المعاهد الشرعية بين تهمة الإرهاب .. وواجب الحفاظ على الهوية (1)


وائل رمضان



تناولنا في مقال سابق الهجمة الشرسة التي تتعرض لها المناهج التعليمية في مؤسساتنا التربوية، وكيف استهدفت هذه الحملة في الأساس كل ما هو متعلق بالدين على وجه الخصوص، وذكرنا أنَّ المستعمر الأجنبي نجح في تحقيق أهدافه بمسخ الهوية العربية والإسلامية لكثير من الدول التي صارت في ركب التغريب والعلمنة ونبذ الدين، ولم تَسلم من هذه الحملة المؤسسات الدينية وغير الدينية، فالأزهر على سبيل المثال من أقدم المؤسسات الدينية التي تعرضت لهذه الحملة؛ حيث اعتمد المستعمر في تدميره على سياسة المثل الإنجليزي المشهور «بطيء لكنه أكيد المفعول»، وتم تسديد ضربات قاتلة إلى التعليم الأزهري لاسيما بعد قدوم الاحتلال البريطاني إلى مصر؛ حيث عمد (دوجلاس دنلوب) إلى تهميش دور الأزهر وتركه في حالة متردية، في الوقت الذي قام فيه بدعم المدارس المدنية - غير الدينية - بكل أشكال الدعم المادي والمعنوي، وكان ذلك كفيلاً بانصراف الناس عن الأزهر وعن التعليم الديني عموماً إلى مثل تلك المدارس المدنية التي تكفل لصاحبها مكانة مرموقة بين أبناء المجتمع الذي صار ينظر إلى الثروة والمكانة على أنها كل شيء.

وللعلم فإن (دوجلاس دنلوب) هو أحد القساوسة المُنصّرين، وقد قام اللورد (كرومر) بتعيينه في منصب مستشار لوزارة المعارف المصرية (وزارة التعليم)، الذي كان يتحكم في السلطة الفعلية الكاملة بالوزارة.

ولنا أن نتوقع ما الذي تصير إليه أمور وزارة المعارف في بلد إسلامي؛ عندما يكون على رأسها أحد المنصرين وقساوسة الدولة المحتلة! لقد استطاع هذا القسيس أن يرسم سياسة تعليم على وفق الهوى الغربي النصراني.

ولم تكن حال المعاهد والمدارس الدينية في البلدان العربية الأخرى بأحسن حالاً من الأزهر، ولكنها كما يذكر الكاتب يحيى أبو زكريا في مقاله: (بين التعليم الديني والهوية) أن هذه المعاهد صمدت بقوة أمام جهود المستعمرين في تغريب الأمة ومسخ هويتها، ويقول: أدت الزوايا والكتاتيب والمعاهد الدينية دورًا كبيرًا في المغرب العربي في الحفاظ على اللغة العربية التي لجأ الاستعمار الفرنسي إلى كل الأساليب والإجراءات لوأدها.

وقد كانت القوانين الفرنسية الاستعمارية تنصّ على أنّ تدريس اللغة العربية محظور، وكل من يعتقل متلبسًا بتدريس اللغة العربية يتمّ سجنه بين ستة أشهر وسنتين، وهذا الإجراء كان متبعًا في كل المناطق المغاربية: الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا، وفي ليبيا لجأ الإيطاليون إلى محاربة كل الزوايا الدينية التي دأبت على المحافظة على الأصالة العربية والإسلامية التي زودّت الشيخ عمر المختار – رحمه الله - قائد الثورة الليبية بعناصر لا تأبه للموت في سبيل الحفاظ على مقدسات الشعب الليبي الإسلامية والعربية، وفي تونس أدى جامع الزيتونة أدوارًا كبيرة في تاريخ تونس، وسعت فرنسا للقضاء على هذا المعلم الديني، لكنّها لم تتمكن من ذلك، بل بقي هذا المعلم يرفد الساحة التونسية بمصلحين منذ خير الدين الثعالبي، وفي موريتانيا أدى الشيخ الشنقيطي والزوايا الدينية دورًا كبيرًا في مقاومة كل مظاهر التغريب.

وعلى الرغم من الميزانيات المحدودة لهذه المؤسسات لاسيما في العهود الاستعمارية، إلاّ أنّها تمكنت من الحفاظ على الشخصية العربية والإسلامية وعلى اللغة العربية والإنتماء العربي والإسلامي.

وقد كانت هذه المعاهد تعتمد في مناهجها اعتماداً أساسياً على:

- تدريس القرآن الكريم قراءةً وتفسيرًا.

- السنة النبوية متنًا وسندًا.

- اللغة العربية نحوًا وصرفًا وبلاغة.

- أصول الفقه.

- كتب الأخلاق والآداب الربانيّة.

ومن خلال هذه المنطلقات استطاعت هذه المعاهد أن تصون هويّة الشعوب الإسلامية في مرحلة كان فيها الاستعمار يستخدم كل ما لديه من وسائل من أجل تدمير الهويّة الإسلامية والعربية، والقضاء على أي شيء له صلة بالعربية أو الإسلام، ولكنها بفضل الله تحطمت على صخرة المعاهد الدينية التي نجحت إلى أبعد الحدود في تدمير كافة هذه المخططّات الاستعماريّة التغريبيّة.

ولا شك أن المستعمر لم يهدأ له بال في استهداف هذه المؤسسات التي يعلم يقينًا أنها الشوكة التي تقف في حلقه لتنفيذ مخططاته وفرض سياساته في المنطقة، ولعل المهمة بالنسبة له كانت أيسر من السابق، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ذلك الحدث الذي كان من الأحداث المركزية حيث تغيرت بعدها كثير من الاستراتيجيات في المنطقة وأهمها استراتيجيات التعليم، فالمدارس الدينية – كما زعموا - هي التي أخرجت (طالبان)، والمدارس الدينية في السعودية هي التي تُخرِّج أصوليين، ودور القرآن الكريم في المغرب هي التي تدعو للتكفير، ومناهج التعليم الديني التي تحفظ للإسلام قوامه هي السبب في الإرهاب والتطرف؛ إذًا تجب محاصرة هذه المدارس والمناهج والضغط عليها من أجل ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة لا يتسع المقام لسردها.

ولا شك أن هذه المخططات الخبيثة التي لم تعد تخفى على أحد تفرض على الشرفاء من هذه الأمة أن يبذلوا كل السبل والوسائل الممكنة للحفاظ على هذه المؤسسات التي هي خط الدفاع الأول والأخير في هذه المواجهة، لاسيما بعد أن استطاع أعداء الأمة إحكام السيطرة كليًا على مناهج التعليم في المدارس والمؤسسات التربوية العامة؛ فالعناية بالتعليم الديني المتخصص من أسباب بقاء العلم الشرعي الذي هو أصل الدين وقوامه، وسر نهضة الأمة والحفاظ على هويتها، بل هو سر قوتها ونهضتها.

ولقد أقر القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ضرورة هذا الأمر حين ندبا الأمة إلى ضرورة تخصص فئة من المسلمين في تَعلُّم الدين وتعليمه للناس؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُو اْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة:122).

وفي السُنَّة النبوية إشارة إلى أهمية وجود العلماء المتخصصين والمؤهلين للفتوى؛ ففي الحديث المشهور المتفق عليه مَنْ حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ[ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

ولا تكاد ملة من الـملل تخلو من تعليم ديني متخصص تنشأ فيه كوادر تخدم أبناء الملة وتحافظ على مكتسباتها الدينية، وتستمر في تعليم الدين لأجيالها، فالـمدارس والمعاهد والكليات الدينية موجودة في معظم المجتمعات اليهودية والنصرانية والهندوسية والبوذية وسائر الملل، ففي المدارس الدينية في دولة الكيان الصهيوني يدرس 22% من طلاب هذا الكيان في هذه المدارس، وغيرهما من التي تستوعب عشرات الألوف.

من هنا فإن اهتمام الدعوة السلفية المباركة بهذا الجانب إنما هو من بركات هذه الدعوة؛ حيث انتشرت مدارسها ومعاهدها في ربوع المعمورة، فلا تكاد تجد بلدًا من البلدان أو قطرًا من الأقطار إلا والمعاهد السلفية تضيء سماء هذا البلد أو ذاك القطر.

وفي محاولة منه لرد شبهة أن المعاهد الشرعية تُخرِّج الإرهابيين وتربي الشباب على التطرف والغلو، يفند الدكتور سعد الدين الكبي - حفظه الله - هذه الفرية فيقول: من البديهي جدًا ألا يجتمع التعليم والتطرف؛ فالتعليم عملية تربوية لرفع مستوى الإنسان للوصول به إلى المستوى الذي ينبغي أن ترتقي إليه الإنسانية في معناها الحقيقي المستحق لتكريم اللّه تعالى بقوله: {ولقد كرَّمنا بني آدم} (الإسراء:70).

ولم يسجل التاريخ حادثة واحدة من حوادث الغلو والتطرف تَسبّب فيها التعليم، بل إن الحوادث والوقائع من زمن الأنبياء وإلى عصرنا هذا دلت على ذلك، فالإفساد الذي ظهر في بني إسرائيل لم يكن من أتباع النبي موسى عليه الصلاة والسلام، وأعمال القتل والإرهاب مارسها المفسدون ضد أتباع النبي عيسى عليه الصلاة والسلام ولم يمارسوها هم، وإضعاف الدولة الإسلامية في عصرها الأول لم يكن من أتباع النبي محمد [، وإنما كان من أناس خارجين عن الدولة تسببوا في إضعافها وشق صفها، كأتباع مسيلمة الكذاب في زمن أبي بكر ]، والخوارج في زمن علي ]، والمعتزلة الذين خرجوا على مدرسة الحسن البصري وكفَّروه وكفروا مدرسته.

فهذه الحوادث وغيرها لم يتسبب فيها التعليم وإنما ظهرت بسبب الخروج على التعليم والتحريض عليه، ولا يزال التنافر قائمًا بين التعليم والتطرف؛ فلا يمكن أن يتآلفا لأنهما ضدان لا يتوافقان.

والأنبياء والرسل إنما أُرسلوا ليعلِّموا الناس ويُربوهم على الأخلاق الفاضلة والسلوك المستقيم, كما ذكر تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} (البقرة:129)، فاستجاب اللّه عز وجل دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام, فختم الرسالات في العرب ببعث النبي الكريم محمد [, بمهمة تعليمية تربوية, بيَّنها اللّه عز وجل بقوله: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (الجمعة:2).

فعلّم الأنبياء وعلّم أتباعهم, بل إن أصحاب الأنبياء هم من أسّس حلقات علمية أخذت منهجًا تعليميًا ثابتًا أُطلق عليه اسم المدارس, فقامت في المدينة المنورة مدرسة عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما, وفي مكة المكرمة مدرسة عبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنهما، وفي الكوفة مدرسة عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه، ثم توسعت دائرة التعليم الشرعي حتى أخذت شكل المعاهد الشرعية التي تحتوي على سكن خاص للطلبة، وأوقاف خاصة للإنفاق على تلك المعاهد والمدارس من إطعام الطلبة وغير ذلك.


وبعد ما تقدم فإننا نستغرب اتـهام البعض للمعاهد الشرعية بأنـها تُعلّم التطرف والغلو والتكفير؛ لأنه مخالف للواقع والحقيقة ومطابق للخطأ والتضليل؛ فلا يمكن لعاقل أن يصدق إمكان اجتماع التعليم والتربية مع الحماس المتشبع بجهل وإرعابٍ وهوى!! بل من المستحيل جداً أن يتفق من يعتمد منهج الأنبياء في التعليم والتربية مع من لا يرى إلا العنف والسلاح !! وللحديث بقية إن شاء الله.