حفظ القلب من خواطر الشيطان


د. عاطف الرفاعي




إذا كنت تعظم ربك فلا تستبدل بمحبته محبة الشيطان، وتستبدل بخواطر الإيمان وساوس الشيطان، وتستبدل بأعمال القرب والمحبة والطاعة والإقبال أعمال البعد والطرد والجفاء بينك وبين الله، فليس هذا بعقل، وليس تعظيما لله -تعالى.

وهذا المعنى الجليل يخوفك، ويكون سببًا في حفظ خواطرك، فتقول لنفسك: كيف يرفع المرء من قلبه محبة الله، وذكره، والطمأنينة إليه، والإقبال عليه، ويضع فيه هذه الوساوس وتلك الخطرات؟ كيف يكون مقبلا على ربه محبا له معظما إياه -سبحانه وتعالى؟ لابد لك من الوقوف والتفكير في الأمر الذي يمكن أن يكون سبب نجاتك، وهو خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر، ومن الأسباب التي تحفظ القلب من خواطر الشيطان:

بحور الخيال

أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له: فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته، فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلا؛ فقلب تملكه الخواطر بعيد من الفلاح ومعذب ومشغول بما لا يفيد.

وهنا تحذير آخر من الاسترسال مع هذه الخواطر الرديئة، ووساوس الشيطان، فليست سوى بحور أوهام، ومحض خيال، تأخذك يميناً، وشمالاً، وتسيطر عليك في صلاتك، في قيامك، في ذهابك، في نومك، فإذا أفقت لم تجد قلبك، ولا نفسك، وإذا بك تائه بين تلك الخواطر، غريق في شباك صيد عدوك الشيطان الرجيم.

وادي الحمقى وأماني الجاهلين

أن تلك الخواطر هي وادي الحمقى وأماني الجاهلين: فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي، وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطانها، وأفسدت عليه رعيته، وألقته في الأسر الطويل.

إن هذه الخواطر لا نتيجة لها ولا ثمرة منها إلا البعد عن الله -تعالى-، وتضييع خواطر الإيمان، وأعمال الطاعة، وتضييع الوقت، والقلب، حتى إذا أفاق المرء إذا به قد ضيع وقته وقلبه وجهده عن مواصلة السير إلى الله -تعالى.

ألم تر إلى نفسك يوما، وقد عزمت على قيام الليل مثلاً، أو عزمت على قراءة وردك من القرآن بعد العشاء، فجاءك واحدًا من أصدقائك، فجلس معك، فتكلمت، وأكلت، وائتنست به، وشربت، هل تظن أنك بعد ذلك تقوم إلى الصلاة، أو إلى القرآن؟ هل يظن المرء ذلك؟ أو أنه قد وقع كما يقال في وادي الغفلة ووادي الحمقى، وضعف قلبه عن مقاومة هذه الأمراض، ثم إذا به يقوم لا يستطيع أن يقوم إلى أعمال الإيمان.

خواطر الإيمان أصل الخير

إذا كانت تلك عاقبة خواطر الشيطان التي أشرنا إليها؛ فإن خواطر الإيمان هي أصل الخير، فما إن تقع في قلب المرء خواطر الإيمان، يقبل على الطاعة، والمحبة وتقبل عليه خواطر التطلع، والشوق إلى الله -تعالى-، وخواطر المحبة، والطمأنينة، والسكينة، والذكر، وخواطر الصلاة، والقيام على ما كان عليه السلف الصالح، ويُمَنِّي المرء نفسه بدرجات الجنة العالية، ؛ ثم تتحرك هذه الخواطر؛ ليقلد هؤلاء الصالحين، وليقوى قلبه على منافستهم في أعمال الطاعة، التي هي أصل كل خير.

فلا حراسة للخواطر حتى تستبدل خواطر الشيطان التي أنت فيها بخواطر الإيمان، فإذا ما استبدلت هذه الخواطر بخواطر الإيمان، وصار ذهنك، وقلبك مشغولاً بهذه الدرجات من الأعمال؛ بأن تكون من المسبحين ومن المستغفرين ومن القائمين ومن القانتين ومن المقبلين ومن الطائعين ومن المجاهدين، ومن المتعلمين ومن العالمين ومن المقبلين على الله -تعالى- ومن الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، ومن القانتين الصابرين الخاشعين، وكان عندك هذه الخواطر وتلك التطلعات والأشواق إلى ما عند الله -تعالى- والصبر عليها والمجاهدة عليها حتى تتمكن تلك الخواطر من قلبك فتنقلب إلى إرادات، وعزائم، ثم إلى أعمال يسير بها القلب إلى الله -تعالى-، ويسعى إلى تحقيق أسباب نجاته وسعادته في الأولى والآخرة.

تعاهد خواطر إيمانك

لابد أن تبذر خواطر الإيمان في قلبك، وتتعاهدها بالحفظ، والرعاية، فتثمر لك كل فعل جميل، فإذا ما بذرت الخشية، وجدت الخوف من الله -تعالى-، والانتهاء عن معصيته، وإذا ما بذرت الرجاء في الله -تعالى-، وجدت سرعة إقبالك على عبادته ومحبتها، وعدم الملل منها، وإذا ما بذرت بذر الذكر، أينع لك الطمأنينة، والسكينة، والإقبال على الله -تعالى-، وإذا ما بذرت بذور المحبة، وجدت الإسراع إلى الطاعة، والشوق إلى لقاء الله -تعالى-، ومتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتلذذ بتعمير الأوقات بالعبادة، والذكر، والإقبال على الله -تعالى-، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتعلم العلم، وتعليمه، فعمل أهل الاستقامة، أو جُلُّ عملهم في حفظ القلب من الخواطر الشيطانية، وتعمير قلوبهم بالخواطر الرحمانية، وبها فلاحهم وثباتهم ونجاتهم في الأولى والآخرة.

السير المبارك نافع

ومثل هذا السير المبارك يكون نافعاً لصاحبه بشرطين اثنين:

- أحدهما: ألا يترك به واجبًا ولا سنة.

- والثاني: أن يضع مكان خواطر الشيطان ووساوس النفس خواطر الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية، ويفرغ قلبه من تلك الخواطر، ويعمره بأضدادها من الخواطر الإيمانية.

صدق التأهب للقاء الله -تعالى

الطريق الثاني الذي يستقيم به المرء في أقواله، وأعماله، وأحواله، هو ما يسميه ابن القيم -رحمه الله-: «صدق التأهب للقاء الله»، وصدق التأهب لا يعني: الاستعداد للقاء الله فقط، بل يعني أن يكون صادقاً في استعداده، وأن يكون في كل أحواله وأزمانه مستعدا للقاء الله -تعالى-، ولا يكون مستعدا فقط، بل صادق الاستعداد.

- وملخص هذه المسألة: إذا علم المرء أنه سيؤخذ اليوم إلى الله -تعالى-، سيرحل عن هذه الدنيا في يومه، فإنه يستعد لهذا اللقاء بما يكون سبب نجاته، وتبييض وجهه عند الله -تعالى-، هذا أنفع شيءٍ للقلب لحصول الاستقامة؛ فإن من استعد للقاء الله -تعالى- انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وغلب عليه الخوف، وأحاط بقلبه الوجل، وإذا به قد ارتعدت مفاصله، وشابت ناصيته.


كما لو قيل له: ستؤخذ، وتحبس، ويحدث لك مكروه في الدنيا؛ لظهر عليه ذلك الخوف، والوجل، واصفرار الوجه، ولعله يصل إلى البكاء، وإلى الارتباك، والحيرة، ويبحث عن أحد يكون سبب دفع هذه المكروهات عنه.

الاستعداد للقاء الله -تعالى

كذلك إذا علم أنه سيلقى الله -تعالى- سبَّب له ذلك هذا الوجل، والخوف، ويدفعه إلى التوبة، وإلى استدراك ما فاته، ويعمل على خروجه من المظالم التي بينه وبين الله، وبينه وبين الناس، ويحاول أن يعد عملاً يليق بلقاء الله -تعالى- أليس كذلك؟

فأنفع شيء للقلب أن يستعد للقاء الله -تعالى-، وأن يعلم أن لقاء الله قريب، يوشك أن يرحل إليه في أي لحظة؛ فيُخبت قلبه إلى الله -تعالى-، وتعكف همته عليه، وعلى محبته، وإيثار مرضاته، وتشرق على قلبه همة ثانية، كلها التوبة، والاستغفار، والإنابة، والخوف، والبكاء، والندم على ما فات، ويقبل بكليَّته على الاجتهاد في العمل الصالح، إلى غير ذلك من الأعمال الحسنة والأحوال الجميلة التي ينبغي أن يكون المرء عليها ليلقى الله -تعالى- به.