خطبة الحرم المكي- الصـــداقـة الحقيقية سامية المكانة عظيمة الفائدة


مجلة الفرقان




جاءت خطبة الحرم المكي لإمام الحرم الشيخ صالح بن حميد هذا الأسبوع 21 ربيع الآخر الموافق 26 نوفمبر 2021 متحدثة عن الآثار السلبية لماديّة هذا العصر التي قضت على كثير من الروابط الوجدانية، والمشتركات العاطفية، فأصبح الناس وكأنهم قِطَع آلات تعمل للمصالح المادية، وتُنتج بوقود النفعية، لقد جعلت هذه المادية المنافع والمصالح معايير العلاقات، فتراهم يقولون: لا صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة، ولكن مصالح دائمة، وهذا هدم لركن عظيم من أركان الأخلاق، وقَطْع لكثير من الإخاء والترابط بين الناس.

وبين الشيخ ابن حميد أنه في هذه المادية ضعفت الروابط الاجتماعية الجميلة، بل ضعفت رابطة الدين، ورابطة القرابة، ورابطة الوطن، وصارت المصالح والمكاسب وتعظيم المنافع هي المعيار وهي المُعتَبَر، وتحولت العلاقات إلى زميل في العمل، وعضو في الجمعية، وشريك في المؤسسة، ومساهم في الشركة، وهكذا في علاقات مادية جافة بحتة. وهذا له تأثيره الكبير في فقدان القيم الروحية والسكن النفسي والتبادل الوجداني.

الصداقة معنى كريم

وأضاف قائلاً: من أجل مزيد من البيان والإيضاح هذا حديث عن الصداقة والأصدقاء في علاقاتهم وحقوقهم وصفاتهم ليتبين حال الفريقين، ويتجلى منهج المَسْلَكَيْن، الصداقة هي فطرة الاستئناس التي فطر الله الناس عليها، الصداقة معنى كريم في وجدان الأكرمين تناوله الحكماء بالوصف والتحليل وهي عنوان سلوك الإنسان ومقياس شخصيته. حتى قيل: إذا أردت أن تعرف همة الإنسان، ورجاحة عقله، وبُعد نظره، وسِعة أفقه، فانظر من يصاحب، وتأمل فيمن يصادق.

مكانة الصداقة

الصداقة، سامية المكانة، غزيرة الفائدة، تجمع بين العقل والدين والصلاح والكرم وحسن الخلق، الصداقة، ابتهاج في القلب، ولذة في الروح، وسخاء في النفس، وعون على تخفيف أعباء الحياة، الصداقة، عطاء وبذل، وإقالة للعثرات، وصفح عن الزلات، عروة وثقى تقوم على تماثل الطباع، وتُشعر بالاستقرار في الفرد والجماعة، الصداقة، هي جسر المحبة بين القلوب، والعطر الفواح الذي ينتشر في الأرجاء فيملأ القلب بالفرح، والروح بالمحبة.

اختيار واصطفاء

الصداقة، اختيار واصطفاء، لا تُترك للظروف، أساسها الحب، وعمادها الاحترام، وحافظها طيب النوايا، وراعيها حُسن المقاصد. الصديق شريك في الحياة، شريك في الأفراح وفي الأتراح، وفي القوة والضعف، وفي الرخاء والشدة. وقد قيل: الصديق وقت الضيق. والصديق قبل الطريق. وعندما سُئل أحد الحكماء: هل الصديق أحب إليك أم القريب؟ فكان جوابه: القريب يجب أن يكون صديقا.

صفات الصديق الصدوق

وعن صفات الصديق الصدوق بين الشيخ ابن حميد أنه يجتمع فيه صدق القلب، وصدق اللسان، وصدق الموقف، وصدق المشاعر، وصدق النُصح، صديق كريم إن قَرُب منح، وإن بَعُد مدح، وإن ظُلِمَ صفح، وإن ضويق فسح. ومن ظفر بمثل هذا فقد أفلح ونجح، إخوان الصدق خير مكاسب الدنيا، زينة في الرخاء، وعُدّة في البلاء، يتطاوعون بلا أمر، ويتناهون بلا زجر. لا عتب يسوّد به الوجه، ولا عذر يُغض منه الطرف، فالصديق الكريم رقيق في عتابه، رفيق في عقابه، غير فاسق ولا منافق.

الصديق الثقة هو القلب

وأضاف، الصديق، يُستأنس به، ويُعتمد عليه ويُستثار في المُلم، وينهض في المهم، يكتم السر، ويستر العيب، ويبذل في النوائب، ويُؤثِر في الرغائب، يلتمس الأعذار، ولا يُلجِئ إلى الاعتذار، إنْ صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، إذا مددت إليه يد الخير مدها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن رأى سيئة سدّها، إذا سألته أعطاك، وإن نزَلَت بك نازلة واساك، رِدءٌ عند الحاجة، ويَدٌ عند النائبة، وأُنْس من الوَحشة، وزيْن عند العافية، الصديق الثقة هو العين، وهو الأذن، وهو القلب يُرى به الغائب بصورة الحاضر.

المرء على دين خليله

إذا كان ذلك كذلك، فلابد من الحرص والتحري في اختيار الصديق؛ فالإنسان مُحاسب على اختيار صديقه، تأملوا قوله -سبحانه- في ندامة الظالم {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا}. وفي الحديث «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» أخرجه أحمد وأبو داوود. وعن عبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره» رواه الترمذي بسند حسن، وفي الحديث «لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي، والمرء مع من أحب، وإذا أحب المسلم أخاه فليعلمه»، «والمتحابون في الله يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله».

الكمال عزيز

ومع ما ذُكر من هذه النعوت الجميلة والخصال الكريمة في الأصدقاء والخلان، إلا أنه ينبغي أن يُعلم أنّ الكمال عزيز ولكل جواد كبوة، ولكل سائر عثرة، فلابد من غفران الزلات، وإقالة العثرات، ومن استرسل في العتاب فلن يبقى له صديق، وإذا كان الصفح عن الزلات من أفضل خصال الرجال، فأحق الناس بالتغاضي عن هفواتهم، هم إخوانك الذين عرفت فيهم المودة والصدق والنصح، ومن ابتغى صديقا من غير عيب بَقِيَ بلا صديق. ومعاتبة الصديق خير من فقده.

قيمة التغافل

لا يُصلح العلاقات ولا يُديمها إلا التغافل، والصفح، والتناسي، وسلامة الصدر، وصفاء النفس، والعتاب الرقيق، وليحذر الصديق أن يحمل في صدره حمية الجاهلية، فيرى أنّ لزاما على صديقه أن يُصادق من صادق، ويُعادي من عادى، بل عليه أن يُدرك أن الناس يختلفون في تقديرهم لمنازل الناس ورتبهم وخطئهم وصوابهم، وإذا تحملت من صديقك حَرّ صيفه وبرد شتائه وجفاف خريفه وقصر ربيعه، كانت كل الفصول لك ربيعا دائمًا.

المؤمن مرآة أخيه

المؤمن مرآة أخيه، إنْ رأى فيه مالا يعجبه سدده وقوّمه، وحاطه بحفظه في السر والعلن. فَثِقوا في الأصحاب، واطمئنوا إلى الإخوان، واحفظوا المجالس، ولا تسمع عن أخيك، بل اسمع منه، وإذا فارقته فاحفظ سره، وما يُذكر من تقلب الزمان وتلون الأصدقاء وعدم الثقة في الإخوان، هذا ليس بسديد؛ لأن الحديث عن أصدقاء الفضيلة، وليس عن أصدقاء المصالح والمنافع، والميزان في ذلك أنّ المرء ينتفع بصاحبه، لكن لا يصاحبه من أجل أن ينتفع به، فالمصالح المشتركة حق من حقوق الصحبة والصداقة، لكن المصالح ليست سببا للصداقة ولا باعثا لها، وصديق الفضيلة يجمع المنفعة واللذة جميعا.

الصداقة الحقة

وعن الصداقة الحقة قال الشيخ ابن حميد: لا تَحُل في نفس إلا هذّبتها، فتورث المحبة والتواضع وكظم الغيظ. وحبك لصديقك لفضيلته دليل على سمو خلقك. ولا يعلم الفضل من الناس إلا ذووه، وصديق الفضيلة تجد عند لقائه ارتياحا، وفي مجلسه أُنسًا، وأعجز الناس من فرّط في طلب الإخوان، وأعجز منه مَن ضيّع من ظفر بهم، يقول الأحنف بن قيس: «خير الإخوان من إن استغنيت عنه لم يزدك في المودة، وإن احتجت إليه لم ينقص منها» قال -تعالى-: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}.

مقاما الصداقة

وقد بين إمام الحرم أن الله -عز شأنه- ذكر في كتابه مقامين تتجلى فيهما الصداقة على حقيقتها، ويبرز فيهما أثرها وعظيم الحاجة إليها، أما المقام الأول فهو حين يلتفت بعض أهل الموقف يوم القيامة ليبحثوا عن معين أو نصير فيقول قائلهم كما ذكر الله -عز وجل-: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}، وأما المقام الثاني فهو لعموم أهل المحشر؛ حيث قال الله -عز وجل-: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، إنها صداقة التقوى، الصداقة الممتدة إلى ما بعد الموت التي لا تنفصم عراها.


فضيلة مجالسة الصالحين

الانقباض عن الناس يُكسب العداوة، وسوء الأصدقاء أضر من بغض الأعداء، والكذاب ليس حريا أن يكون أخًا ولا صديقا، وفي حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك -أي يعطيك من غير مقابل- وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحٌ طيبا، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحٌ خبيثة»، قال النووي -رحمه الله-: في هذا الحديث فضيلة مجالسة الصالحين، وأهل الخير والمعروف، ومكارم الأخلاق، والورع، والعلم، والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر، وأهل البدع، ومن يغتاب الناس أو يكثر هجوره وبطالته ونحو ذلك من الأعمال المذمومة.

وأخيرًا فإنَّ أصدقاء السوء يَدُلّون على فساد ويسيرون في طريق الهلاك، وليس أغلب لسبيل الفساد من قرناء السوء، والمرء ليس بحاجة إلى صداقة تجلب العداوة.