تعرف على دور التجار في الحضارة الإسلامية
مختار خَواجَة
منذ أيام تحدثت الصحافة المصرية عن وفاة أحد التجار الكبار واصفة إياه بأنه “شاهبندر تجار مصر” في استمرارية واضحة لما رجّحه -قبل قرن ونصف- المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (ت 1300هـ/1883م) من أن تسمية “شاهبندر” اصطلاح مصري محلي خالص، وأن هذه اللفظة ظلت منذ قرون “تُطلَق في القاهرة على أمين التجار ورئيسهم ونقيب التجار”. وبرغم عدم دقة كلام هذا المستشرق فيما يبدو؛ فإن التسمية والوظيفة تؤكدان مستوى التقدم العظيم الذي كانت عليه التجارة والتجار في الحضارة الإسلامية ، وأنها وصلت إلى مستوى عالٍ من التنظيم والتركيب والإدارة الذاتية، بما يعنيه ذلك من ظهور أعراف تجارية مستقرة تضبط تعاملات التجار، بل وكيانات مؤسسية تجمعهم وتؤطر العلاقات بيهم، وتسهل تواصلهم مع السلطة ومناطق نشاطهم التجاري الخارجي، وحتى تأثيرهم في حركة الأحداث السياسية من حولهم.
لقد كانت التجارة مرتبطة بسياسات وقوانين مستمدة من الشريعة الإسلامية المعنية بضبط وإحكام قواعد معاملات الناس المالية عنايتَها ببيان تفاصيل إقامة شعائرهم الدينية؛ وهو الأمر الذي وفر بنية فعالة ومتطورة وبيئة عادلة وحرة ودافعة لحركة التجارة الإسلامية التي قادت المشهد التجاري والاقتصادي العالمي نحو تسعة قرون.
وقد عرف المسلمون التجارة التبادلية والتجارة النقدية، وتطورت -مع تقدم حركة التجارة- صناعة النقود وأسرار السكة، وتغير بذلك مفهوم الثروة حيث بات المال النقدي وأرصدته يمثلان قوة اقتصادية هائلة، فأثر على مجريات السياسة والعلم والثقافة بشكل كبير؛ خصوصا مع ظهور الوقف ودور التجارة في دعم الدعوة الإسلامية والحركة العلمية والمعرفية، وهو دور عريق يؤكد أن التجار المسلمين لم يكن غائبا عنهم البعد الاجتماعي الوظيفي للثروة.
ولعل ذلك البعد والحضور الديني والعلمي للثروة والتجارة هو ما جعل المؤرخ ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) يدعو -في ‘المقدمة‘- إلى أهمية تحرير العوائق أمام التجارة الدولية محذرا من تدخل السلطة في الاقتصاد، أو أن تتحول إلى منافس يفسد أجواء المنافسة الحرة بين التجار، وفي نفس الوقت انتبه إلى مضار الاحتكار التجاري والسوقي.
ويسعى هذا المقال لبلورة خلاصة تاريخية وافية عن معالم الإسهام الذي قدمه التجار المسلمون في الحضارة الإسلامية، ومن خلالها في التجربة التجارية الإنسانية التي يتفيأ العالم اليوم ظلال التراكم الطويل لخبراتها التجارية والاقتصادية، المصاغة من جميع الأمم وفي كل القارات وعبر آلاف السنين.
مجتمع تجاري
نزل القرآن الكريم في مكة وهي يومئذ مركز العرب التجاري الأهم في وسط شبه جزيرتهم، حيث أقامت قريش مجتمعا تتساوى فيه النساء مع الرجال في التجارة والصفق في الأسواق؛ إذْ “كانت قريش قوما تجارا من لم يكن تاجرا فليس عندهم بشيء”!! وفقا لأبي نعيم الأصبهاني (ت 430هـ/1040م) في ‘دلائل النبوة‘.
وكان قطب هذه الحركة التجارية مجموعة من المعاهدات التي أبرمتها قريش -عبر زعمائها- مع ملوك الدول المحيطة بجزيرة العرب، وقد أطلقوا على هذا النظام التجاري اسم “الإيلاف” ودعوا مؤسسيه: “أصحاب الإيلاف”؛ فكانت لهم مكانة عالية في نفوس قريش والعرب.
يقول الإمام أبو عبد الله القرطبي (ت 671هـ/1259م) -في تفسيره- إن “أصحاب الإيلاف أربعة إخوة: هاشم وعبد شمس والمطلب ونوفل بنو عبد مناف؛ فأما هاشم فإنه كان يُؤْلِف [إلى] ملك الشام، أي أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى الشام، وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس…؛ فكان تجار قريش يختلفون إلى الأمصار بحبل هؤلاء الإخوة فلا يُتعرض لهم”.
وقد ساهم نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم في هذا النشاط التجاري قبل تكليف بالرسالة بعمله وكيلا تجاريا لخديجة بنت خويلد (ت 3ق.هـ/619م) التي صارت زوجته فيما بعد، وكانت “امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة، وتبعث بها إلى الشام فيكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجل وتدفع إليه المال مضارَبةً”، أي يتاجر لها به مقابل نسبة من الربح؛ كما يروي الأصبهاني.
كما كان لكثير من الصحابة سابقة في التجارة فتواصل نشاطهم التجاري بعد دخولهم الإسلام؛ فطبقا للجاحظ (ت 255هـ/869م) -في رسالته ‘العثمانية‘- فإنه “كان أبو بكر (الصدّيق ت 13هـ/635م).. ذا مال كثير ووجْه (= جاهٍ) عريض وتجارة واسعة”، وكذلك كان عبد الرحمن بن عوف (ت 32هـ/654م) والزبير بن العوام (ت 36هـ/657م) وغيرهما.
