يتوفّى وما وفّى!!


هيام الجاسم









يتوفّى من توفّى وما وفّى حقوق أناس قد ظلمهم ! قد نال من أذيتهم! كان مصدر إزعاج لهم ! يتحمله الناس أيام زهوة شبابهم ونضارة قوتهم في تحملهم ! يظن هذا المنزعج المتأذي أن قوة تحمله باقية معه، يحتضنها دوما وأبدا مع تقدم عمر الخمسين والستين في حياته، بلا شك تزداد جروح المنزعجين يوما بعد يوم ويزداد معها رصيد كرههم للمؤذين لهم، الظالم المؤذي فرح بقوة سطوته على الآخرين والآخرون يظنون أن بهم قوة وإلى عمر مديد ليتحملّونه، العجيب في الأمر أن أهل الاختصاص ينبئوننا عن تبدل أحوال المزعجين لنا، عندما يدخلون فيما بين مرحلتي الخمسين والستين يعني باللهجة الدارجة " تطيح سجاجينه!! "وما يعود ذاك الساطي المزهو بسطوته ولا الجبار الفرح بجبروته ولا حتى المسيطر المبتهج بسيطرته، تتناقص قوته في ظلمه ويتحول إلى ذاك الحمل الوديع المسالم الهيّن الطباع المطواع المسالم، حدثتني زوجات عن أزواج لهن بهذه الصيرورة، وحدثتني نساء عن آبائهن قد تغيرت أحوالهم إلى الموادعة والمسالمة، ولكن الغريب في الأمر أنه لم يحدثني بعد رجال عن ضعف نسائهم، يبدو أن المرأة تزداد شراسة وقوة مع تقدم عمرها؛ إذ هي تبدأ تنتبه لنفسها بعد أن ضاعت حيلتها سنوات طوالا سلبا وإيجابا!



الكل يُجمع مع أهل الاختصاص أن مع بدايات تقدم العمر وبروز بوادر كبر السن تدور شخصية المرء وتلتف درجته إلى ثلاثمائة وستين درجة، الطيب يزداد طيبة والضعيف يزداد ضعفا، ولكن القوي يصير إلى رقة، والجريء ما يعود إلا جبانا ! ليست المشكلة في كل ما سبق وإنما الهم الأكبر عند كثير من المتربصين لدوائر المزعجين، ينتظرون على أحر من الجمر تحت مظلة تساؤلات حرارتها عالية: يا ترى متى يتغير هؤلاء القاسون واللاذعون الظالمون؟ ننتظر عمرا مديدا، إن كان المزعج زوجا كم مرة فكرت زوجته بالانفصال عنه؟! وإن كانت زوجة كم مرة طلقها زوجها وراجعها لعلها ولعلها؟! وإن كان أبا أو أما، والابنة لم تحظ بنصيب زواج ينجيها من مظلمتهما، فستجدها دوما هاربة تقلب جناحيها بين صويحباتها ودراستها، بل قل إدمان وظيفتها.

المهم في هذا كله يا رجال ويا نساء، يا أفاضل ويا فضليات، أنه بعد طول انتظار تبدل أحوال الظالمين معنا، وعندما يتغيرون إلى الأحسن نفاجأ أيما مفاجأة من أنفسنا بأنها انقفلت وما عادت ترغب في المسامحة لهؤلاء المزعجين الصائرين إلى التوبة، مع أننا كنا ننتظر إنابتهم ليريحونا باقي أعمارهم معنا، ولكن نجد أنفسنا في منعطف رفض المسامحة ولسان قلوبنا يتمتم: "هو تاب وأناب لنفسه لينجيها من عقاب الله نعم هو أحسن وهي أحسنت بذلك، ولكن " الشق عود " وكبير لا يمكن لملمته بكلمات اعتذار هنا وهناك.. عندها نشهد محاولات يكدح بها التائبون كدحا ولهثا لتعويض المنكوبين منهم، ولكن النفس توقفت وما عاد يجبرها جابر من طرف هؤلاء الصائرين، فما ينبغي لهم أن ينتظروا من غيرهم المكلوم من أذاهم أن يتقبلهم بقبول حسن وبجرة قلم وبسحر ساحر ينقلب كل سخط المكلوم إلى رضا قلبي وإفساح فرص لحياة أفضل معه، فلو أن هذا المؤذي المزعج آذى من حوله قرنا من الزمان، ثم هو صرف جهده قرنا آخر ليفي ويعوض المنكوب منه، فما وفّى ولن يوفّي، ماذا عساه أن يداوي وأي جروح يطبطب عليها لتندمل؟! وبأي قواميس الاعتذار يبدأ؟! كيف له أن يعوّض؟! فالعمر قد انقضى وزهوة شباب المكلوم انطفأت مهما حاول ومهما بادر، قد نتظاهر بمسامحتنا للظالم نعم، قد نعطي أنفسنا فرصا لنبرئ ذممنا أمام خالقنا نعم، قد نحاول ونحاول ونلعب دور اللطفاء الطيبين، ولكن في حقيقة الأمر وفي سكنات أنفسنا ولحظات الخلوة مع ذواتنا تنفتح الجروح وتنسكب العبرات وتفرغ علبة " الكلينكس" من محتواها، ثم نردد أذكار النوم فينزل علينا ربنا النعاس أمنة يغشانا والجرح مفتوح والألم متفاقم ونبض القلب يزداد، نصبح نبتسم للتائبين لعلهم يصدقوننا أننا فتحنا فرصا لهم لحياة جديدة معهم ولكنهم لا يعلمون أن محاولاتهم في مهب الريح ذاهبة لفيض الألم الذي لا ينتهي.


عزيزي القارئ, مهما حاول هؤلاء الظالمون فلن يوفّوا ولن يقدروا على الوفاء وسيمضون تحت الثرى وما نالوا كرم الله في الثريّا!!