اغسل يديك ولا تنس وجهك
نيروز بن زقزطة


تقديم:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله سيِّد الأوَّلين والآخرين، وعلى آله الطاهرين الطيِّبين.
أمَّا بعدُ:
فـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ)[الأعراف: 43].
يقول ربُّنا الكريم في مُحكم التنزيل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)[المائدة: 6]، إلى أن يقول: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[المائدة: 6].
لقد أمَرَنا الله - تعالى - قبل أربع عشرة قرنًا بغَسْل الأيدي وغَسْل الوجه عند القيام للصلاة، وأمرَنا بالصلاة خمس مرات في اليوم؛ أي: إنَّ المسلم يتطهَّر على الأقل خمس مرات في اليوم، وبيَّن لنا ربُّنا في هذه الآية الكريمة أن كلَّ هذه الأوامر إنما وجدت نعمة من عنده لتطهيرنا؛ حتى نشكرَه - عز وجل - على فَضْله العظيم، فكل هذه الأوامر الإلهيَّة فيها حِكمة وأَجْر وفائدة في الماضي والحاضر والمستقبل، وزاد عليها رسولنا الكريم بالنوافل في أوقات أُخَر؛ لنتطهَّر أكثر.
ولكي يحبِّب ويرغِّب في الإكثار من الوضوء، وبه نزداد تطهُّرًا، وكان من عادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجديد الوضوء لكلِّ صلاة، لكنَّه خالَف هذه العادة يوم الفتح، ولَمَّا سأله عمر عن ذلك، قال: ((عَمْدًا فَعَلْتُه يا عمر))؛ وذلك حتى لا تظنَّ الأمة أنه واجبٌ، فيَشقَّ عليهم)).
في اليوم الخامس عشر من شهر أكتوبر تُقام احتفالات هنا وهناك على وجه المعمورة بمناسبة اليوم العالمي لغَسْل الأيدي؛ لتحفيز الملايين من سُكان الأرض على غسْلِ الأيدي وتنظيفها، فحسب منظمة الصحة العالمية (O.M.S)، يمكن تجنُّب العديد من الأمراض التي تتسبَّب في وفاة خمسة آلاف طفل دون الخامسة يوميًّا، وأغلبها أمراض جرثومية مُعدية؛ سواء كانت بكتيرية، أو طفيلية، أو فيروسية، كما أنَّ العدوى في الأوساط الصحيَّة؛ كالمستشفيات والمصحَّات، وحتى في المطاعم، تضاعَفَت بشكل مُريع؛ بسبب تلوُّث الأيدي ووجود بقايا الفضلات تحت الأظافر، ومن الأمراض المُمكنة التنقُّل نجد التهاب الكبد الفيروسي "أ"، الإسهال البكتيري الحاد، التهاب السحايا، الطفيليَّات المعويَّة، الأنفلونزا، التيفوئيد وغيرها، وأصبَحَت السلطات الصحية - وفي كل مكان من العالم - تنادي بغَسْل الأيدي عند لَمْس أيِّ شخص يحتمل أن يكون مريضًا، أو أي شيء مشبوه؛ من أجل تفادي الإصابة بهذه الأمراض عمومًا، وتفادي المرض الداهم عام 2009 أنفلونزا الخنازير خصوصًا، بالإضافة إلى ذلك ساعَدَت العديد من وسائل الإعلام في تناقُل هذه الأخبار الوقائيَّة منذ بداية المرض، ومعرفة أسباب انتشاره، ولكن المرض اتَّسع مجاله من بلدٍ إلى آخر، فأصاب الآلاف من الأشخاص، وتسبَّب في مئات الوفَيَات.
إن هذه الهيئات المختصة بالصحة العالمية لا تدري بوجود أمر ربَّاني أتانا عن طريق سيِّد البشرية منذ 1432 عامًا مَضى، يوصي بغسل الأيدي، وغَسْل الوجه والأنف والفم، كما يوصي بالنظافة المستمرة، لكنَّ العجب أن يَنسى ويتجاهل هذا الشيء أغلبيَّة مسلمي المعمورة.
لقد كان من الممكن تفادي العديد من هذه الإصابات، وبطريقة سهلة وغير مكلفة وسريعة أيضًا، وذلك باتِّباع كتاب الله وسُنَّة خير المرسلين، ترَكها لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونقَلها عنه الرواة عن الصحابة الكرام، ولكن مَن يَعتبر، ومَن يتَّبِع تعاليم ديننا الحنيف وسُنَّة رسولنا الكريم؟ ولنقل مَن يَفهمها ومن يطَّلع عليها قبلُ؟
وقد قال - تعالى - في ذلك: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[الفرقان: 30]، وقال - تعالى -: (قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)[طه: 126]، وقال - تعالى -كذلك: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ)[الحديد: 16].
فالوضوء والطهارة المستمرة إنما هي من إعجاز القرآن الكريم في مجال محاربة الأوبئة والآفات الجرثوميَّة، فالله العليُّ القدير ما جعَل تعاليمه من أجل عقابنا، ولكنها نِعَمٌ من نعمه لصحَّتنا الجسديَّة والنفسيَّة، فالنظافة تؤثِّر إيجابيًّا ليس فقط على الجسد وحْده، بل حتى على الرُّوح والنفس، فتطمئن؛ قال - تعالى -: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)[الإسراء: 9]، وقال - تعالى -: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء: 82]، وقال - تعالى -: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل: 44].
إنَّ فكرة غَسْل الأيدي وحْدها لتفادي انتقال الأمراض الوبائية - والتي انتشَرَت في هذه الأيام - هي فكرة ناقصة؛ لأنَّ أعضاء الجسم الملامسة للمحيط الخارجي، ليست الأيدي فقط، ولكن هناك أيضًا الأنف والفم الموجودان في الوجه، وهي الأكثر عُرضة للأمراض المعدية، خاصة تلك التي تنتقل مع الهواء ومع الأكل؛ ولذلك أمَرَنا ربُّنا اللطيف بتَنْظِيفها عند كلِّ وضوء، فهذان العضوان (الأنف والفم)، لهما دورٌ أساسي في انتقال الأمراض إلى داخل الجسم؛ لكونهما مَعبرًا رئيسيًّا للهواء والأكل، كما أنهما مستوطنات مهمَّة للأحياء الدقيقة المتعايشة مع الإنسان: طبيعيًّا وإجباريًّا، والتي تقوم بدور الحارس ضد الكائنات الحيَّة الخطيرة، فإن لَم تُنَظَّف هذه الأماكن بصفة مستمرة ومنتظمة، فسيكون تأثير هذه الأحياء الدقيقة عكسيًّا؛ لأنها تتكاثر وتتضاعَف بشكلٍ سريع؛ ولذلك نحتاج إلى طريقة لمراقبة هذا التكاثُر وتنظيمه؛ حتى يتحقَّق التوازُن.
منذ اكتشاف وجود الكائنات الحيَّة الدقيقة في القرن التاسع عشر الميلادي، ومعرفة تأثيراتها المختلفة على الإنسان والمحيط، وكيفية معيشتها وتكاثُرها، اهتمَّ العلماء بتنظيم وتقنين تضاعُف هذه الكائنات الدقيقة في محيطها الخارجي أو داخل الجسم البشري، باستعمال المنظفات (السائلة أو الغازية)، والمضادات الحيويَّة بأنواعها المتعدِّدة، وحتى استعمال بعض الإشعاعات التي لها تأثير قاتلٌ أو مُثبط، فالأمراض الجرثومية (Infections) لا تحدث إلاَّ بشروط، منها: العدد والذي يُقصد به عدد الكائنات الدقيقة الموجودة في مكان أو في عضو معيَّن، فلا يكون المرض إلاَّ إذا كان العدد كافيًا للهجوم.
ولكن ما يلاحظ أن لكلِّ هذه الوسائل المستعملة تأثيرات جانبيَّة، تختلف درجة خطورتها على الكائنات الحية الأخرى حسب المادة المستَعْمَلَة، وفي بعض الأحيان تكون بلا فائدة، خصوصًا إذا كانت الأحياء الدقيقة موجودةً بأعداد كبيرة لا يُمكن التحكُّم فيها، وقد يؤدِّي الاستعمالُ المُفرط لهذه المواد إلى تقليص عمل الجهاز المناعي بصفة أو بأخرى.
فمِن حِكمته - جل وعلا - أن جعَل الوضوء في أوقات معيَّنة باستهداف أعضاء معيَّنة؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن أشقَّ على أُمَّتي، لأمرتُهم بالوضوء عند كل صلاة))، وهي الأعضاء الملامسة للمحيط الخارجي والمحاذية له، وجعَل الغسل في أيام معينة؛ ليتمكَّن الجسم من التخلُّص من الزائد عن حاجته من الكائنات الدقيقة المرافقة له؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الغُسل يوم الجمعة واجب على كلِّ مُحتلم، والسواك، ويَمس من الطِّيب ما قدر عليه)).
وكل ذلك باستعمال مادة حيويَّة واحدة بسيطة وهي الماء، الذي هو سِرُّ الحياة، وهي مادة غير ضارة، وليس لها تأثيراتٌ جانبيَّة أو خطيرة، بِشَرْط استعماله باستمرار وانتظام لتحقيق الفائدة، وهذا هو سَبْقُ الإسلام.
لقد اتَّبع علماؤنا الأوائل كتاب الله وسُنة نبيِّنا الكريم، واستفادوا منها، فبَهَروا العالم، وبذلك كان السَّبق للمسلمين على كافة الأُمم في وقتٍ ما، وفي الوقت الحالي وبعد سُبات طويل، اكتشَف العلماء المسلمون المعاصرون بعضًا من الحِكَم الإعجازية التي جاءَت على شكل أوامر ونواهٍ في القرآن والسُّنة، كفوائد الوضوء مثلاً، فكثرة الوضوء تُساعد في نظافة الفرد وبالتالي المجتمع، والنظافة تعمل بدورها في القضاء على الآفات المَرَضِيَّة المُعدية والجرثوميَّة، ولن نحتاج للاحتفال بيوم واحدٍ يتيمٍ لنظافة الأيدي، والتي عرَفنا أنها نظافة غير تامَّة من وجهة نظر علميَّة ودينيَّة، وصدَق الله العظيم الذي قال في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)[الأنفال: 24]. (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة: 127].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
ـــــــــــــــ ـــــــ
المصادر:
• القرآن الكريم.
• فتاوى الأزهر، باب تجديد الوضوء لكل صلاة، ج 8، ص 458، (المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني).
• إحياء علوم الدين، باب كيفية التيمُّم، ج 1، ص 145، (المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني).
• أحكام القرآن؛ للجصَّاص، باب الطهارة للصلاة، ج5، ص 290، (المكتبة الشاملة، الإصدار الثاني).
Unisef.org
• Brisset C.et Stoufflet J.، 1988، Santé et Médecine، l’état des connaissances et des recherches.Ed:La découverte/INSERM/ORSTOM.