عــمــر بــن عبد العزيز الخليفـــة الراشــــد
د. محمد احمد لوح
قال الله -تعالى-: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}. أمتنا أمة مجيدة عظيمة كريمة، اختارها الله؛ لتكون واسطة العقد في هذا التاريخ، فهي الشاهدة على الناس والرسول عليها شهيد، إنها أمة تمرض لكنها تشفى، وتَغْفُو أحيانًا لكنها لا تنام، وتُغْلَب لكنها لا تُسْحَق، أخرج الله منها منائر للتوحيد وهداة للبشر، ومشاعل للحضارة الحقَّة.
فمع عَلَم من أعلام هذه الأمة نقف وقفة عظة وتذكر وتدبر، عَلَم يجب على الأمة أن تجعله وأمثاله قدوة من القدوات يوم كادت تغيب القدوات، ليكون حديث شيوخها في المنتديات، وقصصًا لأطفالها الذين لطالما أُشغلوا بالقَصص الهابط والرسوم المتحركة، وحديثًا لشبابها الذين طالما شغلوا بالحديث عن اللاعبين والفنانات، وملئت أسماعهم وأبصارهم بالأفلام والمسلسلات، إنه من العادلين إن ذكر العدل، إنه الخائف من الله إن ذكر الخائفون، إنه من حيزت له الدنيا بين يديه فتولى الخلافة، فخاف الله وما تكبر وما تجبر وما ظلم، خشي الله فعدل، خشي الله فأمن، خشي الله فرضي، إنه عمر بن عبد العزيز- -رحمه الله-- وما أدراكم ما عمر بن عبد العزيز؟! رجل لا كالرجال، وسيرة لا كالسير، وعذرًا لن نَفِيَه حقه في هذه العجالة، لكن حسبكم وحسبي أن نقف عند بعض مواقفه، لنتذكر، وننظر، ونعتبر، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألْبَابِ}.
نسبه وفضائله
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وأمه: هي ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، لقد جمع القرآن وهو صغير، تحدث عن نفسه وطفولته فقال: «لقد رأيتني بالمدينة غلامًا مع الغلمان ثم تاقت نفسي للعلم، فأصبت منه حاجتي».. ورغب إلى والده أن يذهب إلى المدينة ليَدْرُس بها ويتفقه، فأرسله إليها وعهد به إلى واحد من كبار معلمي المدينة وفقهائها وصالحيها وهو: صالح بن كيسان - رحمه الله.
إسناد أمر الخلافة لعمر -رضي الله عنه
أمر أمير المؤمنين سليمان بن عبدالملك بالبيعة لاسم أدرجه في كتاب مختوم، ولم يكن لأحد علم بما في الكتاب إلا رجاء بن حيوة أحد العلماء المقربين إليه، فبايعوا على من عهد إليه في الكتاب، رجلاً رجلاً، قال رجاء: فلما خرجوا أتاني هشام في موكبه فقال: قد علمت موقفك منّا، وأنا أتخوف أن يكون أمير المؤمنين أزالها عني، فأعلمني ما دام في الأمر نفس، قلت: سبحان الله يستكتمني أمير المؤمنين وأطلعك! لا يكون ذاك أبدًا، فأبيت عليه فانصرف، فبينا أنا أسير؛ إذ سمعت جلبة خلفي، فإذا عمر بن عبد العزيز، فقال: رجاء، قد وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون جعلها إليّ ولست أقوم بهذا الشأن، فأعلمني ما دام في الأمر نفس لعلي أتخلص، قلت: سبحان الله! يستكتمني أمراً أطلعك عليه!
يذهب رجاء ذات يوم ليعود الخليفة، فيجده في اللحظات الأخيرة من حياته، فيجلس إلى جواره حتى تفيض روحه فيسجيه، وخرج ليجمع أهل بيت أمير المؤمنين فاجتمعوا في مسجد دابق قال لهم: إن الخليفة قد مات، وقرأ عليهم الكتاب، ولم يكد يفيق عمر من غمرة المفاجأة، حتى راح يرتجف كعصفور غطته الثلوج، وصعق عمر حتى ما يستطيع القيام، وقال: والله ما سألتها الله في سرٍّ ولا علن، واستقبل رجاء بن حيوة يقول له في عتاب: ألم أناشدك الله يا رجاء؟ وكان ذلك سنة 99هـ.
خطبة الخلافة
ثم سار إلى الخليفة المسجى، فصلى عليه، وشيعوه إلى مثواه، وعاد يعزي أهل بيته فيه، وفي الغداة، دخل أمير المؤمنين الجديد المسجد فإذا هو غاص بحشود هائلة من الوافدين، فرأى أنها فرصة للتخلص من هذا المنصب الخطير قبل أن يتشبث بكاهله، وصعد المنبر وخطب الناس:» أما بعد: فقد ابتليت بهذا الأمر على غير رأي مني فيه، وعلى غير مشورة من المسلمين وإني أخلع بيعة من بايعني، فاختاروا لأنفسكم». فضجوا وصاحوا من كل طرف: «لا نريد غيرك». ثم ألقى بعد ذلك خطبته قائلا: «أُوصيكم بتقوى الله؛ فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيء، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، ثم رفع صوته: أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. ونزل عن المنبر».
فترة خلافته
تولى الخلافة فكان مجددًا، كانت خلافته ثلاثين شهرًا لكنها، خير من ثلاثين قرنًا خلت من هدي النبوة، لم يضيعها في كسب دنيوي ولا شهوة عاجلة، لكنه جعلها لله رب العالمين؛ فبارك الله في سنتين ونيف، ثم إنه خرج ليرى موكباً فخماً من الجياد المطهمة يتوسطها فرس زينت كالعروس ليمتطي الخليفة ظهرها البَذِخ، فأمر بها إلى بيت مال المسلمين، ثم لما وصل إلى السرادق فإذا هو فتنة ولا كإيوان كسرى فأمر بضمه لبيت المال، ودعا بحصير ففرشه على الأرض ثم جلس فوقه، ثم جيء بالأردية المزركشة والطيلسانات الفاخرة التي هي ثياب الخليفة، فأمر بها إلى بيت المال، ثم تعرض عليه الجواري ليختار منهن وصيفات القصر، فيسأل كل واحدة: عن الأهل والبلد، فيردها إلى أرضها وذويها، وعاد لبيته ماشيا معلنًا أن من تواضع لله رفعه، ترك قصر الخلافة ونزل غرفته المتواضعة وجلس حزينًا يئن تحت وطأة المسؤولية.
العصر الذي عاش فيه
إن العصر الذي عاش فيه عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قبيل خلافته كان كما يصفه أحد الكتاب: «زمن قسوة من الأمراء»، كيف لا؟ والحجاج بالعراق، ومحمد بن يوسف باليمن، وغيرهما بالحجاز وبمصر وبالمغرب، حتى قال عمر: «امتلأت الأرض والله جوراً»، وكذلك فيه من الفساد أن راح كل قادر على النهب ينتهب ما تصل إليه يداه، وغابت الأخلاق فشاع الترف والانحلال، ووراء الفساد سار الخراب، فأخذت الأزمات المالية بخناق الدولة ومحق إنتاجها، وكان فيه تزييف لقيم الدين.
سياسته الإصلاحية
بدأ عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- بتغيير هذا الواقع إلى الصورة المثلى، فلما ولي بدأ بنفسه وأهل بيته: حيث كان عمر -رحمه الله- يعيش في أسرة الملك والحكم؛ حيث النعيم الدنيوي، وزخرف الدنيا، وكان -رحمه الله- يتقلب في نعيم يتعاظم كل وصف، ويتحدى كل إحاطة، إنّ دخله السنوي من راتبه ومخصصاته، ونتاج الأرض التي ورثها عن أبيه يجاوز أربعين ألف دينار، وإنه ليتحرك مسافرًا من الشام إلى المدينة، فينتظم موكبه خمسين جملاً تحمل متاعه، فرأى أنه لم يكن لهم سلطة شرعية عليها ليعطوه إياها وأنها من أملاك الدولة، وأحصى أملاكه كلها فردها في بيت المال، ثم استدعى زوجه فاطمة الزاهدة العابدة بنت الخليفة وأخت الخلفاء.
بنتُ الخليفة والخليفة جـدها
أختُ الخلائف والخليفة زوجــها
قال لها: إني بعتُ نفسي من الله، فإن كنت تريدين العيش معي فحي هلا، وإلا فالحقي بأهلك، هذه الحُلِي التي تلبسينها تعلمين من أين أتى لك بها أبوك؟ رديها إلى بيت المال، والله لا أجتمع مع هذه الحلي في دار أبدًا بعد اليوم، فقالت الزاهدة الراغبة فيما عند الله: «بل أردها والحياة حياتك يا عمر، وللآخرة خير وأبقي»، ثم توجه إلى أقاربه الأقربين فأخذ ما بأيديهم، وسمى أموالهم مظالم، وهي الأموال الهائلة، والثروات العظيمة التي تملكها أسرته، وإخوته وحاشيته، وعزم على ردها إلى أصحابها إن عرف أصحابها، أو إلى الخزانة العامة، وأن ينفذ على الجميع قانون (من أين لك هذا)؟
كان فعله يُصدِّق قوله
خرج إلى الأمة ليردها إلى الله الواحد القهار، فكان فعله يصدق قوله، وكان لا يشغله عن الله شاغل، لَيْلُه قيام وبكاء وخشوع وتضرع، ونهاره عدل وإنصاف ودعوة وبذل وعطاء، ملأ الأرض عدلا بعد أن كادت تُملأ جورًا: بعد كل صلاة ينادي منادٍ: أين الفقراء؟ أين المحتاجون؟ فيقدم لهم الطعام والأموال، فلا والله ما تنساه البطون الجائعة ولا الأكباد الظامئة، ما دام في الأرض بطنٌ جائع أو كَبِدٌ ظمآن.
نقل عصر الوحي بمُثُلِه وفضائله
إن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله ورضي عنه- لا ينتمي لعصر قريب من عصر الوحي فحسب، بل إنه الرجل الذي حاول نقل عصر الوحي بمُثُلِه وفضائله إلى دنيا مائجة هائجة، مفتونة مضطربة، متلفعة بالظلم والقهر، متعفنة بالتحلل والترف، ثم نجح في محاولته نجاحاً يبهر الألباب، فحقق بمفره ما يشبه المستحيل، ليس في عشرين سنة، ولا في عشرة أعوام، بل في عامين وخمسة شهور وبضعة أيام.
قال فيه بعض الكتاب: «أريد منكم أن تأخذوا الأقلام بأيديكم، وتجمعوا أذهانكم، وتكتبوا كل صفة تتمنون أن يتصف بها الحاكم المأمول في نفسه، وفي أهله، وفي أمانته وسياسته، وفي لينه وشدته، حتى إذا اكتملت الصورة الخيالية التي صورتها أمانيكم وآمالكم، جئتكم بحقيقة واقعية بهذا الملك عمر بن عبد العزيز بل ويزيد».
لقد نجح عمر - رحمه الله - لأنه بنى خطته على ركيزتين أساسيتين: أولاهما: العدل في الإنفاق العام، والعدل في توظيف القيادات والمستشارين (البطانة الصالحة).