ذكاء المسافة في الحياة الزوجية


حينما تشعر بالبرد تشعل النار لتستمد الدفء منها، ولكنك إن اقتربت كثيرًا منها، آذتك حرارتها، وإن ابتعدت كثيرًا، فقدت حرارتها وآلمك الشعور بالبرد؛ ولتحافظ على التدفئة المطلوبة لجسمك، فأنت بحاجة لمسافة ذكية بينك وبين النار، فلا تبتعد منها ولا تقترب.

وهذا جهاز هاتفك النقال يكاد لا يفارق يديك فهو يصاحبك في كل مكان وزمان، وأجزم أن اليوم لا يستطيع أحدنا الاستغناء عنه، إلا أن أطباء المخ والأعصاب والعيون يوصون بوضع حدود لاستخدام هذا الجهاز حتى تحافظ على صحتك، فلا تستخدمه كثيرًا فتضر صحتك، ولا تلغيه فتنقطع عن العالم، تقول القاعدة الفقهية: "لا ضرر ولا ضرار"؛ حيث إن ذكاء المسافة يضعك في المسار الصحيح الذي يضمن الاستمرارية بتوازن واعتدال؛ مما يحقق الهدف المرجو كما في العلاقات الاجتماعية تمامًا، وكما هو الحال في العلاقة الزوجية التي يبدؤها الزوجان بفضول كبير يتعرف به الطرف على الآخر، فيتجاوزان المسافات ظنًّا منهما أن هذا القرب يقوي العلاقة ويوطدها، إلا أنه على العكس تمامًا، فلا بد من ترك مسافة ذكية للموازنة بين دوافعنا واحتياجاتنا في العلاقة.

والمسافات في العلاقة الزوجية ثلاثة:
مسافة الاشتياق:
ذكرت إحدى الكاتبات العربيات في بعض رواياتها عبارة جميلة معبرة في هذا السياق، تقول فيها: "لا تقترب كثيرًا، فتُلغى اللهفة ولا تبتعد كثيرًا فتُنسى"، وهذا هو الحال بين الزوجين؛ فالقرب الشديد يُذيب الشوق، ويصبح الحب اعتياديًّا لا تشعر بنبضه، فيقل الاشتياق للطرف الآخر، وأما البعد لفترات طويلة، فإنه يجعل غيابك اعتياديًّا، وقد يجد بديلًا يسد فراغك، والحل يكمن في ذكاء المسافة؛ أي: أن تكوني متواجدة قريبة منه، لتمديه بالحب الدافئ والعناية الفائقة، وفي نفس الوقت تتركين له مساحته الخاصة بالاختلاء بنفسه وبأصدقائه وبأهله، وتستفيدين من هذه الأوقات بقضائها مع الأهل والأصدقاء، والخلوة مع الذات لاستعادة قوتك ونشاطك، بما يعود على العلاقة الزوجية بالقوة والتماسك وإشعال الشوق واللهفة بينكما.

مسافة الخصوصية:
يعتقد بعض الأزواج أن الشراكة الزوجية تخوِّله اقتحام خصوصية زوجه، بينما هي على النقيض تمامًا؛ لأن مسافة الخصوصية بين الزوجين ضرورية للمحافظة على استمرارها بقوة وصلابة، والخصوصية كلمة فضفاضة يجب تأطيرها في العلاقة الزوجية حتى لا تستغل بطريقة غير فعَّالة؛ لأن البوح والصراحة مطلب أساسي في العلاقة الزوجية في حدود الحفاظ على خصوصية كلٍّ من الزوجين، ومن أهم الخصوصيات التي يجب المحافظة عليها وعدم كسر حواجزها:
لا تطلبي من زوجكِ الحديث عن الماضي، ولا تخوضي في الحديث عن ماضيكِ؛ فالماضي ملك لصاحبه، والحديث عنه قنبلة موقوتة، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الحكيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، ويكفيكِ أن تكوني مخلصة لزوجك في حضوره وغيابه.

لا تفتحي هاتف زوجكِ ولا تتجسسي؛ فإنها خصوصية محضة، والتعدي عليها يشعر زوجكِ بعدم ثقتكِ به؛ مما يؤذي العلاقة الزوجية ويجعلها هَشَّة؛ وتذكري قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]، وما أوصى الله تعالى بالابتعاد عن التجسس والظن إلا لِما له من تبعات خطيرة على العلاقات وخاصةً العلاقة الزوجية.

احتفظي بأسرار زوجكِ وبيتكِ بعيدًا عن أهلكِ، واحتفظي بأسرار أهلكِ وصديقاتكِ بعيدًا عن زوجكِ، وأعينيه على عدم هتك أسرار أهله وأصدقائه بعدم الإلحاح لمعرفتها، كوني على قدر عالٍ من المسؤولية في حفظ السر.

الخصوصية بين الزوجين سلاح ذو حدين إن زادت عن حدها المطلوب أثقلت القلوب، وإن تناقصت عن المطلوب كانت سببًا في ضعف العلاقة الزوجية وهشاشتها.

مسافة المواقف الزوجية الحرجة:
بطبيعة الحال لا تخلو الحياة الزوجية مهما استقرت واستقامت من مشكلات تجعلها تتأرجح بين شد وجذب، وهنا تستدعي التدخل الذكي ويتجلى بذكاء المسافة لتعاود استقرارها من جديد، فعند وقوع المشكلة واحتدام النقاش لا تضعي الزيت قرب النار، بل اتركي مسافة كافية بينكما تضمن عدم تفاقم المشكلة وتدمير العلاقة، انسحبي من الموقع بروية، وامنحي نفسكِ وزوجكِ فرصة لهدوء النفس ومراجعة الموقف؛ ومن ثَمَّ نظمي جلسة هادئة لحل المشكلة مع تقديم بعض التنازلات من أجل إبقاء الود بينكما، والحفاظ على استقرار علاقتكما الزوجية.

إن المسافة الذكية تقوي الحب وتعمق جذوره؛ فتنشأ شجرة الحب قوية الجذع صلبة كشجر النخيل الشامخ الذي مهما هزَّته الرياح يبقى صامدًا ويتجلى جماله.

______________________________ _________
الكاتب: لطيفة بنت مهنا السهلي