مجالات الوقف المؤثرة في الدعوة إلى الله تعالى


د. مقتدى حسن بن محمد ياسين الأزهري



هذا العصر يتسم بالتطور الهائل السريع في كل ميادين الحياة والنشاط البشري؛ بسبب التغير الكبير الذي طرأ على النظريات العلمية والفكرية، فقد دفع هذا التطور الإنسان إلى محاولة تسخير كل ما في الطبيعة لتحقيق مآربه في فتح آفاق جديدة في حقول العلم والمعرفة، ومن هنا كانت الحاجة ماسة الى التدريب لتطوير أساليب العمل بما يتلاءم مع طبيعة الحياة الجديدة، ويلاحق هذه الانطلاقة الجبارة نحو غايتها المنشودة، ويساعد على تطبيق العلم تطبيقا عمليا صحيحا؛ للوصول بالعلم إلى الغاية المثلى التي تهدف إلى إنجاز الأعمال على أحسن الوجوه وفي أقصر وقت وبأقل التكاليف.


تدريب الدعاة يحتاج إلى التمويل

ولا يمكن خلق الداعية الذي يقوم بعمله على الوجه الأكمل إلا عن طريق التدريب الذي يتم على أسس علمية سليمة؛ لأن التدريب هو الذي يجعل من الفرد لبنة قوية في بناء المجتمع، ويكون دعامة من دعائم نهضته. والتدريب علم من العلوم يجب السعي إليه للاستفادة منه كلما سنحت الفرصة، وقد أمر الله رسوله بطلب الاستزادة من العلم في قوله تعالى: {وقل رب زدني علما} (طه: 114) والتدريب عملية مستمرة ومنتظمة لزيادة المعرفة والخبرة للداعية وتحسين الأداء، وقوله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (يوسف: 108).

وهذا يرشد إلى أن الداعية ينبغي أن يكون ملما بكل المعلومات التي يجب أن يتصف بها في أداء رسالته.

ودور الجامعات في التدريب مهم؛ فإنها هي المكان الذي يتزود منه الطالب بالتعلم والمعرفة، وهي بدورها تستطيع أن تبني المجتمع بناءً سليما وصحيحا لو أدَّت دورها على الوجه الأكمل، والجامعات لها دورها الرائد في التدريب وتنمية الخبرات والمهارات، ولاسيما في قطاع الدعوة الإسلامية. والجامعات بكل ما فيها من أساتذة وخبرات لا تستطيع أن تؤدي دورها التدريبي إلا إذا توافر لبعض هيئات التدريس فيها الأفق الواسع ومعرفة الأفكار المعاصرة والواردة إلى المجتمع بغية تفتيت عقيدته.

والتدريب يحتاج إلى أمور عدةٍ، منها: التمويل؛ وذلك لأن التدريب ضرورة من ضرورات تطوير الدعوة الإسلامية وصقل الداعية بالخبرات والاطلاع على كل جديد؛ فلابد أن يكون التمويل المادي كافيا لتوفير المكتبة اللازمة بمركز التدريب التي يطلع المتدرب فيها على كل جديد.

وعن دور الدولة الإسلامية في تنشيط الدعوة وتحمل مسؤولياتها يتكلم باحث فيقول: انعقد إجماع المجتهدين على أن وظيفة الدولة الإسلامية التي يتولاها ولي الأمر ونوابه والمؤسسات المعاونة له هي حراسة الدين وسياسة الدنيا به، وأن حراسة الدين تتمثل في المحافظة على المصالح الشرعية الكلية التي قام عليها الإسلام، وأنشئت من أجل حمايتها الدولة، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.

وإذا كانت حراسة الدين والحفاظ عليه هي وظيفة الدولة الإسلامية، كان تمويل هذه الحراسة وذلك الحفظ أول واجباتها، وإذا كان الغزو للإسلام فكريا يستهدف العقائد والمفاهيم والمناهج والقيم، كان واجب الدولة هو الإعداد للدعاة المؤهلين علميا والمدربين عمليا على صد هذا الغزو ودفع ذلك العدوان.

ودعم الدولة للدعوة الإسلامية، وتمويلها لمؤسسات إعداد الدعاة وتدريبهم، وإنفاقها على خطط الدعوة الإسلامية في الخارج وبرامجها في الداخل - يكون من بيت مال المسلمين، لا يختص ذلك بمورد دون مورد؛ باعتبار أن سبب قيام الدولة الإسلامية وأساس مشروعيتها هو حراسة الدين وسياسة الدنيا؛ فكان ذلك من المصالح العامة التي تمول من خزانة الدولة العامة.

فإذا قصرت الدولة في هذا الواجب، توجه التكليف بذلك إلى المسلمين أفراداً وهيئات، وتقوم الأفراد والهيئات بهذا التمويل وفق خطة متكاملة للدعوة يتم إعدادها على المستوى الإقليمي أو الدولي.

أعداء الإسلام يستخدمون المال

وأهمية الناحية المادية وتأثيرها في نشر النصرانية بين الناس في العالم قد أبرزها بعض الباحثين ليتضح دور المال في تحقيق الأهداف، وتتبين طرق استخدامه عند الآخرين، يقول الباحث: لما رأى الأعداء ما انتابنا من ضعف سياسي واقتصادي، طمعوا فينا فغزونا في عقر دارنا، وبثوا المبشرين في مجتمعاتنا، مركزين علي المدارس والمستشفيات، ومستخدمين أموالهم الطائلة وتقدمهم العلمي والتقني، ومن ورائهم المجالس الكنسية وتعضيد الحكومات وكبار الشركات، فيوزعون الطعام والشراب والملابس للمحتاجين المعوزين من المسلمين، ويزورون المرضى، ويعالجون، ويقدمون المنح الدراسية للشباب في معاهدهم، ويقومون بمشروعات إصلاحية مستخدمين في ذلك شبابهم وأموالهم باسم حب الخير والإصلاح والإنسانية، والواقع أن كل ذلك مؤامرات خبيثة ومصايد خفية لاصطياد المسلمين وتحويلهم للمسيحية، ولأسف الشديد أثمرت جهودهم انتصارات جمة للمسيحية على حساب الإسلام، فوزعوا الكنائس في قلب القرى والأحياء الإسلامية، صنعوا ذلك في عديد من البلاد في آسيا وأفريقيا، ولا تزال جهودهم مستمرة.

ومن بين أساليب المبشرين الخبيثة الفعالة تبني الأطفال من العائلات الفقيرة بوصفة عملاًخيرياً إنسانياً في ظاهره، وذلك للإنفاق عليهم وتربيتهم، فينشئونهم في مدارسهم، ويلقنونهم الأناشيد الدينية والطقوس النصرانية، ثم يصنعون من بعضهم قساوسة ودعاة للنصرانية، وقد يساعدون بعضهم للحصول على أعلى الدرجات الدراسية، ويمكنونهم من المناصب الهامة ليستفيدوا من نفوذهم، ولقد التقيت بديبلوماسيين ومبشرين في بعض المحافل والمؤتمرات وهم من أمهات مسلمات، ولهم إخوة مسلمون، ويقوم هؤلاء بعمل الشيء نفسه، فيأخذون أبناء الفقراء، ويجمعون لهم الأموال من كل الجهات، ويطلبون ممن يأنسون فيهم الكرم - حتى من بين المسلمين - تبني هؤلاء الأطفال غيابيا للإنفاق عليهم بتبرع شهري (لله تعالى)، وقد لا يرى المبتني الطفل الذي تبناه، ولا يدري أنه ينشأ ليبشر بغير دينه.

واقع مؤلم

النصارى يستغلون كل فرصة لنشر ديانتهم بين الناس، ويقدمون كل عون بسخاء، يحكي باحث عن الصفقة التي تمت في الصومال عقب الحرب بينها وبين الحبشة، فيقول: تقدم قسيس بلجيكي إلى المسؤولين الصوماليين بأن يتولى رعاية عدد من أطفال اللاجئين، وتمت الصفقة بتسليمه أكثر من 30 ألف طفل من أطفال المسلمين يرعاهم ويربيهم ويعلمهم، وبالطبع فإنه يربيهم على النصرانية، ويعلمهم الإنجيل ويسخرهم لنشر النصرانية بين الشعوب، ولخدمة الأهداف النصرانية في العالم. ومثل هذه الأعمال تتم بالإمكانات المادية، ونحن مطالبون بالتفكير في هذه الناحية أيضا، حتى يشمل عمل الدعوة كل ناحية، ويؤتي ثمارا طيبة.

أعمال خيرية عظيمة أنجزت بالهند بالأوقاف الإسلامية

كانت فترة الحكم الإسلامي بالهند طويلة، والحكام في هذه الفترة كانوا متجهين إلى الشؤون السياسية، ولكنهم في الوقت نفسه لم يهملوا الناحية الدينية، فالتاريخ يحكي عنهم أعمالا علمية خيرية عظيمة قاموا بها حبا في الخير، وخدمة للدين والعلم، وفي السطور التالية بعض التفاصيل:

شمولية أهداف الوقف

طبقات الناس في المجتمع متفاوتة في الصفات ومختلفة في العمل والأداء، فكان لا بد للشارع الحكيم - وهو بصدد تنظيم الحياة - أن يأمر الغني بملاحظة الفقير، والقوي بإعانة الضعيف. وقد أخذ تنفيذ هذا الأمر حالات متنوعة منها الفرض، ومنها الواجب، ومنها المستحب، ومنها ما هو مادي، ومنها ما هو خاص بالخلق والشمائل، وهكذا كانت الحياة في المجتمع الإسلامي متكافلة متعاونة، إلا أن أوجه الإنفاق إذا كانت كثيرة متنوعة، فإن أفضلها ما كان منظما مضمون البقاء، يقوم على أساس، وينشأ من أجل هدف محدد، ويرمي إلى غاية شرعية خيرة. وهذا يكون بالوقف الذي يحفظ لكثير من الجهات العامة حياتها، ويساعد كثيرا من زوايا المجتمع على استمرارها؛ مما يضمن لكثير من طبقات الأمة لقمة العيش عند انصراف الناس، أو طغيان الخطر، أو حالة الطوارئ.

وأغراض الوقف في الإسلام ليست قاصرة على الفقراء وحدهم ودور العبادة، بل تتعدى ذلك إلى أهداف اجتماعية واسعة وأغراض خيرة شاملة؛ حيث تناولت دور العلم ومعاهد الدراسة، وطلبة العلوم الإسلامية القائمين على شريعة الله، فكانت للوقف جامعات علمية، ومؤسسات نشرت نورها على الأرض، وحملت رسالة الإسلام إلى الناس، ومن الوقف وحده نشطت في البلاد الإسلامية الواسعة حركة علمية منقطعة النظير وفرت للمسلمين نتاجا علميا ضخما، وتراثا إسلاميا خالدا، وفحولا من العلماء الذين لمعوا في التاريخ العالمي كله.

وحكام المسلمين بالهند كانوا مهتمين جدا بنظام الوقف؛ لأن الأعمال الدينية والخيرية كلها كانت تؤدى بهذه الأوقاف، وكثرة الأوقاف اقتضت أن تكون أمورها منظمة ومسؤولياتها موزعة حتى يتم الإشراف والأداء على طريقة جيدة، ونظرا إلى التسهيل والإتقان كانت الأوقاف تحت إدارة مركزية تليها إدارة إقليمية ثم إدارة محلية.

والإدارة المركزية كانت تعني أن يشرف الملك بنفسه على الأوقاف وما يحصل منها، وينوب عنه صدر الصدور، وهكذا الإدارة الإقليمية كانت تحت إشراف صدر الصدور ونائبه، وهكذا كانت الإدارة المحلية تحت إشراف القضاة والمشرفين والمسؤولين الذين يتولون إنجاز الأمور المتعلقة بالأوقاف والمستفيدين منها.

وهذه العناية بالأوقاف في ذلك العهد كانت لإدراك أهل الحل والعقد منافع الأوقاف، وكيف أنها تخدم المجتمع، وتساعد في القضاء على تكدس الأموال، وتمسح دموع المساكين والأرامل، وتقف مع المحتاجين واليتامى، أما الآن فساءت الأحوال، وصارت الأوقاف في الأيدي القاصرة؛ ففقدت معنويتها، واختلت أنظمتها. والواقع أن الأمة المسلمة لديها مشاريع عظيمة، ولكنها لا تملك الوسائل المادية، وفي جانب آخر أوقافها تملك ثروة كبيرة ومالا طائلا، لكن ليست عندها مشاريع تنفق عليها المال.

يقول الشيخ أبوالحسنات عن إنفاق الأثرياء في بيهار على العلم: أما الأغنياء الذين لم يكونوا أهل علم، فإنهم كانوا يجمعون عندهم العلماء والفضلاء حفاظا على مكانتهم وكرامتهم بين أهل العصر، ويمنحون العطايا والجرايات للطلبة، ويرون ذلك وسيلة للنجاة في الآخرة، وهذه العادة لا تزال مشاهدة في ولاية بيهار إلى اليوم.

وذكر صاحب سير المتأخرين عن «علي وردي خان» المرشد آبادي أنه كان شغوفا بالعلوم والفنون، ومن حبه للعلم وأهله أنه دعا عديدا من العلماء والفضلاء إلى مرشد آباد، وخصص لهم منحا كبيرة، والعلماء الذين قدموا من عظيم آباد إلى مرشد آباد على دعوة منه منهم: مير محمد علي، وحسين خان، وعلي إبراهيم خان، وحاجي محمد خان، وأولهم كانت عنده مكتبة عامرة ضمت أكثر من ألفي مجلد من الكتب.

اتجاه الملوك والحكام إلى الأعمال الخيرية

ذكر الشيخ عبدالحي الحسني عن الملك شير شاه المتوفي 952هـ أنه لما ولي المملكة أسس شوارع عديدة منها الشارع الكبير الذي يمتد من قلعة «رهتاس گده» التي بناها شير شاه المذكور في «بال ناته جو گى» علي 120 ميلا من لاهور، إلى بلدة «سنار كاؤن» من أرض بنكاله على مسيرة 4 أشهر. ومنها الشارع الذي يمتد من آكره إلى جوده پور وإلى قلعة «چتور» ومنها الشارع الذي يمتد من آكره إلى «برهان پور» من بلاد «خانديس»، ومنها الشارع الذي يمتد من لاهور إلى ملتان.


وهذه الأربعة تكتنفها الأشجار المثمرة، وبني عليها 1700 رباط، وبني في كل رباط دور ومساكن للهنادك ولأهل الإسلام كل على حدة، وعلى أبواب الرباطات السقاية المملوءة بالماء يشرب منها، وكل من ينزل في تلك الرباطات تعطى له المآكل والمشارب وغير ذلك مما يحتاج إليه المسافر على حسب منزلته بلا قيمة؛ فلا يفتقر أحد من المسافرين إلى حمل زاد في تلك الطرق، وكان في كل رباط مسجد فيه الإمام والمؤذن على نفقة السلطان، وفي كل رباط جماعة من الشحنة وأتباعه من المحافظين.

وذكر الشيخ الحسني نفسه عن عهد عالمكير بن شاهجهان أنه أمر بتعمير الرباطات القديمة، وبتأسيس الجديدة، فبنيت الرباطات، وحفرت الآبار، وبنيت المساجد، وأسست الجسور والقناطير الكبيرة على الأنهار في تلك الطرق، وأنفق فيها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة.