كلمة عن سورة العصر


الحمد لله حتى يبلغ الحمدُ مُنتهاه، الحمد لله كما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه، وصلاةً وسلامًا على خاتم الأنبياء والمرسلين محمدٍ، وعلى آله وأصحابه الغُر الميامين، ومَن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين؛

قال الله تعالى في محكم التنزيل: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].

قال المفسرون في هذه الآية:
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وأوصى بعضهم البعض، وصبروا على ذلك، فعليك يا عبد الله أن تبدأ بنفسك، وتهتم بأعظمِ رُكن من أركان الإسلام، وهو الصلاة، فهي بوابة الصالحات والخيرات، وأول ما يُسأل عنه العبد في قبره، إذا صلحت صلَح سائر العمل، فلا بد من المحافظة على هذه الصلوات الخمس في المسجد مع جماعة المسلمين، وقد ذكرها الله في تسلسل هذه الآيات من سورة البقرة، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ * أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 43، 44].

لذا دلت هذه الآيات أنك لا بد من أن تبدأ بنفسك بالحفاظ والالتزام بما أحل الله والبعد التام، ومجاهدة النفس عما حرَّم الله علينا من أقوال وأفعال، ثم يبدأ تأثير كلمتك ونصحك لغيرك واضحًا،

وقد حذَّرنا الله وقال في مستهل هذه السورة: إن الإنسان لفي خسر؛ أي: في نقصان وهلاك إذا لم يحقِّق ما دلت عليه الآية التي بعدها من عملٍ للصالحات ابتداءً، ثم التواصي بالحق والتواصي بالصبر لاحقًا.

فتحقيق مراد هذه الآيات يأتي على أوجه كثيرة؛ منها:
تعليم الأبناء الأدعية التي توافق الأنشطة اليومية؛ مثل حين يركب السيارة يأتي دعاء: سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كنا إليه مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، وقبل أن يصل إلى المدرسة يدعو: اللهم علِّمني ما ينفعني، وانفعني بما علمتَني، وزدني علمًا، أو اللهم إني أسألك علمًا نافعًا ورزقًا طيبًا وعملًا متقبلًا، وحين يبدأ بالأكل معك على وجبة الغداء أو العشاء، فبادِر بقولك: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم بارِك لنا فيما رزقتنا ... وإذا فرغ من الوجبة يقول: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة، ولك أن تقول هذا الأدعية وأن تكرِّرها مرارًا عند الجلوس للوجبات سويًّا مع الأبناء يومين أو ثلاثة، لعل فضوله يدعوه لسؤالك عما تقول عند بداية أكْلك وعند نهايته، ثم تبدأ بتشجيعه لحفظه هذه الأدعية والمحافظة عليها، كذلك حفظ آية الكرسي، وقولها عند وقت النوم خاصةً لورود الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصته مع الشيطان أنه قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعلي عيال، وبي حاجة شديدة، فخليت عنه، فأصبحت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟
قلت: يا رسول الله شكا حاجةً وعيالًا، فرحمته، فخليت سبيله، فقال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج، وعلي عيال لا أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة»؟
قلت: يا رسول الله شكا حاجةً وعيالًا فرحمته، فخليت سبيله، فقال: «إنه قد كذبك وسيعود»، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود، ثم تعود، فقال: دعني فإني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هنَّ؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل أسيرك البارحة»؟ فقلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: «ما هي»؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وقال لي: لا يزال عليك من الله حافظ، ولن يقرَبك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث يا أبا هريرة» ؟ قلت: لا، قال: «ذاك شيطان»؛ (رواه البخاري).

أيضًا من أوجه التواصي بالحق والتواصي بالصبر في الدائرة التي تحتوي على الجيران والأصدقاء والمارة في الشارع، وهي أن تحثهم على فضائل الأعمال وتجنُّب سيِّئها بأسلوب لطيف وخفيف يتناسب معهم؛ كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ} [النحل: 125].

فإن لم تستطع أن تجد طريقًا مناسبًا للتكلم معهم، فلا تبخل عليهم بخالص دعائك لهم في ظهر الغيب.

أحد الأشخاص من عامة الناس وليس ممن هم من الدعاة أو المشايخ الفضلاء، ولكنه شخص نحسَبه والله حسيبُه ممن يحب الخير لإخوانه من المسلمين؛ حيث ذكر في لفتة جميلة منه أنه إذا سمع أحدكم أن ابن فلان ما من الأقارب أو الجيران، أو من أهل الحي على معصية ما، فلا بد من أن نخصه بدعوة خاصة له بالصلاح والهداية، وذلك لما يعود على الداعي نفسه بالخير، وقد أورد ذلك صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبدٍ مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا قال الملك ولك بمثل»؛ (رواه مسلم).

حتى وإن قابلت في طريقك أحدَهم يُمارس التدخين أو أحدهم يستمع للأغاني الصاخبة، بينما تكون واقفًا عند إشارة المرور، أو مرَّ بجانبك مسرعًا، فبادر في نفس اللحظة بدعائك له بالخير والصلاح والهداية، لعلها تكون ساعة استجابة، فيصلح ذلك الشخص وينتفع به أهله والمجتمع، وتكون أنت يا عبد الله سببًا في هدايته.

فتذكر يا رعاك الله قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا، خيرٌ لك من حمر النعم».

فهذه العادة الجميلة من دعاء الناس لبعضها بالخير، يكون سببًا في تقويم المجتمع على المنهج الصحيح، ودحر البغضاء والمشاحنات بينهم، وسنحقق بإذن الله ما ذكره الله تعالى في سورة العصر ذات

الآيات القلائل، لكنها عظيمة المعاني.


اللهم اجعلنا ممن يستمعون للقول، فيتبعون أحسنه، واجعَلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر.
______________________________ _______________________
الكاتب: علي بن عبدالله