الرد على شبهة أن الإلزامات الشرعيّة ستؤدي إلى وجود منافقين

الشبهة :



(الإلزامات الشرعيّة ستؤدي إلى وجود منافقين)
يقول السائل : كيف نُطبق الشريعة ونُلزم الناس بأوامرها، ونُحِدُّ من حريتهم فى اختيار الالتزام بأوامر الدين من عدمه، وهذا سيجعلهم منافقين بلاشك؟

الجواب :

سيكون الجواب إجمالا في أربعة محاور :
تصحيح مفاهيم خاطئة حول النفاق .
مقاصد الشرع ومحاسنه في إلزام الناس بأوامر الشريعة.
اعتبارات أخرى تؤيد ضرورة إلزام النّاس بالشريعة دون النظر إلى احتمال أن ينتج عن هذا منافقون.
علاج النفاق الحقيقي .
أولًا : تصحيح مفاهيم خاطئة حول النفاق .

هذه الشبهة تتضمن خطأً كبيرًا في تصوير حقيقة آثار شيوع الفواحش علنًا على النّاس ، في مقابل حقيقة آثار منع المُجاهرة وإلزام النّاس بتطبيق الشرع . فمنع الحرام وإلزام النّاس ليس بالضرورة أن يُحرّض الناس على فعل الحرام في السر ومن ثمّ يُولِّد المنافقين ، بل هو في الحقيقة يساعد النفوس في الكف عنه واستثقال التجرؤ على فعله والندم إن فُعل سرًا، كما أن السماح به في العلن لن يجعل الناس أتقياء يُمارسون الدين فى الظاهر والباطن، بل يؤدي إلى قبول الحرام والسقوط فيه واعتياده وغربة الدين. وبتصحيح هذا التصور يتضح أن إلزام النّاس بالأحكام الشرعيّة هو الذي يساعد المجموع على الصلاح والتدين وليس العكس .
من المغالطات كذلك في هذا السؤال: فَهم حقيقة النفاق، فعلى فرض أن هناك عددًا من النّاس سيرتكب المحظور سرًا لأن الدولة تُطبق الشريعة، فهذا لا يُعد نفاقًا، بل العكس؛ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بعدم الجهر بالمعصية إن ضعفت النفس وقال: “كُلُّ أَمَّتِي مُعَافًى إِلا المُجاهرينَ”، ولم يُسمِّ فاعل هذا مُنافقًا ، بل هو من المُعافين؛ ذلك لأن كل بني آدم خطاء لكن الجهر بالمعصية جرم أكبر إضافي على الذنب فيه استخفاف بالمحرمات، واستهانة بالدين، ونشر للفواحش.


ثانيًا: مقاصد الشرع ومحاسنه في إلزام الناس بأوامر الشريعة.

في إلزام الناس بأوامر الشرع مقاصد عظيمة، منها :
ظهور الدين، كما قال تعالى {ليُظهره على الدين كله} ، وهذا من أعظم مهام الولاية الشرعيّة ، فالله -سبحانه وتعالى- جعل هذه الولايات -من أكبرها لأصغرها-، لتكون الطاعة كلها لله عز وجل، وتكون كلمة الله هي العليا، ويُعمل بشرعه سبحانه ويُلتزم به.
حفظ دين النّاس، وتشجيعهم على فعل الواجبات واجتناب المحرمات، فعدم شيوع المحظورات واعتيادها يضع حاجزًا نفسيًا كبيرًا بين النّاس وبينها، ويُخوفهم من الإقبال عليها ، لذا حث الشرع على عدم المجاهرة بالذنب مطلقًا، بل منع حتى مجرد الإخبار به؛ لأن النفس البشرية تتأثر بمن حولها، فتهيئة الجو العام يُولد حب التدين في نفوس الناس والالتزام بالشرع.
ومن هنا كان إلزام الناس بالشريعة وصبغ المجتمع صبغةً دينية يطوي في داخله رحمات ومقاصد عظيمة؛ لما فيه من علو الدين وهيمنته، وحماية الناس من فساد دينهم، وسد الذرائع المؤدية لارتكاب الحرام، وفعل كل ما يُيسر ويُساعد على الالتزام بالأوامر الشرعيّة.
ثالثًا: اعتبارات أخرى تؤيد ضرورة إلزام النّاس بالشريعة دون النظر إلى احتمال أن ينتج عن هذا منافقون.

سبق واتضح أن مجرد فعل المحظور سرًا ليس نفاقًا، وأن النفاق مفهومه مغاير لذلك، فعلى فرض ظهور منافقين حقيقيين بسبب الإلزام بالشرع فهذا لا يجعلنا نترك الإلزام لعدة أمور، منها:
1- إذا افترضنا أن عدم الإلزام سيحدُّ من ظاهرة النفاق فإن هذا النظر المصلحي لا قيمة له من جهتين، من جهة أنه خالف النصوص الشرعيّة التي تأمر بهذا الإلزام بل وتجعله من أعظم مقاصد الولايات الشرعيّة، فهذا يُعتبر إذًا من صنف المصلحة الملغاة التى لا يُعتد بها لتعارضها مع الشرع. ومن جهة أن مفاسد هذه المصلحة المفترضة أكبر بكثيرٍ منها، لأن فيها فوات ما ذكرناه من مقاصد عظيمة ، ولأن ظاهرة النفاق لا يُمكن إلغاؤها بالكليّة إلا بظواهر أخرى، مثل: إعلان الردّة، وشيوع الفواحش، وغربة الدين، والعمل بالمعاصي والفساد في الأرض، وهذا ضرره وفساده أكبر من أي مصلحة أخرى مزعومة .
2- كذلك على فرض أن الإلزام بالشريعة سيؤدي إلى نفاق البعض، فمن المهم معرفته أن وجود المنافقين في المجتمع سنة كونيّة قدرها الله جل علاه ، فكما أن هناك مؤمنين وكافرين ، كذلك هناك منافقون.
ولابد من معرفة أن أسباب النفاق مختلفة كثيرة، منها :
انتصار الإسلام وعلو الحق وتمكينه، فالناس تحب دومًا أن تكون مع المُمَكّن له، فهل سنترك الانتصار والتمكين خشية أن ينضم إلى صفوفنا منافقون !؟
ومن الأسباب كذلك الرغبة فيما عند المسلمين من غنائم وفىئ وزكاة وغيرها، لذا كان المنافقون يحبون الخروج للغزوات السهلة ليفوزوا مع المسلمين بالغنائم وغيرها ويتخلفون عن الغزوات الصعبة، فهل نحرم المسلمين من ذلك خشية أن ينافق البعض طمعًا في هذا؟
وبعض الأسباب قد يرجع إلى حب الكفار والتعلق بهم فيكون الشخص مذبذبًا بين الفريقين.
وبعضها يرجع إلى ضعف الوازع الديني وحب الشهوات والركون إلى الدنيا .
وغير ذلك من الأسباب، فوجود المنافقين أمرٌ واقعي أسبابه متعددة، فلا يصح أن نُفوت مصالح ونُضيع مقاصد خوفًا من وجودهم ، فهم ابتلاء قدره الله جل علاه وكان موجودًا حتى بين أطهر الخلق وفي خير القرون، فلا يُنكر أحد وجود منافقين في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ، ولهذا لن يكون عدم الإلزام بالشريعة هو الحل في منع النفاق.
3- كما أن التمادي فى هذا الأمر عواقبه وخيمة، فعدم إلزام أحد بالشريعة سيدخل فيه تعطيل الحدود والتعزيرات وكل ما يخص الدين، ويكون الدين مجرد علاقة روحية بين العبد وربه كما يريد العلمانيون وغيرهم، وهذا يتصادم مع دين الإسلام وثوابته التي تجعل الدين مهيمنًا على كل شيء، ولم تفصل بين الدين وأي شيء آخر، فالدين يُهيمن على حياة الأفراد والدولة والسياسة والاقتصاد وكل شئ، إضافة على ما فيه من تعطيل النصوص الشرعيّة، والحكم بغير ما أنزل الله.
4- ومما يُحتج به حتى على غير المسلم: أن العقلاء كافة متفقون على وجوب إلزام الناس لينضبط سير المجتمعات ، فلا تجد مثلًا من يقول: إن معاقبة السارق وإلزام الناس بقواعد المرور ومراقبة البضائع سيجعل الناس يمارسون المخالفات في السر، وبالتالي لا فائدة في شيء من ذلك، وليُقتصر على الإلزام الذاتي ، بل هناك إلزام في كل شيء حتى فيما لا يتعدى ضرره على غير الفاعل، كشرب المخدرات مثلًا، ولا يقول أحد فلنتركهم ولا نعاقبهم حتى لا يشربوها سرًا، هذا لا يقول به عاقل! ، بل يتقبل الجميع هذا الإلزام ،وهنا يظهر التناقض في قبول هذا ورفض الإلزام بالشريعة على الرغم من أن كليهما إلزام ، ولكن الغرب جعل هذا الإلزام في كل شيء سوى الدين، وذلك لهوان الدين عندهم، فمن العادي أن تُلزم الشخص بشيء يخص صحته، لكن فيما يخص الدين تتركه! ، وهذا يخالف مقاصد الإسلام التي جعلت حفظ الدين أعظم الضرورات .
رابعًا: علاج النفاق الحقيقي:

ومما سبق يظهر أن القول بأن عدم إلزام الناس بالشريعة يحدُّ من ظاهرة النفاق ما هو إلا وهم، مآله الحقيقي شيوع المنكرات واعتيادها، وغربة الدين، وجعله شيئًا هامشيًا، وتعطيل الحدود، وعلمنة الدولة، أمّا علاج النفاق الحقيقي فيكون من خلال :
الاهتمام بصلاح الأفراد، والإتيان بأسباب زيادة التقوى عندهم، وتربيتهم على حب الإسلام، والتوازن بين خلق الوازع النفسي فيهم وتذكر مراقبة الله وخشيته سرًا وعلنًا مع الإلزام، فإصلاح نفس المنافق هو العلاج الحقيقي لأصل المشكلة، وليس تركه وما يشاء كما يتوهم البعض. وما أكثر النصوص الشرعيّة التي تُصلح نفس المنافق بالترغيب والترهيب وتُحذر من فعله علاجًا له ووقايةً لغيره.

صبغ المجتمع بصبغة دينية، وجعل السمة الغالبة في المجتمع هي التدين، فيتأثر هؤلاء بالأغلبيّة، ومن يبقى سيبقى كما بقى منافقون في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- .
والله أعلم


الفريق العلمي لقسم الأحكام الشرعية بموقع المحاورون