وقد تحرّج بعض الصحابة -في بداية إسلامهم- من ممارسة التجارة في موسم الحج فأباح الله لهم ذلك بقرآن منزل؛ يقول الإمام ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في ‘كتاب العجاب‘- إن هؤلاء الصحابة “كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يشتغلوا بتجارة.. فأحِلّ لهم ذلك بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ}…، فأحلّ الله ذلك كله للمؤمنين: أن يعرّجوا على حوائجهم ويبتغوا من فضل ربهم” أيام الحج.
ثم سار التابعون على خطى الصحابة فنشأت بكثير منهم فئة العلماء التجار مثل سعيد بن المسيب (ت 93هـ/712م) ومحمد بن سيرين (ت 110هـ/729م). وتلاحقت على هذا الطريق أجيال المسلمين يتقدمهم علماؤهم الذين “أجمعوا على جواز شد الرحال للتجارة”؛ كما يقول الإمام السمهودي (ت 911هـ/1505م) في كتابه ‘وفاء الوفاء‘.
قواعد وعوائد
تشير مادة “تَجَرَ” لغةً إلى “تقليب المال وتصريفه لطالب النماء”؛ وفقا لـ الإمام النووي (ت 676هـ/1277م) في كتابه ‘تهذيب الأسماء واللغات‘. وتبعا لذلك يرى ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في ‘المقدمة‘- أن التجارة “محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرُّخْص وبيعها بالغلاء”، والمقدار النامي من رأس المال يسمى “ربحا”.
وقد تنوعت تعاملات التجار في نشاطهم التبادلي للسلع والبضائع؛ إذْ يوضح ابن خلدون أن الأرباح إنما تتحقق بإحدى وسيلتين: إما أن يخزن التاجر السلعة “ويتحيّن بها حوالة (= تغيُّر) الأسواق من الرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه، وإما أن ينقلها إلى بلد آخر تَنْفُق (= تَرُوجُ) فيه تلك السلعة”، كما يشرح علاقة الربح بحجم رأس المال فيقول إن “المال إذا كان كثيرا عظُم الربح [مهما قلّت نسبته] لأن القليل في الكثير كثير”.
وفي سبق تاريخي لقواعد السوق المقررة اليوم؛ يقدم ابن خلدون طائفة ثمينة من القواعد المستقرة في الحياة التجارية أيامها بفضل خبرات القرون المتراكمة من النشاط التجاري العالمي، منطلقا من مبدأ أن فهم التجارة وفنونها “يرجع إلى العوائد المتقررة بين أهل العمران” أي المراكز الحضرية.
ومن قواعده التجارية -التي يعتمدها خبراء المال والأعمال اليوم- أنه يربط بين الحاجة والعرض والطلب؛ فيقول إن “التاجر البصير بالتجارة لا ينقل من السلع إلا ما تعمّ الحاجة إليه من الغني والفقير والسلطان والسوقة”، ويحذر من نقل السلع التي لا يحتاجها إلا الخاصة في المجتمع، لأنه قد “يتعذر نَفاق (= رواج) سلعته حينئذ بإعواز (= تعذّر) الشراء من ذلك البعض لعارض من العوارض”، فيخسر التاجر فيما استورده.
كما ينبغي للتاجر أن “ينقل الوسط من صنفها (= البضاعة)” لأن الأنواع الغالية لا يشتريها إلا “أهل الثروة وحاشية الدولة وهم الأقل”، بينما تشتري غالبية الناس “الوسطَ من كل صنف” تجاري. ويلاحظ ابن خلدون ارتفاع أرباح المواد المجلوبة من أماكن بعيدة وبمعدلات خطورة عالية، لأنها “تكون قليلة مُعْوزة (= نادرة) لبعد مكانها أو شدة الغرر في طريقها، فيقلّ حاملوها ويعزّ وجودها، وإذا قلّتْ وعزّتْ غلتْ أثمانُها”.
ويرى أن التجارة تعتمد على حركة البضائع بين الأسواق وتخزينها لحين الحاجة إليها، مشيرا إلى أن الحياة الاقتصادية تزدهر “بالتوسط من ذلك، وسرعة حوالة الأسواق”، محذرا من استدامة الرخص أو الغلاء لأن ذلك يحد من حركة البضائع، وبالتالي فإنه “[يُـ]ـفسد الربحَ والنماء بطول تلك المدة”.
أما الاحتكار التجاري الذي هو إحدى معضلات التجارة في كل العصور؛ فيوضح ابن خلدون أن المشتهر بين المحنَّكين من ذوي التجارب التجارية أن الاحتكار “مشؤوم وأنه يعود على فائدته بالتلف والخسران”. وعموما جرَّم الفقهاء الاحتكار وأجمعوا على “أنه لو احتكر إنسان شيئا ما واضطر الناس إليه -ولم يجدوا غيره- أجبِر على بيعه”، وذلك “دفعا للضرر عن الناس وتعاونا على العيش”؛ طبقا لما جاء في ‘الموسوعة الفقهية الكويتية‘.
أما جمع البضائع ذاتها وتخزينها وبيعها بسعر ملائم فقد عبر عنه الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/796م) بقوله: “إن كان ذلك لا يضر بالسوق فلا بأس”، وهو ما يشبه حق الامتياز التجاري حاليا، ويرتبط بعدم الإضرار بالناس في المحصلة العامة من حيث حرمانهم من الخدمة الضرورية لحياتهم.
ويروي ابن خلدون عن أحد شيوخ التجار مقولة تتضمن قاعدة التجارة الرئيسية باعتبارها “اشتراء الرخيص وبيع الغالي”، ويصف سلوك التجار الفعلي قائلا إن “أهل النَّصَفة (= الإنصاف) قليل، فلا بد من الغش والتطفيف المجحف بالبضائع [عند صنعها]، ومن المطل في الأثمان المجحف بالرّبح” عند بيعها.
وفي إشارة إلى ما ينال التجار من ظلم يأخذ أحيانا لبوس الشرعية القضائية؛ ينصح ابنُ خلدون التاجرَ بأن يكون “جريئا على الخصومة بصيرا بالحسبان (= الحساب) شديد المماحكة مقداما على الحُكّام” أي القضاة، وإلا “فلا بد له من جاهٍ يدّرع (= يحتمي) به، يوقع له الهيبة عند الباعة، ويحمل الحكام على إنصافه من معامليه”!!
آليات وأساليب
تلك كانت نماذج من القواعد التجارية النظرية المتداولة في الأوساط المالية مما ضمّنه ابن خلدون في ‘المقدمة‘، وقد كانت مجسَّدة ومكمَّلة عمليا بمجموعة من النُّظُم التجارية التي تتشكل من طائفة واسعة من أنماط التعامل وأساليب التبادل وآليات التنافس والتكامل، مما تقتضيه طبيعة الحركة التجارية بين الأقطار المتباعدة لتغذية أسواق هائلة بشتى أنواع البضائع.
وقد استوعبت تلك النُّظُم مجموعة من الخدمات المالية المصاحبة للتجارة وأصنافا من العاملين مع التجار في أنشطتهم الاستثمارية؛ فكان منهم الوكلاء المسؤولون عن إتمام المعاملات التجارية في مناطق الإنتاج والتوريد، وإنجاز الصفقات والحوالات المالية لتجارهم، وتزويد التاجر بالبضائع من أماكن إنتاجها، وإمداده بالمعلومات عن الأسعار والأحوال العامة في مناطق نشاطهما التجاري.
وفي مقابل تلك الأنشطة والخدمات؛ كان الوكلاء يتقاضون أجورا ثابتة أو جزءا من الأرباح المتحصلة من تلك المعاملات فيما كان يسمى “القِراض” أو “المُضاربة”، وهو كما تعرفه كتب الفقه: أن يدفع شخص مالا إلى شخص ليتاجر به ويكون الربح -إن حصل- بينهما بنسبة يتفقان عليها.
وقد كتب الجاحظ ‘رسالة الوكلاء‘ لشرح واقع هذه الفئة من مكونات الوسط التجاري؛ فأوضح فيها أن الوكيل “والأجير والأمين والوصي في جملة الأمر يَجْرون مجرى واحدا” في طبيعة العمل والأداء، كما أكد أهمية جودة الفراسة في انتقاء الوكلاء وحث مسؤوليهم على منحهم “الأجرة السَّنِية” أي المكافأة المجزية، والعدل معهم في تحميلهم المسؤولية عن التلفيات.
ويرى الجاحظ أنه إذا اتهم الناسُ الوكلاءَ كلَّهم اختلّت الأحوال “واضطربت التجارات” وبالتالي سيسوء الحال، مؤكدا أن التجار لو “صاحبوا الجمّالين والمُكَارين (= مُلّاك الدواب المستأجَرة) والملاحين [في البحر] حتى يعاينوا ما نزل بأموالهم” من عقبات في الطريق؛ لأدى ذلك ربما إلى ترك التجار شحن السلع خشية على أموالهم من التلف.
أما التجار الكبار والشخصيات ذات المكانة العالية مجتمعيا فكان أحدهم يتخذ مدير أعمال يسمى “القَهْرَمان” وتسمى وظيفته “القَهْرَمة”، ويقول أبو منصور الأزهري (ت 370هـ/981م) -في معجمه ‘تهذيب اللغة‘- إن “القهرمان هو المسيطر الحفيظ” لما يؤتمن عليه من الأموال والممتلكات.
و”القهرمة” وظيفة مالية قديمة عُرفت في زمن الصحابة؛ إذ يفيدنا المؤرخ ابن سعد (ت 230هـ/845م) بأن عبد الله بن جعفر الهاشمي (ت 61هـ/680م) كان له “قهرمان” يتولى مباشرة تنفيذ أوامره المالية، ويروي في ذلك أنه “جلب رجل [تاجر] من أهل البصرة سكّراً إلى المدينة فكَسَد عليه، فذُكِر لعبد الله بن جعفر فأمر ‘قهرمانه‘ أن يشتريه فيدعو الناس إليه فيُنْهِبهم إياه” على سبيل الهدية والتبرع.
ومما يتصل بالنشاط التجاري وجود فئة السماسرة المحليين التي تكون واسطة بين التجار وأهل البلاد، فتتولى تسهيلات السكن وترويج البضاعة والترجمة بين التجار والأهالي عند اللزوم؛ ولذا حين زار الرحالة بنيامين التُّطَيْلي (ت 569هـ/1173م) جزيرة قيس/كيش بالخليج العربي لاحظ أن “أغلب سكان الجزيرة دلّالون ووسطاء بين.. الحشد الغفير من التجار”.
أما العاملون في سفن التجارة البحرية الإسلامية فكان منهم “صاحب المركب أو وكيله” وغالبا ما يكون هو التاجر نفسه، والربان “وهو الرئيس” أي القبطان، و”الكراني” وهو “كاتب المركب” أي مسؤول الإدارة والمالية على ظهر السفينة.
تقاليد مبتكرة
وقد اعتمد النظام التجاري الإسلامي مجموعة من الإجراءات التمويلية والتسهيلات الإدارية التي تضمن سلاسة الحركة التجارية بين الأقاليم؛ ومن ذلك إصدار سندات التحويلات المالية والصكوك التوثيقية التي تسمى اليوم “الشيكات”.
ويرى المستشرق الألماني يوسف شاخت (ت 1969هـ/1389م) -في بحث له بعنوان “القانون والدولة” ضمن الكتاب الجماعي ‘تراث الإسلام‘- أنها كانت من “أنظمة.. القانون التجاري [الإسلامي التي] انتقلـ[ـت] في العصور الوسطى إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، وقد اندمجت هذه الأنظمة في القانون التجاري المتعارف عليه في التجارة الدولية”.
ويؤكد شاخت أن “الشاهد على ذلك [الانتقال] مصطلحات [مثل لفظ] «Mohatra» المأخوذ من الكلمة العربية «مخاطـرة»..، ولـفظ «Aval» كلمة فرنسية محرفة من كلمة «حوالة» العربية أي تحويـل الديون..، وربما أيـضـا لـفـظ «شـيـك» (Cheque) جاء من الكلمة العربية «صك» أي الوثيقـة المكتوبة”.
كانت كتب التحويلات المالية تلك تسمى “السَّفاتِج” واحدتها “سَفْتَجَة”، وهي أن يُقرض التاجر شخصا مالا في بلد على أن يسدده له في بلد آخر، والهدف منها أن يتجنب التاجرُ المقرضُ مخاطرَ الطريق على نقوده إذا حملها معه، ولذا لم يكن التجار مضطرين لحمل الأموال أثناء رحلاتهم التجارية، إذ تؤدي “السفتجة” وظيفة الحوالات المالية بين التجار على نحو ما تقوم به اليوم البنوك وشركات الصرافة المالية.
أما الصكوك فهي “شيكات” ذلك الزمن المتضمنة لمستندات الديون والتعهدات المالية عموما، ومن أقدم النصوص فيها نص يقول إن الصحابي سعيد بن العاص (ت 59هـ/680م) كان يكتب صكا على نفسه إذا طلب منه أحد مالا معونةً ولم يكن عنده ساعتها مال، فكان يقول لمن يقترض منه: “اكتب عليّ سجلًّا إلى يوم يُسْري”، فلما مات “أتى غرماؤه.. بما عليه من بالصكاك، وكان في جملتها صكٌّ لفتى من قريش فيه شهادة مولى له بعشرين ألفا”! وفقا لبهاء الدين البغدادي (ت 562هـ/1167م) في ‘التذكرة الحمدونية‘.
ومن العجيب أن التاجر ابن حَوْقَل الموصلي (ت بعد 367هـ/978م) لم يذكر -في كتاب رحلاته الواسعة المعنون بـ‘صورة الأرض‘- من الصكوك المالية إلا صكًّا واحدا فريدا من نوعه رآه في أَوْدَغَسْتْ التي كانت عاصمة لمملكة غانا بغرب أفريقيا وتقع جنوب شرقي موريتانيا اليوم.
ولغرابة شأن هذا الصك عند ابن حَوْقَل ذكره مرتين؛ فقال عنه في إحداهما: “ولقد رأيت بأَوْدَغَسْتْ صكًّا فيه ذكرُ حقٍّ (= دَيْن) لبعضهم على رجل من تجار أَوْدَغَسْتْ -وهو من أهل سجلماسة- باثنين وأربعين ألف دينار (= اليوم سبعة ملايين دولار أميركي تقريبا)، وما رأيتُ ولا سمعتُ بالمشرق لهذه الحكاية شبها ولا نظيرا! ولقد حكيتها بالعراق وفارس وخراسان فاستُطرفت” لغرابتها!! وذكر في موضع آخر اسم الرجل المدين بقيمة هذا الصك فقال إنه “كُتب بدين على محمد بن أبي سعدون (بغدادي مقيم بالمغرب ت بعد 340هـ/951م).. وشهد عليه العدول”.
أما الدفاتر اليومية الخاصة بسجلات المعاملات التجارية فكانت تُعرف بـ”الروزنامج”، وهي لفظة فارسية جاء في تعريفها أنها “كتاب اليوم [الذي] يُثْبَتُ فيه ما يجري من استخراج أو نفقة”؛ وفقا لما في ‘معجم مقاليد العلوم‘ المنسوب إلى الإمام السيوطي (ت 911هـ/1505م).
مؤسسية لافتة
كان تطور الممارسات التجارية وتوسّع حركة الأموال والبضائع المتنامي -وما يصاحب ذلك من مشاكل وعقبات- يدفع باتجاه مزيد من التنظيم للأسواق التجارية وأنماط التعامل فيها؛ فقاد ذلك -مع مرور الوقت وتراكم الخبرات- إلى ظهور أعراف تجارية مستقرة تضبط تعاملات التجار، بل وكيانات مؤسسية تجمعهم وتؤطر العلاقات بيهم، وتسهل تواصلهم مع السلطة ومناطق نشاطهم التجاري الخارجي.
ورغم تأخر ظهور لقب “شاهبندر التجار” حتى القرن الثامن الهجري/الـ14م؛ فإننا نجد ألقابا مماثلة له في الدلالة العامة على وجود شخصية تجارية كبيرة يتخذها التجار مرجعا لهم في شؤونهم ونزاعاتهم، وربما تكون صلة بينهم وبين السلطات الحاكمة في بلد أو مدينة ما كما حصل فعلا منذ القرن الثامن الهجري/الـ14م.
وأقدم من وقفنا عليه ملقبا بما يفيد بكونه مرجعية للتجار بوجه ما هو “أبو أحمد ابن عبد الرحمن الشيزي المراغي سيد تجار أذربيجان”، الذي لقيه ابن حَوْقَل في الثلث الأول من القرن الرابع الهجري/الـ10م وذكره في كتابه ‘صورة الأرض‘.
وكذلك ترجم الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في ‘المنتظم‘- للتاجر العراقي علي بن أبي نصر بن ودعة (ت 479هـ/1086م)، فوصفه بأنه “كان يُؤْثَر (= يُعرَف) عنه الخيرُ والأمانة والديانة، وكان رئيسَ التجار بالموصل”. ويبدو أنه كانت له أيادٍ بيضاء على المجتمع ففُجع الناس بموته حين “توفي ببغداد وحُملت جنازته إلى الموصل فكان يوما مشهودا”!
وفي القرن السابع الهجري/الـ13م؛ نجد تاجرا قاهريا كان يُعرَّف بأنه “كبير التجار أبو زيد المصري (ت بعد 640هـ/1242م)”؛ طبقا للمقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘. وبدءا من القرن الثامن الهجري/الـ14م سنكون أمام مؤسسة “شاهبندر التجار” التي كانت -من حيث المهمة والأهداف- أشبه ما تكون بـ”نقابة التجار” أو “اتحاد أرباب العمل” أو “غرفة التجارة”، بل إنها كانت تجمع وظائف ذلك كله في إطار واحد.
ويفهم من كلام المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (ت 1300هـ/1883م) أن تسمية “شاهبندر” اصطلاح مصري محلي، وأن هذه اللفظة “تُطلَق في القاهرة على أمين التجار ورئيسهم ونقيب التجار”. ويبدو أن ذلك قد يكون جزما منه لا دليل عليه، بل ربما يكون الدليل قائما على غيره؛ فابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) يحدثنا -في رحلته- عن كبير التجار في مدينة قالِقوط/كاليكوت الهندية فيقول إن “أمير التجار بها إبراهيم شاه بندر من أهل البحرين.. يجتمع إليه التجار ويأكلون في سماطه (= مائدته)”.
وعلى كل؛ فقد كانت مهمة شاهبندر هي الحُكم بين التجار في أمورهم كلها وفقا لأعرافهم، وكان توليها يقتضي نوعا من العلاقات بذوي الحظوة والسلطان للدفاع عن مصالح التجار، ورفع مظالم السلطة التي قد تقع عليهم من مصادرات ظالمة وضرائب مجحفة، كما يتولى ضمان إمداد التجار السوقَ بما يحتاجه البلد من سلع.
وقد أمدنا المؤرخ المصري الجَبَرْتي (ت 1240هـ/1824م) بنص ثمين يوضح بعض تلك الصلاحيات وخاصة القضائية منها؛ فقال -في ‘تاريخ عجائب الآثار‘- إنه طبقا للمراسيم الرسمية فإن شاهبندر التجار “له الحكم على جميع التجار، وأهل الحرف والمتسببين في قضاياهم وقوانينهم، وله الأمر والنهي فيهم”.
ولذلك كان يُشترط لمن يختار لهذه المهمة أن يكون -إضافة إلى مركزه التجاري العالي- ذا أخلاق مَرْضية لدى جميع التجار، فيكون “معروفا بصدق اللهجة والديانة والأمانة بين أقرانه”؛ طبقا لما وصف به الجبرتي شاهبندر التجار أحمد بن أحمد المحروقي الحريري (ت 1219هـ/1834م)، وسبق ذكر مثله في نعت ابن الجوزي لرئيس تجار الموصل.
ومثل كثير من الوظائف في الأوساط التجارية والمهنية عموما؛ كان منصب “شاهبندر” التجار قابلا للتداول بين أبناء العائلات التجارية الكبيرة، فعندما توفي أحمد المحروقي المذكور ظلت عائلته ضمن المتولين لهذا المنصب، ويذكر الجبرتي أنه في سنة 1228هـ/1843م “نودي في الأسواق بأن السيد محمد المحروقي [هو] شاهبندر التجار بمصر”، وهو نجل شاهبندر أحمد المحروقي المتقدم ذكْره والذي تسلم المنصب بعد أن تعاقب أخوان تاجران.
قوائم ومعايير
ظل العراق -بما له من مكانة مركزية في العالم الإسلامي سياسيا وحضاريا جغرافيا- قطب التجارة العالمية قرونا عديدة؛ فكانت التجار تأتي إليه بأنواع السلع الضرورية والكمالية من أصقاع العالم المختلفة، فكانت تُستهلك فيه أو تُنقل منه في حركة إعادة تصدير إلى نواحي العالم الإسلامي المختلفة، بل وإلى أقطار الدنيا الأخرى شرقا وغربا وشمالا.
ولذا يذكر الجغرافي ابن الفقيه الهمْداني (ت نحو 365هـ/976م) أن بغداد “جمع الله فيها ما فرقه في غيرها من البلدان من أنواع التجارات وأصناف الصناعات؛ فهي سلة الدنيا وخزانة الأرض”! ويضيف أنه كان يقال: “ليس بالصين متاع أسرى (= أفخم) ولا أحسن مما يحمله التجار إلى العراق، فأما ما يبقى هناك فرديء لا حسن له”!! وهذا يدل على قوة المعايير المتبعة في جودة إنتاج السلع التي يراد تصديرها إلى مقر عاصمة الخلافة الإسلامية.
وحرصا على احترام معايير الجودة تلك؛ ظهر ما يمكن وصفه بـ”الأدلة التجارية” لكل بلد فكانت توضح مواصفات ما ينتج فيه من سلع أو يستحسنه أهله من منتجات، وأقدمها رسالة الجاحظ المعنونة بـ”التبصرة بالتجارة في وصف ما يستظرف في البلدان من الأمتعة الرفيعة والأعلاق (= البضائع النادرة) النفيسة والجواهر الثمينة”!
ففي هذه الرسالة كان الجاحظ يوثق علامات الجودة في البضائع؛ فالثياب أجود إذا كانت “ألين وأنعم”، والجواهر تمتاز كلما كانت “أصفى وأضوأ”، أما الحيوانات إجمالا فهي أفضل كلما كانت “أجسم وأطوع”.
ويقول المستشرق الروسي إغناطيوس كراتشكوفسكي (ت 1371هـ/1951م) -في ‘تاريخ الأدب الجغرافي العربي‘- إن رسالة الجاحظ هذه “تعالج السلع التجارية المختلفة وأسعارها ومزاياها والزائف منها”، بما في ذلك “الذهب والفضة والأحجار الكريمة ثم العطور والطيب والأنسجة والثياب”. كما تعدد “أسماء السلع المستوردة من مختلف الأقطار ابتداء من الهند والصين..، والبلاد الشمالية كخوارزم وبلاد الخَزَر وبلاد البلغار”، وما لكل سلعة من مزايا ومواصفات جودة.
فتحت رسالةُ الجاحظ هذه الطريقَ أمام كتب الجغرافيا والرحلات العربية لتودع صفحاتها معطيات هائلة عن أوصاف البضائع الواردة من كل بلد والمصدرة منه؛ وهو ما نجد تغطية واسعة له مثلا في كتب: ‘المسالك والممالك‘ لابن خـُرْداذَبَهْ (ت 280هـ/893م)، و‘البلدان‘ لابن الفقيه الهمداني، و‘المسالك والممالك‘ للإصطخري (ت 346هـ/957م)، و‘صورة الأرض‘ لابن حَوْقَل التاجر؛ و‘أحسن التقاسيم‘ للمقدسي البشاري (ت 380هـ/991م).
هذا إضافة إلى رحلات كل من السِّيرافي (ت بعد 330هـ/942م) واليهودي بنيامين التُّطَيْلي وابن جُبَيْر الأندلسي (ت 614هـ/1217م) وابن بطوطة، وكل هؤلاء الرحالة مارسوا التجارة عمليا في أثناء رحلاته باستثناء ابن جبير.
كما تقدم هذه الكتب معلومات وافرة عن مراكز تبادل البضائع إنتاجا واستهلاكا، وإحصائيات لطيفة لأسعار البضائع فيها؛ فالتاجر الرحالة ابن حَوْقَل يقول إن من أهداف كتابه ‘صورة الأرض‘ أن يعرّف بما في “الإقليم من وجوه الأموال والجبايات والأعشار والخراجات، والمسافات فى الطرقات، وما فيه من المَجالب (= المستورَدات) والتجارات”.
ومن أمثلة ذلك عنده أن مدينة جَنّابة جنوبي فارس مركز تصدير للثياب الكتانية الفاخرة، حيث تُصنع بها “طُرُزُ (= أزياء رسمية) الكتان للتجار والسلطان من غيرِ نوعٍ (= علامات تجارية مختلفة)”، وهذا يعني أن استهلاك هذه الملابس كان يتم بالعواصم الكبرى كبغداد ودمشق وربما القاهرة والفسطاط وبلاد المشرق.
إحصائيات موثقة
وفي القرن الثامن الهجري/الـ14م؛ يرصد لنا ابن بطوطة أهم مراكز تبادل السلع المحقق للتكامل التجاري والاقتصادي بين الأقاليم، فيذكر أن “المعرة مدينة حسنة أكثر شجرها التين والفستق ومنها يحمل إلى مصر والشام”، كما يذكر أن ثياب مقديشو “التي لا نظير لها” كانت تُحمل إلى مصر وغيرها، أما الخشب فكان يُجلب من العلائية بجنوب تركيا إلى مصر والشام.
كما كانت بدخشان -الواقعة بأفغانستان اليوم- مركز تصدير للأحجار الكريمة من اللازورد والياقوت البدخشي. وكان الترك يصدرون الخيل من بلادهم في الأناضول إلى الهند والسند، وقد يبلغ عددها في القافلة الواحدة ستة آلاف فرس، ويكون لكل تاجر ما بين مئة ومئتين؛ طبقا لابن بطوطة.
أما معدلات استهلاك بعض المواد؛ فيخبرنا مثلا ابن الفقيه الهمْداني -في كتابه ‘البلدان‘- عن المعدل اليومي لاستهلاك السكان في بإيران للوقود، ودور عوامل الطقس في تذبذب معدلاته؛ فيقول إن اليوم إذا كان مشمسا دافئا “يربح أهل همَذان/همَدان إذا كان يوم في الشتاء صافيا له شمس حارة مئة ألف درهم (= اليوم 125 ألف دولار أميركي تقريبا)”.
أما ابن الفقيه فيفيدنا بأن “قدر ما يباع في أسواق بغداد من الجِدَاء (= جمع جَدْي) في [عيد] الفطر وفي النحر ستمئة ألف جدي”!! ويعرض أبو عبيد البكري (ت 487هـ/1094م) -في ‘المسالك والممالك‘- لواقع التجارة في مدينة أَوْدَغَسْتْ؛ فيقول إنه “يُشترَى بالمثقال الواحد (= دينار ذهبي: 170 دولار تقريبا) عشرة أكْبُش (= كِباش) وأكثر…؛ وسعرُ القمح عندهم في أكثر الأوقات القنطار (= 150كغ) بستة مثاقيل وكذلك التمر والزبيب”.
ومما يتصل بالتجارة ومبادلاتها مسائل النقود وأنواعها التي كانت تختلف بصورة غريبة من منطقة إلى أخرى؛ فبينما يفيدنا البكري بأن “تجارة أهل بلد كُوكُو (= شمالي مالي) بالملح وهو نقدهم”، نجده يذكره أن أهل منطقة أَوْدَغَسْت غير البعيدة عنهم “تبايعهم بالتبر (= الذهب الخام) وليس عندهم فضة”!! ويحكي ابن بطوطة مشاهداته في جزيرة جاوة الإندونيسية فيقول إن “بيع أهلها وشراءهم بقطع قصدير، وبالذهب الصيني التبر غير المسبوك”.
ويبدو أن النقود كانت إحدى أدوات الصراع السياسي الديني المحتدم على ضفتيْ البحر الأبيض المتوسط، باعتبارها عاملا رئيسيا في نجاح المقاطعة الاقتصادية للأعداء والخصوم.
فقد سجل المؤرخ المصري ابن تَغْرِي بَرْدي (ت 874هـ/1470م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- أنه في سنة 829هـ/1426م “جمع السلطان [السلطان المملوكي بَرْسِبَايْ (ت 841هـ/1437م)] الأمراء والقضاة وكثيرا من أكابر التجار، وتحدث معهم في إبطال المعاملة بالذهب المشخّص (= المصوّر/المجسّد) الذي يقال له ‘الإفرنتي‘، وهو من ضرب (= سكة) الفرنج وعليه شعار كفرهم الذي لا تجيزه الشريعة”. ومن المفيد هنا الإشارة إلى تزامن الواقعة مع حملة بَرْسِبَايْ العسكرية على قبرص لاستعادتها من أيدي الصليبيين.
خطوط وخرائط
إن أول ما يفعله التاجر -أو من ينوبه- هو أن يضرب في أصقاع الأرض طلبا لرواج تجارة يحملها أو جلب أخرى يحتاجها؛ ولذا كانت نقاط تلاقي الطرق البحرية والبرية -الإقليمية والدولية- حافلة دائما بالحركة التجارية النشطة على مدار السنة، على نحو يشابه عُقَد المواصلات هذه الأيام، وتروج فيها شتى أنواع التبادلات التجارية بين الأمم والأقاليم، في عولمة مفتوحة الآفاق -سابقة على عولمتنا الشاملة اليوم- تقودها مراكز الإنتاج والاستهلاك في الحضارة الإسلامية.
وقد خلّفت لنا تلك العولمة الإسلامية ما يكفي من “الشواهد القاطعة الدالة على وجود تأثيرات هنا وهناك للنقود [الإسلامية] في الأراضي المجاورة لدار الإسلام وحتى فيما هو أبعد منها جغرافيا، ومثال ذلك أن العملة المعدنية الإنجليزية تقلد دينارا عباسيا لسـنة 774م (= 156هـ)”، أي في أيام حكم الخليفة العباسي المنصور (ت 158هـ/776م)؛ وفقا لما ذكره المستشرق البريطاني المعاصر مايكل ألان كوك في بحثه -المنشور ضمن الكتاب الجماعي ‘تراث الإسلام‘- عن “التطورات الاقتصادية” في التاريخ الإسلامي.
ومن ملتقيات شبكة الطرق التجارية البحرية قديما -التي كانت تتبدل من عصر إلى آخر تبعا لازدهار التجارة بمنطقة وتراجعها في أخرى- مدن سواحل الأندلس والغرب الإسلامي التي كانت تتدفق إليها أو منها السفن التجارية، فتتجه شرقا وصولا إلى الإسكندرية والفَرَما ثم شمالا إلى موانئ الشام على سواحل البحر الأبيض، أما البحر الأحمر فكانت تصله موانئ الشمال محمولة على الإبل من الفَرَما، وكان من أبرز موانئه عَيْذَاب المصرية وسَواكِن السودانية وجدة وزَيْلَع الصومالية، وكلها تصب في ميناء عدن على ساحل بحر العرب.
ثم تمتد خطوط النقل التجاري البحري من عدن جنوبا إلى مقديشو وما وراءها من مدن الساحل الشرقي لأفريقيا في زنجبار وغيرها، كما تتفرع هذه الخطوط من عدن شرقا نحو ظَفار بعُمان وجيرون وهُرمز في فارس، ثم تتجه شرقا -نحو الهند والصين- إلى ميناء بلهرا عند مصب نهر السند.
أو تأخذ السفن طريقها من عُمان شمالا في مجرى الخليج العربي باتجاه البصرة بالعراق، مرورا بميناء سِيراف بفارس وجزيرة قيس/كيش، التي يصفها المستشرق كراتشكوفسكي -في ‘تاريخ الأدب الجغرافي العربي‘- بأنها كانت رغم صغرها “مركزا من مراكز التجارة الخارجية للعالم الإسلامي، [يـ]ـتجمع فيها ممثلو مختلف الأقطار والشعوب”.
ويصف ابن جبير الأندلسي -في كتاب رحلته- ميناء عَيْذَاب في ثمانينيات القرن السادس الهجري/الـ12م بأنها “من أحفل مراسي الدنيا” لالتقاء مراكب الهند واليمن ومراكب الحجاج فيها. وكان أهلها يمتلكون مراكب يؤجرونها للحجيج “فيجتمع لهم من ذلك مال كثير”. أما أهل عدن فيقول ابن بطوطة إن التجار “منهم أموال عريضة وربّما يكون لأحدهم المركب العظيم بجميع ما فيه لا يشاركه فيه غيره لسعة ما بين يديه من الأموال”، ولهم في ذلك تفاخر ومباهاة.
ويوثق ابن بطوطة أحجام الموانئ العالمية الخمسة الكبرى التي رآها في رحلاته، فيقول عن الإسكندرية: “ولها المرسى العظيم، ولم أر في مراسي الدنيا مثله إلا ما كان من مرسى كولم (كولام Kollam) وقاليقوط ببلاد الهند (تقع بولاية كيرالا حاليا)، ومرسى الكفار بسرداق ببلاد الأتراك (= شبه جزيرة القرم)، ومرسى الزيتون (= كانتون أو جوانجزو) ببلاد الصين”.
كما يؤكد ابن بطوطة أهمية عدن في التجارة الدولية فيقول إنها تعتبر “مرسى أهل الهند، تأتي إليها المراكب العظيمة.. وتجار الهند ساكنون بها وتجار مصر أيضا”.
فرص ومخاطر
أما الطرق البرية فكانت طويلة ومتعددة ومتشعبة، فكل ميناء بحري كانت تتفرع منه طرق عديدة تربطه بالمراكز التجارية الداخلية في إقليمه والأقاليم المجاورة له؛ وتلخص لنا واقعَ تلك المسالكِ التجارية البرية خريطةُ طريق “تجار اليهود الراذانية” التي كانت تجمع بين الخطوط البرية والبحرية.
ويصف المؤرخ الأميركي ول ديورانت (ت 1402هـ/1981م) -في ‘تاريخ الحضارة‘- هؤلاء التجار اليهود بأنهم “كانوا هم حلقة الاتصال التجاري بين بلاد المسيحية والإسلام، وبين أوروبا وآسيا، وبين الصقالبة (= الشعوب السلافية بشرقي أوروبا) والدول الغربية؛ وكانوا هم القائمين بمعظم تجارة الرقيق، وكان يعينهم على النجاح في التجارة مهارتُهم في تعلم اللغات”.
وديورانت في ذلك إنما يؤكد ما قاله -قبله بقرون- الجغرافي المسلم ابن خـُرْداذَبَهْ -في ‘المسالك والممالك‘- من أن التجار اليهود كانوا “يتكلمون بالعربية والفارسية والرومية والإفرنجية والأندلسية والصقلبية..، ويسافرون من المشرق إلى المغرب.. -برا وبحرا- [فـ]ـيجلبون من المغرب الخدم والجواري والغلمان”.
وكان هؤلاء التجار يمضون مثلا من فرنسا أو الأندلس بحرا نحو مدينة الفَرَما المصرية ومنها برًّا إلى البحر الأحمر فجدة، ثم إلى الهند والسند والصين، ثم يرجعون ببضاعتهم فينزلون من البحر الأحمر إلى الفَرَما وينطلقون إلى القسطنطينية. أو يسيرون حتى يصلوا إلى أفرنجة (فرنسا الحالية)، أو ينزلون بميناء أنطاكية (بتركيا حاليا)، ثم ينحدرون مع الفرات إلى الأبُلَّة والبصرة، ثم يكملون عبر الخليج العربي إلى عُمان وسِيراف، ثم يصلون الهند والسند والصين.
وقد أنهت سيطرة الصليبيين على البحر المتوسط -بدءا من أواخر القرن الخامس الهجري/الـ11م- النشاط التجاري البحري لليهود الرادانية، لكن نشاطهم في التجارة البرية يبدو أنه ظل متواصلا حتى زمن ابن بطوطة الذي يذكر -في رحلته- أنه لقي أحدهم ببلاد القوقاز، فكلمه بالعربية وأخبره أنه جاء من الأندلس -التي غادرها منذ أربعة أشهر- فـ”قدم منها في البر ولم يسلك بحرا، وأتى على طريق القسطنطينية العظمى وبلاد الروس وبلاد الجركس (= الشركس)..، وأخبرني التجار المسافرون -الذين لهم المعرفة بذلك- بصحة مقاله”.
وفي المغرب؛ كانت مدينة سجلماسة -جنوبي البلاد- ملتقى القوافل ومنزل التجار القادمين من أفريقيا جنوبا ومن الأندلس شمالا، بل ومن المشرق فـ”قد سكنها أهل العراق”؛ وفقا لابن حَوْقَل. كما كانت مدينة إيوَلاتِنْ/ولاتة -الواقعة اليوم شمال شرقي موريتانيا- مركزا تجاريا مهمّا للتجارة مع الصحراء الكبرى يلتقي فيه التجار القادمون من الجهات الأربع؛ حسب ابن بطوطة الذي زارها سنة 752هـ/1351م.
وفي منتصف القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي؛ بلغ حجم القوافل التجارية البرية حدا كبيرا بحيث كانت إحداها تضم خمسمئة رجل عدا الأمتعة التي يحملونها؛ طبقا للمؤرخ المقريزي (ت 845هـ/1441م) في ‘المواعظ والاعتبار‘.
ومع ازدهار التجارة وتوسع حركتها في القرون التالية نجد هذا الحجم يتضاعف بمستوى هائل، حتى إن ابن خلدون يروي عن أحد أعيان منطقة الغرب الأفريقي أن قافلة لـ”تجار المشرق [وصلت] إلى بلد مالي [فـ]ـكانت ركابهم اثني عشر ألف راحلة”!!
يتبع