الثروة النادرة وكيف نُنَمِّيها


سالم محمد


(جعَلَ اللهُ العِلمَ مَنارًا وهِدايةً إلى طَريقِه، وبدونِ العلمِ يَضِلُّ الناسُ الطَّريقَ، فالعِلمُ الحَقيقيُّ يَمنَعُ مِن الوُقوعِ في الزَّللِ)[1]، ولكنْ العلمَ يُقبَض بموت العُلماءِ وذهابهم، فيَضيعُ العِلمُ ولهذا المعنى أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلَمَاءِ، حتَّى إذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا» [2]، فإذا ابتعد الناس عن العلم، أو بمعنى أدق ندر وجود العلماء وطلبة العلم بينهم أو ربما انعدموا ، فالبديل سيئ جداً ألا وهو اتخاذ (رُؤُوسًا جُهَّالًا)، والنتيجة «فَسُئِلُوا فأفْتَوْا بغيرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا» ، لذا فالحاجة ماسة لطلاب علم يكونون شموساً تضيئ للناس ظلمات الجهل، و(أول تلبيس إبليس على الناس صدّهم عن العلْم، لأن العلْم نور، فإذا أطفأ مصابيحهم خبطهم في الظُّلَم كيف شاء)[3].
وأهم ثروة لدى الدول هي الثروة البشرية، لذلك توليها العناية بالتعليم والتدريب وحفظ الأمن وغيرها مما يجلب الطمأنينة لأفراد المجتمع، ولكن إذا انطفئ نور الوحي أو خفت ضوؤه تخبَّط الناس في ظلمات الجهل، وانحدروا في دركات التخلف الأخلاقي، وخسروا مستقبلهم الأخروي، فالعالم وطالب العلم أهم ثروة للأمة، إذ(ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم)[4] كما قال الإمامان الثوري والشافعي رحمهما الله تعالى، ومع أهميتهما إلا أنها شديدا الندرة مقارنة بالحاجة الماسة، ووصل الحال ببعض قرى المسلمين أن يتركوا الجمعة لعدم وجود من يحسن الخطبة والإمامة، فأين تجار المسلمين، وأولي الأمر منهم.
والأمة بفضل الله لا تخلوا من العلماء الربانيين، ولكنهم قليل، وغير متوزعين على أرجاء العالم الإسلامي، فتجد في جهات عالِـم بلغ درجة الاجتهاد، وفي جهات أخرى لا يكاد يوجد من يصلح إماما وخطيبا للناس، وهذا لا يدعونا إلى اليأس بقدر ما يدعونا إلى تكثيف الجهود، لردم الهوة السحيقة بين الناس ونور الوحي الرباني.
والناظر في حال الأمة والباحث عن أسباب تلك الأزمة، يجد أسبابا تختلف من قِطر إلى قِطر، ومن مِصر إلى آخر، فبعض الأقطار متاح فيها العلم ويوجد العلماء الذين يفتحون صدورهم لطلاب العلم، لكن أكثر الناس منهمك في الدنيا لتأمين المستقبل له ولأولاده كما يزعمون، وفي أقطار أخرى لا يوجد العلماء لكن بفضل الله تعالى فإن التعليم عن بُعد والقراءة يمكن أن تسد بعض الحاجة.
وطالب العلم الشرعي أصبح ثروة نادرة لأسباب كثيرة، منها عزوف الناس عن العلم الشرعي وتفريغ أبنائهم لذلك، والكل يسعى لأن يتقن ابنه لغات أجنبية والحصول على الشهادات من أجل الوظيفة والمال، وقليل جدا من يدفع بولده للتفرغ لطب العلم الشرعي عند العلماء الربانيين هذا إذا لم يكن عقبة في طريقه، ومن الأسباب كذلك أن مناهج التعليم الحكومي إما نبذت التعليم الشرعي، أو قلَّصته وجعلته هامشيا بحيث يتخرج الطلبة أشباه أميين في أهم المهمات في الإسلام وبذلك يقعوا فريسة سهلة للوقوع في الشهوات، والتأثر بالشبهات، ومنها كثرة المغريات فمعظم الشباب اهتماماتهم تافهة إن لم تكن مضرة فيحتل الترفيه سواء محرما أم مباحاً حيزا كبيرا من اهتمام وجُهد ووقت الشباب، وأكبر ما يستهويهم التعلق المجنون بكرة القدم ولاعبيها وأنديتها، والأسوأ من ذلك اعتبار الفسقة من الفنانين والممثلين قدوات لهم، ومن الأسباب الهجوم على العلماء وتشويه سمعتهم فبدلاً من اتخاذهم قدوات قد ينفِرُ الناس منهم متأثرين بالتشويه الظالم الواقع على الإسلام عموماً والعلماء خصوصاً، وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم، فمتى سقط الصحابة من أعين الناس فأي دين يبقى، وعن أي قرآن أو سنة نتحدث؛ لأنه لم يصل إلينا إلا عن طريقهم.
ونحن نعيش اليوم في أزمة جهل منتشر، فقد حورب العلم الشرعي حتى على مستوى خطب الجمعة فيتم اختيار الموضوع مسبقاً للإمام وغالبا لا يتم التركيز على القضايا المهمة التي ركز عليها الأنبياء كالعقيدة ونبذ الشرك وعقيدة الولاء والبراء ومحاربة الرذيلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي كثير من بقاع الإسلام يمنع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويُمَكّنْ للشرك والرذيلة بحجة التعايش وعدم التدخل في شئون الآخرين، حتى لقد أصبح سب الأنبياء من الحرية التي يحميها القانون الذي جاء عن طريق الديمقراطية العمياء التي ليس لها معيار موضوعي للعدل والظلم، ولا الخير والشر، ولا الصواب والخطأ،(وكيف يأمَنُ العبدُ على أهله وولده وماله في مجتمع ليست كلمة الله هي العُليَا فيه؟)[5].
ولكن ما هي الحلول العملية لكي نُنَمِّي هذه الثروة النادرة، ونزيد من وصولها إلى متناول الأمة؟
هناك ولا شك الكثير من الحلول والعلاجات لهذه المعضلة، ولو أنَّ هناك مؤتمرات أقيمت لتلاقح الأفكار وتوحيد الجهود لأصبحت الثمرة أفضل وتأثيرها أشمل وأعمق، لكن سنشير هنا إلى بعضها على وجه الاختصار:
على الشاب المسلم أن يختار المرأة الصالحة وحبذا لو كانت طالبة علم، فإن كثير من جهابذة العلماء كانت ورائهم أمهات يعرفن قدر العلم والعلماء، وكذلك بالعكس على ولي المرأة أن يبحث عن الرجل الصالح لمولويته، فكون المرأة طالبة علم فاحتمالية أن تصنع أجيالا من طلبة العلم العلماء كبيرة جداً.
الدفع بالأبناء النجباء إلى التفرغ لطلب العلم، وقبل ذلك يتم تنشئتهم وتعبئتهم على حب العلم والتفاني للحصول عليه، لأنه من أجل العبادات وهو جهاد في سبيل الله، و(تذاكر العلم بعض ليلة أحبُّ إليَّ من إحيائها) كما جاء قال ابن عباس رضي الله عنهما[6].
من كان موسراً فيكفل طلبة العلم ويكفيهم مؤونة العيش وتكاليف الحياة ليتفرَّغوا للدفاع عن حمى الدين وينشروا الخير للعالم أجمع، ولا يخفى الأجور العظيمة في ذلك، والنفع المتعدي لها، فكم هم الذي يملكون الأموال الطائلة لكنهم لا رغبة لديهم للتفرغ للعلم الشرعي، وهناك طائفة تحترق على العلم وتتوقد ذكاءً وفطنة، لكنهم منشغلون بطلب المعيشة، قد حيل بينهم وبين ما يشتهون، فمَن يكفلهم ليقدم للأمَّة أغلى هدية، وأعظم مشروع، وأغلى ثروة، ويجعل لنفسه أفضل صدقة جارية.(وكان عبدالله بن المبارك يتَّجر في البزِّ ويقول: لولا خمسة ما تجرت: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينه، والفضيل بن عياض، ومحمد بن سماك، وابن عُليَّة، وكان يخرج يتجر إلى خراسان، فكلما ربح من شيء أخذ القوت للعيال ونفقة الحج، والباقي يصل به إخوانه الخمسة).[7]
هناك الكثير من أهل الخير والإحسان لا يملك مالاً لكنه لا يدخر جهداً في الوصول إلى الخيريين وإقناعهم بالإنفاق في سبيل الله وكثير من جهودهم منصبَّة على الأيتام والأرامل وهذا خير، ولكنَّ هؤلاء لو سخروا جزء من طاقاتهم بإقناع الموسرين لكفالة طلبة العلم، لحدث خير عميم.
مر في النقطتين السابقتين الحديث عن كفالة طالب العلم، وأكثر جانب يحتاج إلى هذا النوع من الجهاد، هو كفالة طلاب العلم من البلدان ذات الأقليات المسلمة، أو الأعاجم حيث ينتشر فيهم الجهل بشكل مخيف، ويتعرضون لهجوم شرس أكثر من ذلك التي يتعرض له المسلمون في البلدان العربية.
الفضاء الإلكتروني به أكثر من(4.8 مليار مستخدم...و 62 % انتشار استخدام الإنترنت عالميا)، هذه بشارة ونذارة في نفس الوقت، فأما البشارة فكون طلب العلم عن طريق الأنترنت سهل وميسور لشريحة كثيرة من المسلمين، وأيضا الدعوة عن طريق الأنترنت سهلة جداً فحتى العامي بإمكانه أن يدعو إلى الله تعالى؛(فربَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه)[8] والشق المخيف في هذا الجانب أن أهل الباطل من مبتدعة وكفرة يبذلون قصارى جدهم في إضلال الناس وتشويه الحق وأهله والتنفير منه، ومن المواقع الموثوقة لتقديم العلم الشرعي النافع أكاديمية زاد، ومنصة زادي، فالأولى للتخصص أكثر والثانية تصلح لكل أحد، فأين المشمرين؟
والحلول كثيرة والأفكار أكثر من أن تحصى،( والمسلم ما كان مستطيعًا للدعوة إلى الله - تعالى - أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للناس - مأمورٌ بكل هذا)[9]، وحاجة الأمَّة للعلماء وطلبة العلم أوضح من الشمس في رابعة النهار ،(فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ).

[1] موقع الدرر السنية: https://dorar.net/hadith/sharh/64562

[2] البخاري (100)

[3] تلبيس إبليس 283

[4] جامع العلم وبيان فضله للحافظ ابن عبد البر.

[5] حاجتنا إلى هداية الناس، حسن عبدالحي– شبكة الألوكة

[6] جامع العلم وفضله 1/117


[7] طبقات الحنابلة 1/100

[8] أحمد 3/225، ابن ماجه 236

[9] حاجتنا إلى هداية الناس، حسن عبدالحي– شبكة الألوكة