أركان البيت المسلم


الشيخ: محمد محمود محمد







ليس من أحد في البشر إلا وينشد من زواجه الاستقرار والطمأنينة، مسلماً كان أم غير مسلم، لكن الدين الوحيد الذي أسس للأسرة قواعد استقرارها وسعادتها هو الإسلام، وإن من أهم هذه القواعد: التعاون، والتقدير، وأداء الواجبات قبل المطالبة بالحقوق.

المشاركة عنوان التعاون

سُئلت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يصنع في بيته؟ قالت: «كان يكون في مهنة أهله - تعني خدمة أهله - فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة» (رواه البخاري)، يقول ابن رجب -رحمه الله- في فتح الباري: «وقد فسرت عَائِشَة هذه الخدمة فِي رِوَايَة عَنْهَا، فروى المقدام بن شريح، عَن أبِيه، عَن عَائِشَة، أنَّهُ سألها: «كَيْفَ كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم- يصنع إذا كَانَ فِي بيته؟ قَالَتْ: مثل أحدكم فِي مهنة أهله، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويضع الشيء». وروى معاوية بْن صالح، عَن يَحْيَى بْن سَعِيد، عَن عمرة، قَالَتْ: «سألت عَائِشَة: مَا كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم- يصنع فِي بيته؟ قَالَتْ: بشر من البشر، يخدم نفسه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله». وروى هِشَام بْن عُرْوَةَ، عَن أَبِيه، قَالَ: قيل لعائشة: مَا كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم- يصنع فِي بيته؟ قَالَتْ: يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل مَا يعمله الرجال فِي بيوتهم».

فانظر كيف أثبتت هذه الروايات للنبي العظيم - صلى الله عليه وسلم - تلك الأعمال؟ وكيف قالت أم المؤمنين -رضي الله عنها-: (ويضع الشيء) و(يخدم نفسه)؟ وهو من هو؟! ليس رسولاً فحسب، بل هو سيد القوم ومعلمهم وقاضيهم وقائدهم، رئيسهم في السلم وقائدهم في الحرب، مؤسس الدولة، ورسول يأتيه وحي السماء يتنزل عليه صباح مساء، فيعلمه لأصحابه، وهو مع كل ذلك (يعمل ما يعمله الرجال في بيوتهم)، ولا والله ما يعمل الرجال كما يعمل. إن هذه النفس الجليلة الطاهرة التي تجلت فيها كل عناصر الكمال البشري، ينبغي أن تكون قدوتنا في بيوتنا، مع أزواجنا، غاية في التواضع، وقمة في التعاون والمشاركة.

المشاركة لا تعني التطابق

لا ينبغي أن يتبادر إلى الذهن عند ذكر ذلك أن يقوم الزوج أو تقوم هي، بالمشاركة في أعمال لا يجيدها أحدهما، أو تُمَثل المشاركة فيها عبئاً لا يُقدر عليه، فليس المقصود ذلك؛ إذ العلاقة بينهما مبنية على التكامل والتعاضد، وإن مقتضى ذلك لا يلزم منه التطابق من كل وجه، فحين يقوم الزوج بعمل، وتقوم الزوجة بآخر، فإن هذا مما تحصل به المشاركة، حين يكون كلا العملين من مهمات الحياة الأسرية، صحيح أن التشارك في العمل الواحد فيه من المؤانسة والتودد ما يذهب الوحشة، ويحفز المشاعر، لكن المشاركة في الأعمال المنزلية قد لا تكون -في بعض الأحيان- مناسبة لزوج يكدح أكثر اليوم، كما أن العمل خارج المنزل قد لا يناسب كثيرا من الزوجات، لضعفٍ، أو كثرةِ أعباءٍ منزلية وتربوية، أو شيء من نحو ذلك، ثم إنه لمن الطغيان –أيضا فوق ما سبق- تحميل الزوجة عبء العملين الخارجي والمنزلي، في الوقت الذي يتحمل فيه الزوج عبئا واحداً منهما فقط، فلا بد من مشاركة حقيقية عادلة، كما في المقابل يُعَدُّ من مظاهر البلادة، أن تَنْكل الزوجة عن عمل ما تجيده وتقدر عليه، حتى تزيد من أحمال زوجها وأعبائه، رغبة منها في إنهاكه، حتى لا يكون لغيرها حظا فيه، فهذه ضميمة واقعية في غاية الأهمية، ولذلك فإن مفهوم المشاركة، قد لا يعني في بعض الحالات حرفية التعاون في القيام بالأعمال نفسها، وإنما تتحقق المشاركة بكفاية كل شريك لشريكه الثاني ما هو محتاج إليه، فبينما يقوم هو بعمل تكون فيه كفايتها، تقوم هي بكفايته عملاً آخر، فتتحقق بذلك المشاركة في أنصع صورها وأجَلِّ أحوالها.

العبادة والمشاركة

إن من أهم الأعمال التي تكون المشاركة فيها سببا في جلب المودة والرحمة بين الزوجين، المشاركة في العبادات، ففي صحيح ابن خزيمة وسنن أبي داود ومسند أحمد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: «رحم الله رجلا قام من الليل فصلى، وأيقظ امرأته، فإن أبت، نضح في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت، وأيقظت زوجها، فإن أبى، نضحت في وجهه الماء «، ويمكن تطبيق ذلك في قراءة القرآن وصلاة الليل والصدقة وغيرها من الصالحات، على أن المقصود بالنضح بلل خفيف يحصل به الانتباه، وليس صبا أو إغراقاً بالماء يحصل به إفساد المزاج.

التقدير والثناء

إن هذا من أهم صور المعاشرة بالمعروف، وأكثرها قدرة على محو السلبيات، وتخفيف المتاعب النفسية والجسدية، أن يحرص كل من الزوجين على إظهار تقديره للطرف الثاني، فكل واحد من الزوجين ينبغي عليه تقدير جهود الآخر، تقدير بذله وعطائه، فمهما كان الجهد المبذول ضعيفاً أو دون المأمول، فإنه بالتقدير والثناء يكون قابلاً للزيادة والتطوير، وعلى العكس تماماً حين يكون النقد، والتهوين، والإفراط في النظر بواقعية لما يصدر من جهود، والحكم على التصرفات بمعيار العدل لا الفضل، فإن هذا مما يثبط العزيمة ويفتر الهمة، ويصيب الطرف الآخر بالعِيِّ وعدم الرغبة في البذل، ومن ثم تعلو الحواجز بين الشريكين، وتشتد السدود، ويصبح في الضمير هاجس لا تقاومه النفس بأن هذا أو هذه لا يعجبه أو يعجبها شيء، وإن التقدير والثناء يأتي من احترام قيمة ذلك الطرف الآخر في حياة شريكه، فاحترام القيمة في الحقيقة هو عمود الخيمة، الذي إذا فُقِدَ بين الزوجين تصدعت أركان البيت، وإن مما يساعد على إبراز هذه القيمة، وسط ركام المشكلات الحياتية، وصخب الالتزامات الأسرية، وضغوطاتها، العدل في النظرة للطرف الآخر، والصدق مع النفس أثناء تقييمه، والنظر لدوره في حياته وأثره في مسيرته، لو أنصف كل طرف في تقدير قيمة شريكه، لسهل عليه دون شك مدحه والثناء عليه وتقديره، ولظهر لذلك أثره الحاني في نظرة العين وقبضة اليد، والبسمة الحنون، واللمسة الحانية، والاعتراف الصادق بالقيمة في القلب والوجدان.

تقدير رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لزوجاته

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حريصاً على تقدير زوجاته، والثناء عليهن، وذلك في أحاديث معروفة مشهورة، ينبغي أن نتعلم منها، كيف نتعامل مع أزواجنا، ونثني عليهن؟ فبرغم المثالب التي لا تخلو منها امرأة، وبرغم كدر الحياة التي لا تترك في النفس قدرة على مدح، نجده - صلى الله عليه وسلم- في وسط زخم حياته، وجلال مسؤولياته، ولأواء الظروف الخارجية والداخلية عليه، يثني على زوجاته، فيقول مادحاً عائشة -رضي الله عنها-: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإنَّ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» (متفق عليه)، فانظر كيف قال - صلى الله عليه وسلم-، وكيف عبَّرَ عن حبه لعائشة -رضي الله عنها-، وهي تروي ذلك الحديث في بعض رواياته، أي أنه ذكر ذلك وهي تسمع، ثم لماذا الثريد دون سائر الطعام؟، يأتي الجواب من حديث آخر، فقد روى أبو داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «كان أحبّ الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الثّريد من الخبز». ويقول - صلى لله عليه وسلم - مادحاً أم المؤمنين صفية -رضي الله عنها- فيما يرويه الترمذي عن أنس -رضى الله عنه- قال: «بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي، فبكت، فدخل عليها النبي - صلى الله عليه وسلم-، وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة -رضي الله عنها- إني ابنة يهودي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: وإنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي، ففيم تفتخر عليك؟!». فليس هذا تطييبَ خاطرٍ فحسب ولكنه تقدير كبيرٌ وإعلاءُ قدْر. وكذلك يثني على العاملات منهن، يُقدِّرُ عمَلهن، ويشهد لهن بالخير، فيقول - صلى الله عليه وسلم - في حق أم المؤمنين زينب -رضي الله عنها-: «أسرعكن لحاقا بي أطولكن يدا»، قالت عائشة -رضي الله عنها-: فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا، قالت: فكانت أطولنا يدا زينب؛ لأنها كانت تعمل بيدها وتصدق» (متفق عليه).

تقديم الواجب قبل السؤال عن الحق

فالبذل من دون انتظار لمقابل هو دليل الحب الصادق، نعم لكل من الزوجين حقوق، لكن يجب أن يسأل كل واحد من الزوجين عن واجباته قبل أن يطلب حقوقه، وإذا كان تأدية الواجبات دافعا أكيدا لنيل الحقوق من منظور العدل، فإن منظور الفضل يستلزم التجاوز عن طلب المساواة في العطاء، أو مقابلة الإحسان بالأحسن، فللمحبين ميزان آخر يزنون به أعمالهم، فالمحب يحرص دائماً على ألا يكون الطرف الآخذ فحسب، بل يبذل وسعه لتقديم أجمل ما لديه وأفضل ما عنده، في السلوك والمشاعر؛ لأن الواجبات ليست جهدا سلوكيا فقط ، بل هناك أمور معنوية ومشاعر إنسانية يمكن أن تعادل هذه بتلك، في بعض الحالات، فالعمل المادي يبلغ القلب ولكن الكلمة الطيبة والنظرة الحانية هي ما يستقر فيه.