صلاة الاستسقاء.. أحكامها وآدابها


مجلة الفرقان



جُبلت النَّفس البشريّة على طلب الغوث والعون في وقت الشِّدة والحاجة من الله وحده، ومن الحالات التي يلجأ فيها العباد إلى الله طلباً للغوث إذا أجدبت الأرض، أي انحبس المطر وتوقف عن الهطول لفتراتٍ طويلةٍ، ويكون ذلك عن طريق الاستسقاء، وهو من سُنن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قال الله -تعالى-: {وإذ استسقى موسى لقومه}، والنبيّ - صلى الله عليه وسلم - استسقى مراتٍ عدّة، وبطرائق مختلفةٍ.

أولاً: مفهوم الاستسقاء

الاستسقاء طلب السقيا، وفي عرف الفقهاء إذا قالوا: صلاة الاستسقاء، إنما يعنون استسقاء الرب - عز وجل.

ثانيًا: حكم الاستسقاء

الاستسقاء سنة مؤكدة إذا أجدبت الأرض وقحط المَطَر، قال الإمام ابن عبد البر - رحمه الله -: «وأجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء، والبروز، والاجتماع إلى الله - عز وجل - خارج المصر: بالدعاء، والضراعة إلى الله -تبارك اسمه- في نزول الغيث عند احتباس ماء السماء وتمادي القحط: سنة مسنونة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك».

ثالثا: آداب الاستسقاء كثيرة ومهمة

لصلاة الاستسقاء آداب كثيرة منها ما يلي:

1 – اللجوء إلى الله -تعالى

إذا أصاب الناس قحط لجؤوا إلى الله -تعالى-، وصلوا صلاة الاستسقاء؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: شكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قحوط المطر، فأمر بمنبر فَوُضِعَ له في المصلى، ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر، فكبَّر - صلى الله عليه وسلم -، وحمد الله -عز وجل- ثم قال: «إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبَّان زمانه عنكم، وقد أمركم الله - عز وجل - أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم»، ثم قال: «الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغًا إلى حين»، ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حَوَّلَ إلى الناس ظهره، وقلب أو حوَّلَ رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكِنِّ (ما يرد الحر والبرد من الأبنية والمساكن) ضحك - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، فقال: «أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله» (صحيح سنن أبي داود).

2 - موعظة الإمام للناس

وأمرهم بتقوى الله -تعالى-، والخروج عن المظالم، والتوبة من المعاصي، وتحليل بعضهم بعضًا، والصيام والصدقة، وترك التشاحن؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات.

3 – التواضع والخشوع والتضرع

يخرج الإمام والناس في تواضعٍ، وتبذّلٍ وتخشّعٍ، وتضرّعٍ؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، فعن إسحاق بن عبد الله بن كِنانة قال: «أرسلني الوليد بن عقبة - وكان أمير المدينة - إلى ابن عباس أسأله عن صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في الاستسقاء، فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ما منعه أن يسألني؟ ثم قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُتبذِّلا (ترك التزين والتهيؤ بالهيئة الحسنة الجميلة)، متواضعًا، متضرِّعًا، (متخشِّعًا، مترسِّلاً) حتى أتى المصلى، ولم يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع، والتكبير، ثم صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد» (حسنه الألباني في صحيح سنن النسائي).

4- خروج الصبيان والنساء في الاستسقاء

لا بأس بخروج الصبيان والنساء في الاستسقاء بشروطه، قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله تعالى-: «ويستحب الخروج لكافة الناس، وخروج من كان ذا دين، وستر وصلاح، والشيوخ أشد استحبابًا؛ لأنه أسرع للإجابة، فأما النساء فلا بأس بخروج العجائز ومن لا هيئة لها، فأما الشواب وذوات الهيئة فلا يستحب لهن الخروج؛ لأن الضرر في خروجهن أكثر من النفع، ولا يستحب إخراج البهائم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله» (المغني).

5 - لا أذان ولا إقامة لصلاة الاستسقاء

لحديث عبد الله بن يزيد الأنصاري، قال أبو إسحاق: «خرج عبد الله بن يزيد الأنصاري، وخرج معه البراء بن عازب، وزيد بن أرقم - رضي الله عنهم - فاستسقى فقام بهم على رجليه، على غير منبر، فاستسقى ثم صلى ركعتين يجهر بالقراءة ولم يؤذن ولم يقم، قال أبو إسحاق: ورأى عبد الله بن يزيد النبي - صلى الله عليه وسلم » (رواه البخاري)، وقال الإمام ابن قدامة - رحمه الله -: «ولا يسن لها أذان ولا إقامة، ولا نعلم فيه خلافًا» (المغني).

6 - الاستسقاء بدعاء الصالحين سُنَّة

لحديث أنس - رضي الله عنه - «أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا -صلى الله عليه وسلم - فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، قال: فيسقون» (رواه البخاري)، والمعنى أنهم كانوا يستسقون بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم -، وعندما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقحط الناس استسقى عمر - رضي الله عنه - بعمِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - في حياته، وذلك بأن يدعو الله لهم.

رابعا: كيفية صلاة الاستسقاء

صلاة الاستسقاء كصلاة العيد؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (... خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متبذِّلاً، متواضعًا، متضرعًا، متخشِّعًا، مترسِّلاً، حتى أتى المصلى ولم يخطب كخطبتكم هذه، ولكن لم يزل في الدعاء، والتضرع، والتكبير، ثم صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد) ( رواه أبو داود، والترمذي).

خامسا: مبالغة رفع اليدين في الدعاء

ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه في دعاء الاستسقاء حتى يُرى بياض إبطيه، ويبالغ في رفع اليدين حتى يجعل ظهر كفيه إلى السماء، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: «رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه في الدعاء حتى يُرى بياض إبطيه»، وفي لفظ: «كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء؛ فإنه كان يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه»، وفي لفظ لمسلم: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم - استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء» (متفق عليه)، قال الإمام القرطبي - رحمه الله -: «قول أنس إنه -صلى الله عليه وسلم - كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء) يعني: أنه لم يكن يبالغ في الرفع إلا في الاستسقاء؛ ولذلك قال: (حتى يُرى بياض إبطيه) وإلا فقد رفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر عند الدعاء، وفي غير ذلك» (المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 2/ 541).

سادسا: الأدعية في الاستسقاء

ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدعية كثيرة في الاستسقاء، منها الأدعية الآتية: (اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا)، وفي لفظ: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا) (متفق عليه)، (اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا، مريعًا، نافعًا غير ضار، عاجلاً غير آجل) (صحيح سنن أبي داود)، (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغًا إلى حين) (أبو داود).

سابعا: تحويل الرداء في الاستقاء واستقبال القبلة سنة

لحديث عبد الله بن زيد بن عاصم المازني وفيه: «خرج النبي -صلى الله عليه وسلم - يستسقي وحول رداءه»، وفي لفظ: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى وقلب رداءه». وفي لفظ: «خرج إلى المصلى فاستسقى، فاستقبل القبلة، وحوَّل رداءه وصلى ركعتين»، وفي لفظ: «خرج بالناس يستسقي لهم، فقام فدعا الله قائمًا، ثم توجه قِبَل القبلة وحول رداءه فأُسقوا»، قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: « واستحب الجمهور أيضًا أن يحول الناس بتحويل الإمام، ويشهد له ما رواه أحمد من طريق أخرى عن عباد في هذا الحديث بلفظ: «وحوّل الناس معه»، ثم قال الحافظ: « ثم إن ظاهر قوله: «فقلب رداءه» أن التحويل وقع بعد فراغ الاستسقاء، وليس كذلك، بل المعنى قلب رداءه في أثناء الاستسقاء، وقد بينه مالك في روايته المذكورة ولفظه: «حول رداءه حين استقبل القبلة « (فتح الباري، 2/ 498)، واختُلِفَ في الحكمة من تحويل الرداء، والصواب أنه للتفاؤل بتحويل الحال عما هي عليه ((فتح الباري( 2/ 498). وهل تحول المرأة رداءها ؟ الجواب: ظاهر قوله: (ويحول الناس)، أنه يستحب ذلك للنساء، وقال ابن الماجشون: لا يستحب في حقهن (نيل الأوطار للشوكاني)، قال الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز - رحمه الله -: «إذا كانت المرأة تتكشّف عند تحويلها للرداء في صلاة الاستسقاء والرجال ينظرون إليها؛ فإنها لا تفعل؛ لأن قلب الرداء سُنَّة، والتكشّف أمام الرجال فتنة ومحرّم، وأما إذا كانت لا تتكشّف فالظاهر أن حكمها حكم الرجل؛ لأن هذا هو الأصل، وهو تساوي الرجال والنساء في الأحكام إلا ما دل الدليل على الاختلاف بينهما فيه». ( مجموع فتاوى ابن باز13/ 84).