إنسانية أم بهيمية


جاء الإسلام لينقح الإنسانيَّة من شوائب البهيميَّة التي تزداد تمكُّنًا من المجتمعات كلَّما ابتعدوا عن صفاء الشَّرع، اعتِقادًا وعملاً وسلوكًا.

فليس للإنسان خاصِّيَّة تميِّزه عن البهيمة سوى ما كرَّمه الله به، من ذلك العقل المفكِّر المتأمِّل الَّذي به يميِّز طريقَي الشُّكر والكُفر وحدهما وما يوجب وقوعَهما، والقدْرة على سلوك أيّهما؛ ﴿ {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} ﴾ [الإنسان: 3]، وجعل الله لذلك الإنسان رغبةً فطِر عليها وغرِز في نفسه ميول إليها، فكان الطَّريقان: طريق استكمال الرَّغبات الصَّادر عمَّا ركب فيه من الشَّهوة، وطريق توخّي سوء العاقبة الصَّادر عن عقلِه المميز.

وهما طريقان متوازيان في مواضع ومتداخِلان في أكثَر سيْرِهما، بحيث إنَّه يُمكن للإنسان إنفاذُ شهوة ورغبة معيَّنة مع أمْنِه سوء عاقبتِها في بعض مواضع الطَّريقين، وذلك بتمتُّعه من الدنيا بما أحلَّ الله له: ﴿ {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} ﴾ [الأعراف: 32] ولا يمكن له ذلك في أغلب مواضعهما؛ لأنَّ النَّفس أمَّارة بالسوء إلاَّ ما رحم ربِّي؛ قال تعالى: ﴿ {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ﴾ [يوسف: 53]، ومنتهى السَّير في طريق إنفاذ الرَّغبات والشَّهوات دون حدٍّ أو قيدٍ يؤدِّي إلى دمار شامل لا يقتصر على ذات الإنسان، بل إنَّه يتعدَّى إلى غيره، بل يصِل شؤم ضررِه ومنتهى خطره إلى أعظم مخلوقات الله المشاهَدة؛ قال تعالى: ﴿ {وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} ﴾ [المؤمنون: 71].

والإسلام جاء بإيجاب السَّير في طريق توخِّي سوء العواقب، وهو طريق التقوى؛ قال الله تعالى: ﴿ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} ﴾ [النساء: 1]، فهو أمرٌ واجبٌ يلزم النَّاس القيام به، ولو كان ذلك على حساب فوات مطالب النَّفس وتحقُّق رغباتِها؛ لأنَّه بذلك فقط تتمُّ للنَّفس سعادتها وتتحصَّل نجاتُها، وهذا مقتضى نتاج العقْل المميز لسوء العواقب وحسنها، أمَّا خِلاف ذلك بأن يسير الإنسان بطريق إنفاذ الرَّغبات دون توخٍّ لسوء العواقب، فهذا مقتضى ما فيه من صفات بهيميَّة رفعه الله عنْها وكرَّمه، فسيرُ البهائم إذًا هو التَّغاضي عن سوء العواقب لأجْل تحصيل الشَّهوة وإنفاذ الرَّغبة.

ومن ذلك نستطيع القول: إنَّ الإنسان لا يستحقُّ وصف الإنسانيَّة إلاَّ إذا أعْمَل عقْلَه المميِّز، بالسَّير على طريق توخِّي سوء العواقب واتِّقاء نار الله وسخطه وغضبه، ولو كان ذلك على حساب فوات رغبة النَّفس المعارضة للتَّقوى.

فكلُّ شعارات بعد ذلك للإنسانيَّة وهي تشتمل مخالفات شرعيَّة، نعلم أنَّها في الحقيقة وعند التَّحقيق لا تعدو أن تكون دعوة بهيميَّة حيوانيَّة، ليس لها في الإنسانيَّة حظٌّ ولا نصيب.

إنَّ دعاوى الفكر التَّغريبي - علمانيَّة كانت أم ليبراليَّة - ورفعها لشعارات الإنسانيَّة وهي تتنصَّل جهارًا من كل ما يهذِّب الإنسان ويقوِّم إنسانيَّته - هي في الحقيقة كذِب وافتراء على الإنسانيَّة ذاتها؛ لأنَّها حقيقة دعوة للتحرُّر من كلِّ قيد، والاستهانة بكلِّ غال، والوضْع لكل شريف، والتعدِّي على كلِّ حرز، والتسلُّق على كلِّ مسوَّر، والتنكُّر لكلِّ انتماء، هي في الحقيقة فوضويَّة بهيميَّة وانحطاط في فطرة النَّاس، وبعْدٌ عمَّا يصلح لهم ويزكيهم؛ لأنَّ مقتضى تمييز العقْل تجنُّب ما يسوء وفعل ما يحسن، فإذا هتك ستار التَّمييز هتك ستار العقل، وهتكُ ستار العقل هتكٌ لستار الإنسانية، وبالعقل ونتاجه فقط يكون تميُّز الإنسان عن كلِّ مخلوق غيره.
منقول