التوكل


مِن أعظم العبادات القلبيةِ التوكُّلُ على الله تعالى في جميع الأمور؛ قال بعضُ أهل العلم: "التوكُّل صِدْقُ اعتمادِ القَلْبِ على الله عزَّ وجلَّ في جلْب المصالح، ودفْع المضارِّ من أمور الدنيا والآخرة، وأن يَكِل العبدُ أمورَه كلَّها إلى الله، وأن يحقِّق إيمانه بأنه لا يُعطي ولا يمنع، ولا يَضرُّ ولا يَنفع، إلا هو سبحانه وتعالى"[1].

قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} [الأنعام: 17].

وقد أمَر عبادَه المؤمنين بالتوكُّل في مواضعَ عديدةٍ مِن كتابه، وجاء ذِكره في أكثر من خمسين آية، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58].

وقال سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

وقال سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء: 217 - 219].

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنكم تتوكَّلون على الله حقَّ توكُّلِه، لَرَزَقَكُم كما يرزق الطير؛ تَغْدُو خِمَاصًا، وَتُروحُ بِطَانًا» [2].

قال الحافظ ابن رجب: "هذا الحديث أصلٌ في التوكل، وأنه مِن أعظم الأسباب التي يُستجلَب بها الرزق؛ قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3].

وقد دلَّ حديث عمر رضي الله عنه؛ أن الناس إنما يُؤتَوْن مِن قلَّة تحقيق التوكُّل، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم، ومساكنتهم لها؛ فلذلك يُتعِبون أنفسَهم في الأسباب، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد، ولا يأتيهم إلا ما قُدِّر لهم، فلو حقَّقوا التوكلَ على الله بقلوبهم، لساقَ اللهُ إليهم أرزاقَهم مع أدنى سبب، كما يسُوق إلى الطير أرزاقَها بمجرد الغدوِّ والرَّوَاح، وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير"[3]. اهـ.

وقال بعض السلف: "توكَّلْ على الله تُسَقْ إليك الأرزاقُ بلا تعبٍ، ولا تكلف"[4].

قال سعيد بن جبير: "التوكُّل جماع الإيمان"[5].

قال ابن القيم رحمه الله: "التوكل مِن أقوى الأسباب التي يَدفع بها العبدُ ما لا يطيق مِن أذى الخَلْق، وظلمِهم، وعدوانهم"، وقال: "التوكلُ نصفُ الدِّين، والنصفُ الثاني الإنابة، فإن الدِّين استعانةٌ وعبادةٌ، فالتوكل استعانة، والإنابة هي العبادة"[6].

عن أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا خرج الرجُل مِن بيته فقال: بسم الله، توكَّلتُ على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله» ، قال: «يُقال حينئذٍ: هُدِيتَ، وكُفيتَ، ووُقيتَ، فَتَتَنَحَّى له الشياطين، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي، وَكُفِيَ، وَوُقِيَ» ؟![7].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "حسبُنا اللهُ ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلْقِيَ في النَّار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: إنَّ النَّاس قد جمعوا لكم فاخشوْهم، فزادهم إيمانًا، وقالوا: حسبُنا الله ونعم الوكيل"[8].

فإبراهيم عليه السلام عندما قال: "حسبُنا الله ونعم الوكيل"، كانت عاقبته ما قاله جل وعلا: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].

ومحمد عليه الصلاة والسلام حين قال: "حسبُنا الله ونعم الوكيل"، كانت عاقبته ما قاله سبحانه: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174].

ومؤمنُ آلِ فرعون عندما كاده قومُه، قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}، قال تعالى: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 44، 45].

وها هنا مسألة مهمة ينبغي للمسلم فهمُها فهمًا صحيحًا، وهي التوفيق بين التوكل وفعْل السبب، فأقول:
أولًا: التوكل هو عملٌ القلب، واعتمادُه على الله تعالى في جلْب الخير، ودفْع الشرِّ، وفي جميع أمور العبد كلها؛ الدنيوية والأخروية، أما الأسباب فإنها عملُ الجوارح فعلًا وتركًا.

ثانيًا: مِن الناس مَن يترك فعلَ الأسبابِ كلها، ويدَّعي أنه منَ المتوكِّلين، ومنهم مَن يتعلق قلبُه بالأسباب، ويعتقد أنه لا يتمُّ له أمرٌ إلا بفعلِ سببٍ، وكلا الطائفتين قد جانبَتِ الصواب.

والحق أن المتوكل حقيقة هو مَن فوَّض أمرَه إلى الله، ثم نظر: فإن كان هذا الأمرُ له أسباب مشروعة، فعلها؛ انقيادًا للشرع، لا اعتمادًا عليها، ولا انقيادًا لها، وإنما امتثالًا لأمْر الشارع، فإن لم تكُن هناك أسبابٌ مشروعة، اكتفى بالتوكل على الله.

يشهد لما تقدَّم حديثُ أنس رضي الله عنه: قال رجل: "يا رسول الله، أعقلُها وأَتَوَكَّل، أو أطلِقُها وأَتَوَكَّل؟"، قال: «اعقلْها وتوكلْ» [9].

أما الطَّائِفَةُ الأخرى التي تعلَّقت قلوبُها بالأسباب، فقد ضعُف عندها الإيمانُ بكفاية الله تعالى لمن توكَّل عليه، فتراها تجتهد في فعل الأسباب، وإن لم تكن مطلوبة شرعًا أو عقلًا، وقد أخطأ هؤلاء حين ظنُّوا أنه لا يتمُّ أمرٌ إلا بسببٍ؛ فالله عزَّ وجلَّ يُعطي ويمنع بسببٍ، وبغير سببٍ.

وقد أخبر سبحانه في آيات كثيرة أن في التوكل على الله كفايةً للعبد، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب: 3].

واعلم يا عبد الله، أنَّ التوكُّل مرتبةٌ عظيمة، لا يَنال كمالَها إلا القليلُ مِن العباد، والمتوكلون أحباء الله وأولياؤه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِي نَ} [آل عمران: 159].

ولو توكَّلَ العبدُ على الله حقَّ التوكل، لم يَحتَجْ إلى غيره، لكن لما علم اللهُ تعالى ضَعْفَ البشَر؛ شرع لهم من الأسباب ما يُتمِّم لهم به معنى التوكل، وذلك من رحمته تعالى بعباده، ولطفِه بهم.

فعلى المسلم أن يَفهَم هذه الحقائق، وأخُصُّ بالذِّكر إخوانًا لنا يَطلبون أرزاقَهم بطُرق محرَّمة أو مشبوهة، كالذين يَعملون في البنوك الربويَّة، أو يُتاجرون بما حرَّم الله، كآلاتِ اللهو أو المخدرات، أو الخمور، أو الدخان، أو يَتعاملون بالكذب والغش والخيانة والخداع؛ لأخْذِ أموالِ الناس بغير حق، ويكفي أن نسوق إلى هؤلاء جميعًا هذا الحديثَ العظيم، الذي أوحاه جبريلُ الأمين إلى الرسول الكريم نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فاسمعوه وتأمَّلُوه؛ فإنَّه جديرٌ بالتفهُّم والتدبُّرِ؛ لما اشتمل عليه من الحِكَم العظيمة.

عن أبي أمامة رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن رُوح القدسِ نفَث في روعي؛ أن نفسًا لن تموت حتى تستكمِل رزقَها، وتستوعِب أجَلَها، فاتَّقوا الله، وأجمِلوا في الطلَب، ولا يحملنَّ أحدَكمُ استبطاءُ الرزق أن يطلبه بمعصية؛ فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته» [10].

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.


[1] "جامع العلوم والحكم" (2/497).
[2] "مسند الإمام أحمد" (1/30).
[3] "جامع العلوم والحكم" (2/502).
[4] "جامع العلوم والحكم" (2/502).
[5] "جامع العلوم والحكم" (2/497).
[6] "التفسير القيم" (ص587)، و"مدارج السالكين" (2/118).
[7] "سنن أبي داود" (4/325)، برقم (5095).
[8] "صحيح البخاري" (3/211)، برقم (4563).
[9] "سنن الترمذي" (5/668)، برقم (2517)
[10] "حلية الأولياء" (10/27)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير" (1/420)، برقم (2085).

______________________________ ____________
الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي