دور الأسرة في بناء مجتمع القيم والأخلاق


وائل رمضان




الأسرة هي نواة المجتمع الصالح، وهي القاعدة الأصلية التي تقوم عليها المجتمعات والأمم، ولأجل هذا اعتنى الإسلام بتكوين الأسرة وصلاحها وإصلاحها عناية فائقة، ورسم لها المعالم الواضحة، وحدد لها الأهداف النافعة والآداب المصلحة، فصلاح الزوجين صلاح للبيوت، وصلاح البيوت والأسر صلاح للأمة، وصلاح الأمة هو السبيل لعزتها وكرامتها.
ومما لا شك فيه أن صلاح الأسرة واستقرارها وتماسكها مطلب مهم ومقصد أسمى وغاية عظمى يسعى إلى بلوغها الإنسان، ويطمح إلى تحقيقها الزوجان، ويرجو بقاءها ودوامها المصلحون والساسة والعقلاء، فالأسرة الصالحة هي المحضن الطبيعي الذي يتولى حماية الأجيال الناشئة ورعايتها وبناء قيمها وتنمية عقولها وأرواحها على مشاعر الإيمان والحب والرحمة والعطف.
مصدر بناء القيم والأخلاق
وللوالِدَيْنِ -في إطارِ الأسرة- دور مهم في تكوين القيم الأخلاقية وبنائها لدى أبنائهم؛ فالتوجيهُ القِيَمِي يبدأُ في نطاقِ الأسرةِ أولاً، ثم المسجد والمدرسة والمجتمع، وفي أحضان الأسرة يكتسب الطفل قِيَمَهُ فَيَعْرِفُ الَحق والبَاطلَ، والخيرَ والشر، لذلك فإن من أهم مسؤوليات رب الأسرةِ تعليم أهلِهِ وأولاده القيم الرفيعة، والأخلاق الحسنة، وليس التركيز فقط على السعيِ من أجل الرزق والطعام والشراب واللباس، قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه -رضوان الله عليهم-: «ارجعوا إلى أهلِيكُم فأقيمُوا فيهم وَعَلِّمُوهم». (رواه البخاري، حديث 631).
مصدر الضبط السلوكي والاجتماعي
الأبوان الواعيان يوجهان أبناءهما بالوسائل التربوية الصحيحة، متدرجين في ذلك ومراعين المراحل العمرية التي يمر بها الأبناء، وهذا القدر من الضبط هو ما ينبغي أن تسير عليه الأسرة، وألا تتهاون فيه. يقول ابن القيم -رحمه الله-: «فمن أهملَ تعليمَ ولدِهِ ما ينفعه، وَتَرَكَهَ سُدى، فقد أَساءَ إليه غايةَ الإساءة، وأكثرُ الأولادِ إِنما جاء فسادُهُم من قِبَلِ الآباءِ وإهمالِهِم لهم، وتركِ تعليمِهِم فرائضَ الدينِ وَسُنَنَه، فأضاعوها صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسِهِم ولم ينفعوا آباءَهُم كِبَارا».
العلاقات الاجتماعية السليمة
في أحضان الأسرة أيضًا يتعلم الأبناء مفردات العلاقات الاجتماعية السليمة، من خلال ما يشاهده الأبناء في محيط الأسرة من أنواع التفاعل الاجتماعي بين أفرادها، ومع الأقارب والجيران، ويتعلمون الآداب الأخلاقية الضابطة لتلك العلاقات المهمة في حياة الإنسان، مثل صلة الأرحام، وتوقير الكبير، وتعظيم حق القريب ذي الحاجة، وتقديمه على غيره في المواساة والصلة، ومن خلال إمدادهم بالمهارات اللازمة للعمل بفاعلية في خدمة المجتمع الكبير كالتطوع في الأعمال الخيرية، ومساعدة الأسر الفقيرة والمحتاجة.
الأسرة الواعية
ما أحوجنا إلى أسرة واعية! تدرك حقيقة مسؤوليتها ودورها الكبير في إخراج أجيال متميزة في دينها وأخلاقها وعلمها، أجيال قادرة على الريادة والتميز، لا أجيال تقلد وتلهث وراء ثقافات الآخرين، ولن يتأتى ذلك إلا إذا أحسنّا تأسيسها وبناءها على ما أرشدنا إليه ربنا -تبارك وتعالى-، ونبيه الكريم- صلى الله عليه وسلم .
خط الدفاع والحصن المتين
وقد استطلعنا آراء بعض العلماء والمتخصصين للتعرف على الدور الفاعل للأسرة في حماية الأبناء وتنشئتهم التنشئة الصحيحة، فقد أكد الإمام والخطيب بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الشيخ: رائد الحزيمي أنَّ للأسرة في الإسلام شأنا عظيما، فهي الأساس الذي بقدر ما يكون راسخًا متينًا، يكون صرح المجتمع وبناؤه شامخًا منيعًا، لما يختزنه من عوامل القوة والحيوية والنماء، ومن ثم كانت عناية الإسلام بمؤسسة الأسرة عناية بالغة وفي غاية الدقة والشمول.
التربية الدينية الصحيحة
وأضاف، لذلك فإنَّ التربية الدينية الصحيحة تعد خط الدفاع والحصن المتين أمام كل مظاهر انحراف الأبناء في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ فارتفاع معدلات الانحراف طبيعي في ظل غياب التربية الدينية؛ فالآباء أنفسهم افتقدوا هذه التربية منذ صغرهم، بل إن بعضًا منهم -مع الأسف- الشديد لم يرب تربية صحيحة كما علمنا ديننا الحنيف، فكيف ننتظر منهم أن يربوا أبناءهم على أشياء هم أنفسهم افتقدوها؟ فإن فاقد الشيء لا يعطيه.
صمام أمان ضد الأخطار
وأكد الحزيمي أنه لكي تؤدي الأسرة وظفتها وتضطلع برسالتها، لابد أن تقوم على دعائم وأسس ومبادئ ثابتة وراسخة، فلقد ظلت الأسرة المسلمة تمثل صمام أمان ضد الأخطار ومحاولات تذويب كيان الأمة وطمس هويتها وإلغاء تميزها وريادتها، حينما كانت تعتصم بحبل الله المتين، ولكن هذه الأسرة هي نفسها التي أصبحت مدخلاً للهدم ونسف بنيان الأمة حينما وقعت فريسة بين أيدي الأعداء، فقد أيقن هؤلاء ألا مطمع لهم في إضعاف الأمة والإجهاز عليها، إلا بالتسلل إلى حمى الأسرة لنقض عراها ونسف بنيانها.
غياب السلطة الأبوية
من جهته أكد مدير إدارة الكلمة الطيبة د. خالد سلطان السلطان أن غياب السلطة الأبوية بوصفها سلطة ضابطة على الأبناء سبب رئيس في انحراف الأبناء وضياعهم،وعدم استمرار هذه السلطة في ممارسة دورها سيترك فراغا تدخل من خلاله مؤثرات أخرى قد تعبث بعملية التنشئة ذاتها، وبصفة خاصة إذا أعطيت مساحة كبيرة للأصدقاء من دون أن يصاحبها توجيه أسري من الأب والأم؛ فإن ذلك يؤدي -وبلا شك- إلى انهيار عملية التنشئة من أساسها.
الدور الحقيقي للآباء
ويشير د. خالد السلطان إلى أن بعض الآباء تسببوا في ضياع أولادهم وإفسادهم عندما ظنوا أن دورهم يقتصر على التمويل فقط؛ فترك الأب مقعد المربي، وجلس على مقعد الممول الذي لا يعرف معنى التنشئة والتوجيه الرشيد وتهذيب السلوك.
مواجهة عوامل الانحراف
وأضاف: إن أولادنا يحتاجون إلى من يعينهم على مواجهة عوامل الانحراف، ويشعر بهم ويشاركهم همومهم، وآمالهم وآلامهم، وإذا لم ننتبه إلى ذلك فإننا نهدر حقوقهم، ونضيع الأمانة التي علقها الله في أعناقنا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته»؛ فعلينا ألا نفاجأ إذا ما وجدنا مجتمعنا أصبح مليئا بمختلف المعاصي، (صغائرها وكبائرها)، فضلا عن تعاطي المخدرات وظهور الاكتئاب؛ لأننا تسببنا -بإهمالنا- حتى وصل المجتمع إلى هذه الدرجة من البلاء، حتى أصبح حالنا قريبا من المجتمع الغربي الذي لا يعرف من التربية إلا الماديات فقط، والنتيجة ما نرى ونسمع.
وسائل الإعلام
كما حمل د. السلطان وسائل الإعلام ولا سيما المرئية منها المسؤولية في انتشار العديد من الانحرافات الأخلاقية بين شبابنا ومراهقينا، مشيراً إلى أن لها دوراً كبيراً في إفساد أخلاق الشباب بتقديمها لكثير من البرامج التافهة التي لا تحمل مضمونًا تربويا ولا قيميا سليمًا، بل أغلب تلك البرامج تثير الغرائز وتنميها لدى الشباب الذي لا يعرف كيف يكبح جماح شهواته، ومما يؤسف عليه أن تلك البرامج أصبحت على مرأى ومسمع من الأبناء، وربما بعلم الآباء والأمهات الذين يتعاملون مع الأمر بسلبية شديدة، بحجة أن الجيل الجديد يختلف عن الأجيال السابقة.
القوة العظمى في التأثير
أضف إلى ذلك أيضا القوة العظمى في التأثير اليوم وهي مصيبة الانترنت، وما يحويه من برامج التواصل الاجتماعي القائم أساسا على تدمير الأخلاق والدعوة إلى الشذوذ والانحلال، ونتائجه السلبية السريعة على الإنسان شيء لا يتخيله العقل! أذكر الوالدين بهذا الحديث العظيم المخيف قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول»، وإذا لم نقم بواجب الحماية والحراسة لأغلى نعمة في الوجود، ألا وهم الأبناء والذرية فأهملنا تربيتهم، وتكاسلنا في متابعتهم، فلننتظر سخط الله ونقمته؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم -: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يعمكم بعذاب».
كلكم راع
وفي هذا السياق أكد عضو مجلس إدارة الدعوة السلفية في مصر الشيخ شريف الهواري أن مسؤولية الأبوين في تربية أبناءهم والاهتمام بهم وبعقيدتهم وأخلاقهم مسؤولية عظيمة أمام المولى تبارك وتعالى، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْؤُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُ، أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، فرب الأسرة مؤتمن ومسؤول ومحاسب أمام الله -تبارك وتعالى- عما استرعاه من أولاده وأهل بيته.
أعز ثروات الأمة
وأضاف الهواري أنَّ الأبناء من أعز ثروات الأمة، فلابد من الاهتمام بتأهيلهم وبث معاني الرجولة والشهامة والمروءة فيهم، وحثهم على حمل هم الدين، والعمل على نصرته، مع بيان أنهم مستهدفون ومحاربون من شياطين الإنس والجن، لذلك فالأمر يحتاج منا الى الحيطة والحذر، وإلى الأخذ بالأسباب حتى لا نتركهم فريسة سهلة للشيطان.
الرقابة الذاتية
وأكد الشيخ الهواري أنَّ من أهم وسائل التربية أن نغرس في أبنائنا الرقابة الذاتية من خلال تعلم أسماء الله -عز وجل- وصفاته، فلابد أن يتعلموا أنّ الله هو العليم الخبير السميع البصير الرقيب الحسيب الشهيد، لابد أن يتعلموا أن الجوارح، ستشهد على الإنسان يوم القيامة، وأنَّ الأرض ستحكي عما جرى على ظهرها، هذه المعاني لو غرست من الصغر سيكون لها أثر عظيم جدًا وإيجابي عليهم في المستقبل، فضلا عن التعهد والمتابعة والرعاية التي أرشدنا إليها ديننا الحنيف.
نصيحة للوالدين
وقدم الهواري نصيحة للوالدين قائلاً: أقول للآباء أنتم تهتمون بأبنائكم في دراستهم وهذا أمر رائع ولا بأس به؛ فهو واجب عليكم، لكن الأمر الأوجب أيضًا هو الاهتمام بتربيتهم تربية صحيحة على مبادئ الإسلام وقيمه وشرائعه، فقد كان السلف يعينون مؤدبا لأبنائهم، وكذلك الأمراء كانوا يهتمون بهذه القضية لأهميتها وعظم تأثيرها، واليوم قضية المؤدب والمربي أصبحت مهجورة، ولم يعد لها وجود إلا عند القليل من الناس، ولا شك أننا إذا اعتنينا بهذه القضية فستخرج لنا أجيالا واعية متميزة، تحمل هم هذا الدين ونصرته، وتكون صورة مشرفة لهذه الأمة التي وصفها الله -تبارك وتعالى- بأنها خير أمة أخرجت للناس.
فراغ فكري ووقتي
وعن سبب الانحرافات التي يقع فيها الشباب، قال الشيخ الهواري: إن من أهم أسباب انحراف الأبناء ووقوعهم في براثن العنف والجريمة وغيرها من الانحرافات الأخلاقية، حال الفراغ الفكري والوقتي التي يعيشونها في ظل غياب دور الأسرة، بانشغال الأم والأب عن أولادهما وترك أمر تربيتهم إلى الشارع وأصدقاء السوء.

غياب الرقابة
ويضيف الشيخ الهواري: لقد تركنا لأولادنا الحرية في مشاهدة ما يبث في مواقع التواصل، وفي المحطات الفضائية من كل ما يثير الغرائز، والنتيجة الطبيعية ما نجده ونشاهده جميعًا من انتشار الجريمة في أوساط الشباب، وانحراف كثير منهم عن جادة الصواب.
أُسس لتربية الطفل المسلم
وختم الشيخ الهواري حدثيه بقوله: إنَّ الإسلام وضع أُسسًا ثابتة لتربية الطفل المسلم تربية سليمة، وأوجب على والديه متابعته ونصحه والسعي إلى هدايته؛ وذلك بتعزيز مبادئ الإيمان والتقوى والصلاح لديه، فإن هما أحسنا تربيته، صاغا منه مصدر سعادة، وجعلا منه عنصر خيرية وأوجدا منه عامل بناء لا عامل هدم.
تفكك الأسر
وعن أهم عوامل انحراف الأبناء قال الباحث والكاتب المصري م. أحمد الشحات: إنَّ من أهم أسباب انحراف الأبناء تفكك الأسر، الذي كان من أهم أسبابه تأثر كثير من الأسر بالشبهات التي يثيرها أعداء الدين، ومن ذلك ما زرعوه في عقول بعض النساء من أنَّ مبدأ القوامة مبدأ ظالم ومجحف غير منصف في حق المرأة، فبأي حق وعلى أي منطق تكون القوامة للرجال دون النساء؟ وقد أدى هذا المفهوم إلى ضعف تماسك الأسرة ونشوء النزاعات والخلافات، وفي كثير من الأحيان وجود صراعات على طبيعة دور كل فرد من أفراد الأسرة.

ضرورة تفرضها سنن الله -تعالى
ولا شك أن تأثر عدد من النساء بهذه الشبهات وتلك المفاهيم الخطأ شتت شمل كثير من الأسر؛ حيث صور أصحاب هذا المنطق قوامة الرجال على النساء على أنها مدخل للاستعباد، والحقيقة أن مبدأ القوامة لا يعدو أن يكون مبدأ تنظيم، يؤطره الشرع الحكيم، وهو ضرورة تفرضها سنن الله في الاجتماع والعمران، فما من مؤسسة إلا ولها قائد أو رئيس، فهل يريد هؤلاء أن تكون مؤسسة الأسرة استثناء من القاعدة وانحرافًا عن سنة ثابتة فتصبح هملاً دون راع؟