تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: التجـاوزات الماليـة وعقوبتها في الإسلام

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي التجـاوزات الماليـة وعقوبتها في الإسلام

    مركز تراث للبحوث والدراسات - التجـاوزات الماليـة وعقوبتها في الإسلام


    د. حماد عبدالجليل البريدي




    حظي المال بمكانة رفيعة في الإسلام؛ حيث وصفه الله -تعالى- بأنه زينة الحياة الدنيا، مساويًا بينه، وبين نعمة الذرية، قال الله -تعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، ووصف الله -عز وجل- المال بأنه قوام الحياة فقال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}، قال ابن كثير: «يَنْهَى -تعالى- عَنْ تَمْكين السُّفَهَاءِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَامًا، أَيْ: تَقُومُ بِهَا مَعَايِشُهُمْ مِنَ التِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا»، وأضاف الله -عز وجل- المال إلى نفسه فقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}، وقال رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، لعمرو بن العاص: «يَا عَمْرُو، نِعْمًا بِالْمَالِ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ»، وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: «اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى».

    وصح حديث: «ذهب أهل الثور (أي الأموال) بالدرجات العلا»، وفي آخره: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء»، فعلم أن الخير كل الخير في مال تتحصل عليه من الحلال، ثم توفق للقيام فيه بحقوق الله -تعالى- وحقوق العباد الواجبة والمندوبة، ولم يزدك ذلك ذرة كبر أو تفاخر أو تعاظم على الآخر أو تعويل على ما في يدك أو إنفاق في باطل، وكم من غني موفق متصف بذلك، ككثير من الأنبياء وغيرهم! ألا ترى إلى ما صح من قول نبينا - صلى الله عليه وسلم - وثناءً على أيوب -عليه السلام-: «بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ».

    أغنياء الصحابة

    ومن أغنياء الصحابة عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة الفياض -رضي الله عنهم-، ومنهم كثير من الأولياء الصالحين والعلماء العاملين، وجاء أن ابن مسعود - رضي الله عنه - ترك سبعين ألف درهم، وكان من السلف من يتجر بقصد القيام بمؤنة العلماء والمحدثين، كابن المبارك، فإنه كان يقول للفضيل: لولا أنت وأصحابك ما اتجرت، وأصحابه هم سفيان الثوري وسفيان بن عيينة، وابن علية، وابن السماك، وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مئة ألف درهم.

    المال من أعظم الفتن

    ولما كان المال بهذه الأهمية، نهى الله -عز وجل- عن تحصيله بالباطل، وشرع الشرائع التي تضمن للناس حقوقهم، وجعل -سبحانه وتعالى- حفظ المال من مقاصد الشريعة الإسلامية، قال الله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}، وقال -تعالى-: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، يقول الله -تعالى-: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، فالمال والأولاد من أعظم الفتن التي تواجه الإنسان في سيره إلى الله -عز وجل-، قال السمرقندي: «إنما ذكر الأموال والأولاد، لأن أكثر الناس يدخلون النار، لأجل الأموال والأولاد، فأخبر الله -تعالى- أنه لا ينفعهم في الآخرة، لكيلا يفني الناس أعمارهم، لأجل المال والولد، وإنما ذكر الله -تعالى- الكفار، لكي يعتبر بذلك المؤمنون»، فكم من رجل باع دينه بحفنة من المال! وكم من رجل أكل الحرام خوفاً على أولاده! ولذلك حذر الله عباده من فتنة المال والولد فقال: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

    قال ابن كثير: «يَقُولُ -تعالى- آمِرًا لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ وَنَاهِيًا لَهُمْ عَنْ أَنْ تَشْغَلَهُمُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ عَنْ ذَلِكَ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ بِأَنَّهُ مَنِ التَهَى بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا عَمَّا خُلِقَ لَهُ مِنْ طَاعَةِ رَبِّهِ وَذِكْرِهِ، فَإِنَّهُ مِنَ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ يَخْسَرُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وقال -تعالى-: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} أَيْ: اخْتِبَارٌ وَامْتِحَانُ مِنْهُ لَكُمْ؛ إِذْ أَعْطَاكُمُوهَا لِيَعْلَمَ أَتَشْكُرُونَهُ عَلَيْهَا وَتُطِيعُونَهُ فِيهَا، أَوْ تَشْتَغِلُونَ بِهَا عَنْهُ، وَتَعْتَاضُونَ بِهَا مِنْهُ؟ كَمَا قَالَ -تعالى-: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، وَقَالَ -تعالى-: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}، وَقَالَ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.

    تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا

    ولقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا، ومن الاغترار بها، والتنافس فيها، وهذا غالباً لا يكون إلا بسبب الفتنة بالمال، لما قَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَتْ صَلاَةَ الصُّبْحِ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا صَلَّى بِهِمُ الفَجْرَ انْصَرَفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ رَآهُمْ، وَقَالَ: «أَظُنُّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدْ جَاءَ بِشَيْءٍ؟».

    قَالُوا: أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لاَ الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» ، وهذا الذي خافه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخاف منه عمر - رضي الله عنه - حتى بكى، وهملت عيناه بالبكاء، وعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ , قَالَ: قُدِمَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِمَالٍ فِي وِلَايَتِهِ، فَجَعَلَ يَتَصَفَّحُهُ وَيَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَهَمَلَتْ عَيْنَاهُ دُمُوعًا فَبَكَى، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَمِنْ مَوَاطِنِ الشُّكْرِ. فَقَالَ عُمَرُ: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ وَاللَّهِ مَا أُعْطِيَهُ قَوْمٌ إِلَّا أُلْقِيَ بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ» .

    طلب المال والحرص عليه

    وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب المال والحرص عليه من أضر الأشياء على دين المسلم، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ , أُلْقِيَا فِي حَظِيرَةٍ فِيهَا غَنَمٌ بِأَضَرَّ لَهَا مِنْ طَلَبِ الشَّرَفِ وَالْمَالِ» يَعْنِي فِي دِينِ الْمُسْلِمِ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نص نصاً صريحاً على أن فتنة هذه الأمة إنما هي في المال، فعَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي المَالُ»، ومعنى هذا أن لكل أمة فتنة تخصها، وتكون سبباً لهلاكها وضلالها، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء.

    أحوال الناس في هذه الأيام

    والذي يتأمل في أحوال الناس في هذه الأيام، وانكبابهم على كسب هذا المال بأي وسيلة كانت سواء كان في مساهمات مشبوهة، أم معاملات فيها مخالفات شرعية كالربا، والغش، وأكل أموال الناس بالباطل وغيرها، ليتذكَّر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ بِمَا أَخَذَ المَالَ، أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ؟»، وأي فتنة في دين المرء أعظم من ألا يبالى من أين أخذ ماله من حلال أم من حرام؟ ولقد أورد البخاري -رحمه الله تعالى- هذا الحديث تحت بَابُ قَوْلِ اللَّهِ -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، ليبين -رحمه الله- أن أكل الربا لا يكون إلا عند تساهل الناس في جمع المال من الحرام أو من الحلال، فإذا فعل الناس ذلك فأكلوا الربا ووقعوا فيه، فقد تعرضوا لغضب الله وسخطه، بل وحربه -سبحانه-، وأي فتنة أعظم للمرء من أن يحاربه الله -تعالى؟ وهل لأحد طاقة بحرب ربه -سبحانه وتعالى-، قال -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}، والربا وإن كثر فإن أمره إلى قلة، قال صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الرِّبَا، وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ إِلَى قُلٍّ».

    فتنة العبد في ماله

    فإذا فتن العبد في ماله، وأكل الحرام ولم يبال من أي طريق جاء، فقد أغلق في وجهه أبواب السماء، وقطع الصلة بينه وبين ربه، فإن أنفق لا يُقبل منه، وإن دعا لا يُستجاب له، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟».

    قصة قارون

    والله -عز وجل- ضرب لنا في القرآن مثلا بقصة قارون، ذلك الطاغية المتكبر الذي أوتي غنىً فاحشا؛ ففرح به فرحا أخرجه عن دائرة الاعتدال إلي البغي والطغيان، فكان نتيجة هذا البغي والطغيان أن خسف الله -تعالى- به وبداره الأرض، قال الله -تعالى-: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ }.


    الاشتغال بالأموال هلاك

    ولقد جعل الله -عز وجل- هلاك هذه الأمة في الاشتغال بالأموال وترك الجهاد في سبيل الله، فعَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: حَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِالْقُسْطَنْطِ ينِيَّةِ عَلَى صَفِّ الْعَدُوِّ حَتَّى خَرَقه، وَمَعَنَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ .

    فَقَالَ نَاسٌ: أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ.

    فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِينَا، صَحِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وشَهِدنا مَعَهُ الْمُشَاهِدَ وَنَصَرْنَاهُ، فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ، اجْتَمَعْنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ نَجِيَا.

    فَقُلْنَا: قَدْ أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ونَصْرِه، حَتَّى فَشَا الْإِسْلَامُ وَكَثُرَ أهلُه، وَكُنَّا قَدْ آثَرْنَاهُ عَلَى الْأَهْلِينَ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، وَقَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَنَرْجِعُ إِلَى أَهْلِينَا وَأَوْلَادِنَا فَنُقِيمُ فِيهِمَا، فَنَزَلَ فِينَا: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ فِي الْإِقَامَةِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَتَرْكِ الْجِهَادِ».






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: التجـاوزات الماليـة وعقوبتها في الإسلام

    مركز تراث للبحوث والدراسات - التجـاوزات الماليـة وعقوبتها في الإسلام (2)


    د. حماد عبدالجليل البريدي



    حظي المال بمكانة رفيعة في الإسلام؛ حيث وصفه الله -تعالى- بأنه زينة الحياة الدنيا، مساويًا بينه، وبين نعمة الذرية، قال الله -تعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، ووصف الله -عز وجل- المال بأنه قوام الحياة فقال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}، قال ابن كثير: «يَنْهَى -تعالى- عَنْ تَمْكين السُّفَهَاءِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِلنَّاسِ قِيَامًا، أَيْ: تَقُومُ بِهَا مَعَايِشُهُمْ مِنَ التِّجَارَاتِ وَغَيْرِهَا»، ولم يتوقف اهتمام الإسلام بقضية المال بعدِّه مقصدًا من مقاصد الشريعة الإسلامية الضرورية التي لا تقوم الحياة ولا تستقيم إلا بها، بل وضع من التشريعات ما يضبط وسائل إيجاد المال وتحصيله من الانحراف، وما يحفظ بقاء المال واستمراره من التعدي أو الضياع.
    ونظرًا لأهمية هذا الموضوع فقد بدأنا في العدد الماضي سلسلة بعنوان: (التجاوزات المالية وعقوبتها في الإسلام)، وذكرنا ما يتعلق بالمال وحقيقته، وكيف أنه فتنة حذر منها القرآن الكريم والسنة النبوية، وكذلك طلب المال والحرص عليه، وأحوال الناس مع المال في هذه الأيام، واليوم نستكمل ما بدأناه.
    خيرية المال وشره ليست لذاته
    قال ابن حجر: «إن خيرية المال وشره ليست لذاته بل بحسب ما يتعلق به، وإن كان يسمى خيراً في الجملة، وكذلك صاحب المال الكثير ليس غنيا لذاته بل بحسب تصرفه فيه، فإن كان في نفسه غنيا لم يتوقف في صرفه في الواجبات والمستحبات من وجوه البر والقربات، وإن كان في نفسه فقيرا أمسكه وامتنع من بذله فيما أمر به خشية من نفاده، فهو في الحقيقة فقير صورة ومعنى وإن كان المال تحت يده لكونه لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الأخرى بل ربما كان وبالا عليه».
    وقال ابن بطال: «معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال؛ لأن كثيرا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب فكأنه غني».
    أصول المعاملات المالية المحرمة في الإسلام
    اجتهد علماء الإسلام وفقهاؤه في جمع الأصول وتحديدها، التي ترجع إليها المعاملات المالية المحرمة في الشريعة الإسلامية، قال ابن العربي المالكي -رحمه الله-: «قواعد المعاملات أربع، أكل المال بالباطل، والربا، والغرر..»، وقال ابن رشد المالكي -رحمه الله-: «أصول فساد البيوع: الربا، والغرر، والشروط المحرمة إما تؤول إلى أحدهما، أو مجموعهما»، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «أكل المال بالباطل في المعاوضة نوعان: ذكرهما الله في كتابه وهما: الربا والميسر، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصل ما جمعه الله في كتابه، فنهى عن بيع الغرر».
    خطورة المعاملات المحرمة
    ولا شك في خطورة المعاملات المحرمة ومكاسبها، على دين المسلم، وصلاح دنياه وآخرته، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ، إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ»، والسحت هو المال الحرام، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ جَسَدٌ غُذِّيَ بالحرَامِ».
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «الطَّعَامَ يُخَالِطُ الْبَدَنَ وَيُمَازِجُهُ وَيَنْبُتُ مِنْهُ فَيَصِيرُ مَادَّةً وَعُنْصُرًا لَهُ، فَإِذَا كَانَ خَبِيثًا صَارَ الْبَدَنُ خَبِيثًا فَيَسْتَوْجِبُ النَّارَ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كُلُّ جِسْمٍ نَبَتَ مَنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ»، وَالْجَنَّةُ طَيِّبَةٌ لَا يَدْخُلُهَا إلَّا طَيِّبٌ».
    وعلى ذلك فكل معاملة اشتملت على ربًا أو ظلم أو جهالة فهي محرمة بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والأصل العام في المعاملات أن: كل فجوة في المعاملات تجلب نزاعاً، وخلافاً بين الطرفين، فالواجب سدها، لأن الشريعة جاءت بالمطالبة بتعميق الأخوة الإسلامية، والبقاء عليها صافية نقية، حتى نكون إخواناً متحابين لا متنافرين، ولا متنابذين ولا متدابرين.
    صور من التجاوزات المالية المحرمة في الإسلام
    ونستعرض بعضًا من صور المعاملات المالية التي يحرمها الإسلام وهي كالتالي:
    أولاً : منع الزكاة
    فرض الإسلام الزكاة وجعلها ركناً من أركانه؛ بحيث يكفر جاحدها ويفسق مانعها، ويقاتل من يتحدى الجماعة المسلمة ويستخف بها، وقد جهز أبو بكر - رضي الله عنه - جيشاً مؤلفاً من أحد عشر لواءً لقتال مانعي الزكاة، وسوّى بينه وبين المرتد عن الإسلام في وجوب قتاله، والزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي أحد مبانيه التي لا يقوم إلا بها كما جاء في الحديث عن عَنِ ابْنِ عُمَرَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».
    وقرنها الله -عز وجل- بالصلاة في مواضع كثيرة في كتابه الكريم، وهذا يدل على عظم مكانتها عند الله -عز وجل-، وعظم شأنها، قال الله -تعالى-: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}، وقال -تعالى-: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ}.
    مقياس بقاء الأخوة الإيمانية
    وجعلها والصلاة مقياس بقاء الأخوة الإيمانية فقال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}، وهي وصية الله -عز وجل- للأنبياء والمرسلين، وقال سبحانه في قول عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً}، وقال -عز وجل- في مدح إسماعيل - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً}.
    عناية السنة بالزكاة
    واعتنت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالزكاة عناية دقيقة فائقة، وهذا يدل على علو شأن الزكاة ومنزلتها العظيمة في الإسلام، فقد جاءت الأحاديث الصحيحة الكثيرة في العناية بالزكاة، والأمر بإخراجها، وبيان وجوبها، وإثم تاركها، وقتال من منعها، وبيان أصناف الأموال الزكوية: من بهيمة الأنعام، والذهب والفضة، وعروض التجارة، والخارج من الأرض: كالثمار، والحبوب وغير ذلك: كالمعدن والركاز، وأوضحت النصب ومقاديرها، وبينت السنة أحكام الزكاة بالتفصيل، وكذلك اعتنت السنة المطهرة ببيان أصناف أهل الزكاة الثمانية، وقد ذكر الإمام ابن الأثير أكثر من مائة وعشرة أحاديث في الزكاة، وهي أكثر من ذلك في المصنفات الحديثية، وهذا كله يدل على عظم شأن الزكاة وعلو منزلتها في الإسلام.
    عدالة الزكاة في الإسلام
    ومع حرص الإسلام على مصلحة الفقير فإن حرصه على عدالة الزكاة أشد، فقد جعل مقياس التقدير للنصاب الواجب هو مقدار ما يبذله الإنسان من مجهود في الحصول على المال: فإذا جاء المال بسهولة - نسبية - ووضح فيه الجانب السماوي كان الواجب كبيراً، ويقل المقدار الواجب كلما زاد عمل الإنسان للحصول على الكسب، فقد فرض الإسلام 20% (أي الخمس في المعادن والكنوز المدفونة في الأرض و 10% (العشر) في الزرع الذي يروى بماء المطر طول العام أو أكثره، ويقل المقدار إلى 5% فيما يسقى بالمجهود الإنساني، أما المال المحفوظ، وعروض التجارة، فالواجب فيها 2.5% (ربع العشر) أي دينار في كل أربعين ديناراً، شريطة بلوغ النصاب.
    حق المجتمع
    وعندما فرض الإسلام الزكاة راعى جانب المجتمع والجماعة المسلمة؛ فإن صاحب المال قد حصل على ماله بمجهوده ومشاركة الجماعة، فقد اشترى منهم، وباع لهم، وقدموا له الخدمات، وحافظوا له على ماله من السرقة، وأَمَّنوا حياتَه من الضياع، فلو عاد بعض المال على الجماعة في صورة خدمات ومساعدات فهذا حقهم، وهذه أيضاً من عدل الإسلام في أموال الناس، ومن حكم الله -عز وجل- في فرض الزكاة.
    الزكاة عبادة لله
    ولا شك أيضاً أن الزكاة ليست ضريبة يؤديها المسلم إلى الدولة راضياً أو كارهاً. لا، إنها عبادة لله -عز وجل-، ولله في أموالنا حق التصرف المطلق، إن الله -عز وجل- هو الذي أنبت الزرع، كما قال -تعالى-: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، والله هو المنعم بالآلات، والعقل المفكر، والقوة المجاهدة، والأنعام المسخرة، فلله ما أعطى، ولله ما أخذ، وهو فعال لما يريد، فإن الإسلام لا يقبل أن تكون الزكاة مَغرماً يدفعها المسلم وهو كاره، والله -عز وجل- بين أن من علامات المنافقين {وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}.
    علوِّ منزلة الزكاة
    ويدل على علوِّ منزلة الزكاة أن من منعها يقاتل؛ لحديث ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».
    تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم- من منع الزكاة
    وحذر النبي - صلى الله عليه وسلم- من منعها وبين أن مانعها متعرض لعقاب الله وعذابه يوم القيامة، فقال: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ»
    قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَالْإِبِلُ؟ قَالَ: «وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، وَمِنْ حَقِّهَا حَلَبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا، تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ»
    قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟ قَالَ: «وَلَا صَاحِبُ بَقَرٍ، وَلَا غَنَمٍ، لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ، وَلَا جَلْحَاءُ، وَلَا عَضْبَاءُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ».
    حكم مانع الزكاة
    وأما حكم مانعها ففيه خلاف مشهور بين أهل العلم، مع إجماعهم على كفر من جحدها، قال شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله-: «... في حكم تارك الزكاة تفصيل، فإن كان تركها جحداً لوجوبها مع توافر شروط وجوبها عليه كفر بذلك إجماعاً، ولو زكَّى مادام جاحداً لوجوبها، أما إن تركها بخلاً أو تكاسلاً، فإنه يعد بذلك فاسقاً، قد ارتكب كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب «. وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- : «من أنكر وجوبها فقد كفر إلا أن يكون حديث عهد بإسلام، أو ناشئا في بادية بعيدة عن العلم وأهله فيعذر، ولكنه يعلَّم، وإن أصر بعد علمه فقد كفر مرتدًّا، وأما من منعها بخلاً وتهاوناً ففيه خلاف بين أهل العلم: فمنهم من قال: إنه يكفر، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، ومنهم من قال: إنه لا يكفر، وهذا هو الصحيح، ولكنه قد أتى كبيرة عظيمة، والدليل على أنه لا يكفر حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر عقوبة مانع زكاة الذهب والفضة، ثم قال: «حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ».

    وإذا كان يمكن أن يرى له سبيلاً إلى الجنة؛ فإنه ليس بكافر؛ لأن الكافر لا يمكن أن يرى سبيلاً له إلى الجنة، ولكن على مانعها من الإثم العظيم ما ذكره الله -تعالى».



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,443

    افتراضي رد: التجـاوزات الماليـة وعقوبتها في الإسلام

    مركز تراث للبحوث والدراسات - التجـاوزات الماليـة وعقوبتها في الإسلام (3)


    د. حماد عبدالجليل البريدي



    حظي المال بمكانة رفيعة في الإسلام؛ حيث وصفه الله -تعالى- بأنه زينة الحياة الدنيا، مساويًا بينه، وبين نعمة الذرية، قال الله -تعالى-: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، ووصف الله -عز وجل- المال بأنه قوام الحياة فقال: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا}، ولم يتوقف اهتمام الإسلام بقضية المال عند عدِّه مقصدًا من مقاصد الشريعة الإسلامية الضرورية التي لا تقوم الحياة ولا تستقيم إلا بها، بل وضع من التشريعات ما يضبط وسائل إيجاد المال وتحصيله من الانحراف، وما يحفظ بقاء المال واستمراره من التعدي أو الضياع، ونظرًا لأهمية هذا الموضوع كانت هذه السلسلة بعنوان: (التجاوزات المالية وعقوبتها في الإسلام).


    وقد ذكرنا فيما مضى أصول المعاملات المالية المحرمة في الإسلام وخطورتها، ثم ذكرنا أنواعا من التجاوزات المالية المحرمة في الإسلام وهي منع الزكاة، وحكم مانعها، واليوم مع النوع الثاني وهو: أكل مال اليتيم.

    من اليتيم؟

    ﺍﻟﻴﺘﻴﻢ: ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻐﺔ ﻫﻮ المنفرد، ﻭﻓﻲ ﺍﻟﺸﺮﻉ ﻫﻮ ﻣﻦ ﻣﺎﺕ ﻋﻨﻪ ﺃﺑﻮﻩ ﺩﻭﻥ ﺍﻟﺤﻠﻢ؛ ﺃﻱ: ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﺒﻠﻎ، ﻭﻣﺎ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺒﻠﻮﻍ لا ﻳﺴﻤﻰ ﻳﺘﻴﻤًا ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﺍﺟﺢ، ففي سنن أبي داود عن عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: حَفِظْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ»، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتم بعد احتلام، ولا يتم على جارية إذا هي حاضت».

    ﺍﻟﻴﺘﻴﻢ ﻓﻲ الآﺩﻣﻴﻴﻦ

    ﻗﺎﻝ ﺷﻴﺦ الإﺳﻼﻡ ﺍﺑﻦ ﺗﻴﻤﻴﺔ -ﺭﺣﻤﻪ ﺍﻟﻠﻪ-: «ﺍﻟﻴﺘﻴﻢ ﻓﻲ الآﺩﻣﻴﻴﻦ ﻣﻦ ﻓﻘﺪ ﺃﺑﺎﻩ؛ لأﻥ ﺃﺑﺎﻩ ﻫﻮ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻬﺬﺑﻪ، ﻭﻳﺮﺯﻗﻪ، ﻭﻳﻨﺼﺮﻩ، ﺑﻤﻮﺟﺐ ﺍﻟﻄﺒﻊ ﺍﻟﻤﺨﻠﻮﻕ؛ ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻛﺎﻥ ﺗﺎﺑﻌًا ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻳﻦ ﻟﻮﺍﻟﺪﻩ، ﻭﻛﺎﻥ ﻧﻔﻘﺘﻪ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﺣﻀﺎﻧﺘﻪ ﻋﻠﻴﻪ».، ﻓﺈﻥ ﻣﻦ ﻣﺤﺎﺳﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺸﺮﻳﻌﺔ الأﻣﺮ ﺑﺎﻹ*ﺣﺴﺎﻥ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻴﺘﺎﻣﻰ، ﻭﺍﻟﺴﻌﻲ ﻓﻲ ﺭﻋﺎﻳﺘﻬﻢ، ﻭﺍﻟﻘﻴﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﻮﺍﻟﻬﻢ، ﻭﺑﻴﺎﻥ ﻣﺎ ﻳﺘﺮﺗﺐ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺃﺟﺮ ﻋﻈﻴﻢ؛ ﻗﺎﻝ - ﺗﻌﺎﻟﻰ -: {وَبِالْوَالدين إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى}، ﻭﻗﺎﻝ -ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ-: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}.

    الأمر بالإحسان إلى اليتامى

    ومن محاسن هذه الشريعة الأمر بالإحسان إلى اليتامى والسعي في رعايتهم، والقيام على أموالهم، وبيان ما يترتب على ذلك من أجر عظيم، قال -تعالى-: {وَبِالْوَالدين إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى}، وقال -تعالى-: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، وقال -تعالى-: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}، وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على كفالة اليتيم، فعَنْ سَهْلٍ، قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَأَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا» وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا».

    التحذير من الاعتداء على أموال اليتامى

    ولما كان ولي اليتيم قد يطمع في ماله أو شيء منه؛ إذ هو المستولي عليه المتصرف به، ولا رقيب عليه سوى الله -عز وجل-، جاءت الشريعة بالتحذير من الاعتداء على أموالهم، وظلمهم فيها، قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}، وروى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ».

    والأصل أن من تصرف لغيره سواء كان وكيلاً، أو ولياً، أو ناظر وقف أو غير ذلك أن تصرفه تصرف نظر ومصلحة، لا تشهٍ واختيار، لا سيما فيما يتعلق بمال اليتيم، قال الله -تعالى-: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ}، وقال -تعالى-: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}، وقال -تعالى-: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}، فهذه الآيات وغيرها تدل على أن تصرفات الولي في مال اليتيم مبنية على المصلحة، وأنه لا يجوز قربانها إلا بالتي هي أحسن لهم، وأصلح لمالهم.

    الوعيد لمن يأكل أموال اليتامى

    ثم ذكر آية مفردة في وعيد من يأكل أموال اليتامى، وحدد فيها نوع الجزاء والعقاب، فقال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} أي إذا أكلوا مال اليتامى بلا سبب، فإنما يأكلون في بطونهم ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة، قال السدي، يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه، ومن مسامعه وأنفه وعينيه، فيعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم. وروى ابن مردويه من حديث أبي هريرة, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «يُبعث يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْمٌ مِنْ قُبُورِهِمْ , تأجَّجُ أَفْوَاهُهُمْ نَارًا» , فَقِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: «أَلَمْ تَرَ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يأكلون في بطونهم ناراً}، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أحرِّج مال الضعيفين المرأة واليتيم» أي أوصيكم باجتنابهما رواه ابن مردويه، وقد ذكر سبحانه و-تعالى- الأكل، إلا أن المراد منه كل أنواع الإتلافات، فإن ضرر اليتيم لا يختلف بأن يكون إتلاف ماله بالأكل، أو بطريق آخر، فأكل مال اليتيم ظلماً إذاً كبيرة بالإجماع.

    ثلاثة ضوابط للتعامل مع مال اليتيم

    ولقد بين الله -عز وجل- في كتابه الضوابط الازمة للتعامل في مال اليتيم فقال -تعالى-: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً}. فبينت الآية ثلاثة ضوابط للتعامل مع مال اليتيم:

    الضابط الأول

    {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} فجاء الأمر في الآية بعدم منع مال اليتم منه، وأن من منع اليتم ماله وحقه فقد ارتكب ظلما عظيماً، قال القرطبي: «وَهَذِهِ الْآيَةُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاء ِ. نَزَلَتْ- فِي قَوْلِ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ- فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ كَانَ مَعَهُ مَالٌ كَثِيرٌ لِابْنِ أَخٍ لَهُ يَتِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ الْيَتِيمُ طَلَبَ الْمَالَ فَمَنَعَهُ عَمُّهُ، فَنَزَلَتْ، فَقَالَ الْعَمُّ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْحُوبِ الْكَبِيرِ! وَرَدَّ الْمَالَ».

    الضابط الثاني

    {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} فجاء الأمر بعدم استبدال الخبيث بالطيب من مال اليتم، بل إعطائه ماله كأحسن وأفضل ما يكون، قال القرطبي: «قَوْلُهُ -تعالى-: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} أَيْ لَا تَتَبَدَّلُوا الشَّاةَ السَّمِينَةَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِالْهَزِيلَةِ، وَلَا الدِّرْهَمَ الطَّيِّبَ بِالزَّيْفِ. وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِعَدَمِ الدِّينَ لَا يَتَحَرَّجُونَ عَنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، فَكَانُوا يَأْخُذُونَ الطَّيِّبَ وَالْجَيِّدَ مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَيُبَدِّلُونَه ُ بِالرَّدِيءِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَقُولُونَ: اسْمٌ بِاسْمٍ وَرَأْسٌ بِرَأْسٍ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ».

    الضابط الثالث

    {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}، فقد كان ديدن الظالمين من الأولياء في الجاهلية أكل أموال اليتامي، فكانوا يخلطون أموالهم الكثيرة بأموالهم القليلة والرديئة، ليستفيدوا من أموال اليتامى قدر الإمكان، قَالَ مُجَاهِدٌ: «وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاهِيَةٌ عَنِ الْخَلْطِ فِي الْإِنْفَاقِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَخْلِطُ نَفَقَتَهَا بِنَفَقَةِ أَيْتَامِهَا فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ».

    اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأيتام

    وسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم - بها الكثير من الأمثلة في اهتمام النبي -صلى الله عليه وسلم - بالأيتام ومن ذلك: أنه -صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يتزوج من أم سلمه، وشكت له غيرتها ووجود أيتام معها ترعاهم، فتكفل هو -صلى الله عليه وسلم - بصبيانها، فكان نعم الكفيل لهم، فكفلهم وطيب خاطرهم بل عامل عمر ابنها معاملة الرجال، ففي مسند الإمام أحمد وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم - أرسل إليها رسولاً ليخطبها، فَقَالَتْ: مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، وَبِرَسُولِهِ، أَخْبِرْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - أَنِّي امْرَأَةٌ غَيْرَى، وَأَنِّي مُصْبِيَةٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدًا، فَبَعَثَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -: «أَمَّا قَوْلُكِ: إِنِّي مُصْبِيَةٌ، فَإِنَّ اللهَ سَيَكْفِيكِ صِبْيَانَكِ، وَأَمَّا قَوْلُكِ: إِنِّي غَيْرَى، فَسَأَدْعُو اللهَ أَنْ يُذْهِبَ غَيْرَتَكِ، وَأَمَّا الْأَوْلِيَاءُ، فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَاهِدٌ وَلَا غَائِبٌ إِلَّا سَيَرْضَانِي». قُلْتُ: يَا عُمَرُ، قُمْ فَزَوِّجْ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -: «أَمَا إِنِّي لَا أَنْقُصُكِ شَيْئًا مِمَّا أَعْطَيْتُ أُخْتَكِ فُلَانَةَ رَحَيَيْنِ وَجَرَّتَيْنِ، وَوِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ، حَشْوُهَا لِيفٌ».

    قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - يَأْتِيهَا، فَإِذَا جَاءَ أَخَذَتْ زَيْنَبَ، فَوَضَعَتْهَا فِي حِجْرِهَا لِتُرْضِعَهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - حَيِيًّا كَرِيمًا، يَسْتَحْيِي، فَيَرْجِعُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَفَطِنَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِمَا تَصْنَعُ، فَأَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ وَجَاءَ عَمَّارٌ، وَكَانَ أَخَاهَا لِأُمِّهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَانْتَشَطَهَا مِنْ حِجْرِهَا، وَقَالَ: دَعِي هَذِهِ الْمَقْبُوحَةَ الْمَشْقُوحَةَ الَّتِي آذَيْتِ بِهَا رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -. قَالَ: وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُ بَصَرَهُ فِي الْبَيْتِ وَيَقُولُ: «أَيْنَ زَنَابُ؟ مَا فَعَلَتْ زَنَابُ؟ «قَالَتْ: جَاءَ عَمَّارٌ، فَذَهَبَ بِهَا، قَالَ: فَبَنَى بِأَهْلِهِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنْ شِئْتِ أَنْ أُسَبِّعَ لَكِ، سَبَّعْتُ لِلنِّسَاءِ». فانظر كيف تعامل النبي مع ابنها ؟ كيف سأل على ابنتها بقوله «أَيْنَ زَنَابُ؟ مَا فَعَلَتْ زَنَابُ؟».

    وكفل -صلى الله عليه وسلم - أولاد جعفر - رضي الله عنه - بعد استشهاده، فأمهلهم ثلاثاً قبل أن يأتيهم ثم جاءهم كما قال عبد الله بن جعفر: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ ثَلَاثًا أَنْ يَأْتِيَهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَالَ: «لَا تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ»، ثُمَّ قَالَ: «ادْعُوا لِي بَنِي أَخِي»، فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ، فَقَالَ: «ادْعُوا لِي الْحَلَّاقَ»،، فَجِيءَ بِالْحَلاقِ فَحَلَقَ رُءُوسَنَا، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ، وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي «ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَشَالَهَا، فَقَالَ: «اللهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ، وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ»، قَالَهَا ثَلاثَ مِرَارٍ، قَالَ: فَجَاءَتِ أمُّنَا فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا، وَجَعَلَتْ تُفْرِحُ لَهُ، فَقَالَ: «الْعَيْلَةَ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟!».



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •