم لا يأتمر لكونه لم يقتنع؛ فهذا لا وجود له إلا في خيال من توهمه، بل الأصل أنه يتشوق للمحاكاة من غير طلب، فكيف إذا وقعت معاهدته في سن التنشئة والتربية على الفضائل ورؤيته لها ماثلة أمامه في شخص أبيه وأمه والأقربين؟
المقطوع به والحالة هذه أنه لن ينفك عن الإقبال والإلف. فإذا أُمِر؛ فالأصل أن يستجيب، وقد يتخلف حينا، وتخلفه حينئذ ليس عن عدم اقتناع، وإنما لما قدّمنا من عدم ارتياض الطبع، وصعوبة مجاهدة النفس والهوى، فهذا يأخذ في الزوال شيئًا فشيئًا حتى تعتاد النفس وتألف.
ولذلك؛ فعامة أُسَر المسلمين حاضرًا وماضيًا لم تعانِ من هذا النوع المذكور في السؤال وهو وجود ناشئ غير قانع فيجبر على ضد قناعته، وإنما الذي يعرفه المسلمون في كل العصور هو القانع الذي يمتثل حينًا ويتراخى حينًا، وهذا مردود إلى تهذيب النفس وترويض الطبع، فإن ترك الامتثال لا يلزم منه عدم الاقتناع كما تقدم مرارًا.
لكن بعض الأُسَر المعاصرة لا يرى فيها الناشئ وهو في طور النشأة مظاهر التدين ولا الحرص على شعائر الدين، فيكون أمره بعد ذلك بالطاعات أمرًا بما لا عهد له به؛ فيشتد عليه ويشق عليه، وربما وقع له اشتباه في تناقض القول والفعل. وهؤلاء قد أهملوا جزءًا مهمًّا من الأمر الشرعي في التربية الصالحة؛ لا جرم إذن ألا يفيدوا من الوسيلة المكملة من الضرب والحزم والإلزام؛ إذ ذاك إنما يكون لمن تهيأت له أسبابه وتواترت لديه مقدماته، والله المستعان.

الوهم الثالث: ادّعاء أن النفس لا تستطيع أن تفعل الطاعة إلا وهي مستوفية تمام الرغبة والإقبال.
وهذا القول مُحال، وما زال المرء الكبير -فضلًا عن الصغير- يجاهد نفسه على العبادة طوال حياته، وربما بلغ مرتبة التلذذ التام بها، وربما بقي على جادة المجاهدة، وهو في كل ذلك مطيع لأمر الله مصدق بوعده ووعيده، لكنه يعالج النفس ويسوقها إلى الله سوقًا.
فهؤلاء الذين يظنون أن شرط الإلزام بالعبادة هو تمام المحبة لها وتمام الإقبال عليها قبل فعلها هم يطلبون محالًا، ولازم قولهم ألا تفعل فضيلة ولا تنال مكرمة ولا يتعبد بعبادة ولا يؤتى واجب. فهذا تصور خيالي لا واقع له في النفوس البشرية.

ولهذا؛ كان السلف محكمين أمر هذا الباب، ويعلمون أن للنفوس إقبالًا وإدبارًا، وأن ملاك الأمر المجاهدة والدأب، ولا سبيل إلى الفضائل بغير ذلك، والله المستعان.
ثانيًا: ومما يُظهر تناقض من يُطالب بعدم إلزام الطفل في أي شيء من التكاليف الشرعيّة:
أن ولى الأمر يُلزم طفله في كثيرٍ من الأمور الخاصة بالتعليم والصحة وغيرها، ولا يرى فى هذا اشكالًا، بل ويمنعه ويعاقبه بكل الطرق إن فعل ما يضر به نفسه كشرب المخدرات أو قيامه بفعل ينافي الأخلاق، ولا يقول أحد في هذه الأمور ما يقوله في أمر الصلاة والحجاب وغيرها، وهذا دليل على أن الإشكال ليس في فكرة الإلزام ذاتها، لأنها تُطبق بالفعل فى العديد من الأمور، وإنما في هوان الدين عندنا وقلة الاهتمام به والحرص عليه، رغم أن الدين وغرسه في نفوس الأبناء يجب أن يكون أول الواجبات وأكبر الاهتمامات، وإن قَصر فيه الطفل أو فرط فيه يتألم الأبوان أضعاف ألمهم عند فوات دنيا أو حصول ضرر في الصحة أو غير ذلك.
ثالثًا: وبناءً على ما سبق:
فإن عدم الاقتناع بالحكم الشرعي إن قُصد به عدم الرغبة فلا عبرة به.
وأما إن قُصد به المنازعة في وجوبه -وهذا يُستبعد وجوده عند الناشئة- فهذا يجب أولًا أن يُعالَج كإنكار لحكم شرعي ويُناقش صاحبه ويُرفع عنه الشبهة، ويزداد الأمر خطورة إذا كان إنكارًا لحكم معلوم من الدين بالضرورة -كالصلاة والحجاب-، فإذا أصرَّ فإنه يُعاقب من قِبَل من بيده ولاية شرعية عليه، سواء كانت ولاية عامة أو خاصة، وهذا من أعظم أسباب الولاية الشرعيّة، فالله سبحانه وتعالى جعل هذه الولايات لتكون الطاعة كلها لله عز وجل، ويكون الدين كله لله، ويُعمل بشرعه ويُحكم به، وحفظُ الدين مقصدٌ من مقاصد الشريعة الكبرى وأعلى ضروراتها الخمس.
وهذا بالنسبة للإلزام بشكل عام ..
رابعًا: أما بالنسبة للضرب على وجه الخصوص -والمذكور في السؤال- ،
لا بعد من معرفة أن الضرب يكون بعد ثلاث سنوات يقوم فيها الوالدان بتدريب الصغير فيها على الصلاة بوسائل الترغيب فقط، ولو طُبق هذا فعلًا، فالطبيعي أن يلتزم الطفل ويحب الصلاة ويُستبعد خلافه.
ولكن إن حصل وامتنع عن الصلاة، يجب على الأب الإلزام وليس واجبا عليه الضرب، فالإلزام لا يعني الضرب، وإنما قد يقع بأمور أخرى كثيرة، وإن استنفد كل طرقه وظل الطفل ممتنعا، وجب على الأب عقاب الطفل بالوسائل المشروعة، والتي قد يكون منها الضرب لكن شرط ألا يكون ضربًا مبرحًا بل هينًا للتأديب فقط، وألا يترتب عليه مفسدة أكبر وغير ذلك، فالأمر له شروط وضوابط.
رابعًا/ ننبه على أن العقاب لا يعني ألا نفعل غيره، فيظهر الأمر بهذه المفارقة وكأنه إما تأديب وإما صلاة باقتناع وخوف من الله، بل العقاب ومنه الضرب ليعرف الطفل أهمية الصلاة وعِظم تفويتها فيُقدر الأمر، تمامًا كما تضربه الأم فى عمر أصغر اذا اقترب من نار وكهرباء ليستعظم الفعل، وليتعود عليها وتكون سجية عنده لا يفوتها، مع مراعاة غرس قيم استشعار مراقبة الله والخوف منه، والحديث عن أهمية الصلاة وجمالها، وغير ذلك بالتوازي مع الإلزام والتأديب.

المحور الثاني:


معنى قوله تعالى {لا إكراه في الدين}.
– معناها – كما قال عدد من المفسرين – نفي الإكراه على الدخول في الإسلام بشكل خاص، وليس نفي الإلزام عن المسلمين فى فعل أوامر الشريعة، ولا تؤخذ الآية على عمومها.
ولو أخذنا الآية بعمومها لأبطلنا عددًا كبيرًا من الحدود والعقوبات الشرعيّة مثل حد الزنا وجلد شارب الخمر، فإقرار المسلم بوجود الحدود الشرعيّة المنصوص عليها في القرآن والسنّة معناه أنه يخرجها من عموم {لا إكراه في الدين}، لأن العقوبات نوع من الإكراه والإلزام على اجتناب هذا الفعل، فلماذا يُخصص هذا الإلزام من عموم الآية؟ تخصيصه في هذا حجّة عليك في تخصيص غيره من الإلزامات الشرعيّة.
ولا يُمكن إنكار الحدود والتّعزيرات لأنها معلومة من الدين بالضرورة ومشروعة بإجماع المسلمين، ومن يخالف في ذلك فهو يتهم المسلمين بأنهم ضُلّال وأنهم اخترعوا في دين الله ولم يفهموا {لا إكراه في الدين}، وهذا باطل بلا شك.
وهناك الكثير من النصوص الشرعيّة التي تجعل من مهام الولايات الخاصة والعامة إلزام الناس بأوامر الدين، إضافة للنصوص التي تحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطلع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»
وكل هذا يؤكد لنا مشروعية إلزام المسلمين بالأحكام الشرعية الذي هو من مظاهر هيمنة الدين وظهوره، وبدون شك هذا لا يتعارض مع قوله تعالى:{لا إكراه في الدين} ، لأنها تتحدث عن حالة خاصة كما ذكرنا.

المحور الثالث:


ردّ شبهة أن الإلزامات الشرعية تُنتج منافقين.
يُرجي مراجعة هذا الجواب السابق فيها

اضغــــط هنــا لمراجعته

والله أعلم.
الكاتب: الفريق العلمي لقسم الأحكام الشرعيّة لموقع المحاورون