التبـرك.. أنواعه وأحكامـــــه (1)


أبو عمر حاي الحاي







الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه، أما بعد:




فالتبرك هو طلب البركة وهي النماء والزيادة، قال في «الصحاح»: البركة: النماء والزيادة والتبرك والدعاء.

قال ابن القيم:

البركة نوعان:

أحدهما: بركة هي فعله تبارك وتعالى.

والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة؛ فهو سبحانه المبارِك، وعبده المبارَك. (بدائع الفوائد: 2/185) باختصار.

وجعل جل وعلا البركة في مخلوقاته كما قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات: 113).

وقال[: «تسحروا فإن في السحور بركة» رواه البخاري.

وقال[: «البركة في نواصي الخيل» رواه البخاري.







شروط التبرك المشروع:



1) أن يكون التبرك بفعل طاعة مشروعة لله عز وجل كصلاة وصيام ودعاء ورجاء القبول وزيادة المثوبة.

2) التبرك والتمسح بفضل وضوء النبي[ والتدلك بنخامته، كما روى البخاري في الصحيح (5/329) من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، وفيه قول عروة بن مسعود الثقفي: «فوالله ما تنخم رسول الله [ نخامتَه إلا وقعت في كف رجل منهم فَدلَكَ بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه».

وعن أبي جحيفة قال: «خرج علينا رسول الله[ بالهاجرة، فأُتي بوضوء فتوضأ، فجعل الناس يأخذون فضل وضوئه فيتمسحون به». أخرجه البخاري (1/492).

وهذا التبرك هو خاص بالنبي[ فقط مقصوراً على ذاته الشريفة منقطعاً بموته، ولا يجوز شرعاً أن يتبرك بإنسان لا صحابي ولا من آل البيت رضي الله عنهم ولا ولي، وهذا إجماع وقع عند السلف الصالح. (انظر الاعتصام للشاطبي: 2/ 6 – 9).

ثانياً: ألا يحمل المتبرك غيره على التبرك وألا يدعو إليه؛ فلا ينصب شيئاً للعامة يتبركون به.

وقد نهى النبي [ مسلمة الفتح أن يتبركوا بشجرة كما في حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: «خرجنا مع رسول الله [ قبل حنين فمررنا بسدرة، فقلت: يا نبي الله اجعل لنا هذه ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها؛ فقال النبي[: الله أكبر! هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم» رواه أحمد في مسنده (21950) وهو صحيح.

ثالثاً: أن يتفق له المرور بمكان لا أن يقصده ويسافر إليه مُقْتحماً السفر من أجله.

رابعاً: ألا يعتمد على أحاديث ضعيفة موضوعة في جواز التبرك بالأشخاص والأحجار والأشجار.

خامساً: أن يكون له علم بدينه بحيث لا تُضله نزغات وخطوات الشيطان وخطرات النفس.







التبرك بمجالسة الصالحين:



أما التبرك بالصالحين فيكون بمجالستهم والاستفادة من علمهم وخلقهم وما علَّموه من الخير ونشروه؛ كما جاء في حديث الملائكة الذين يطوفون يلتمسون مجالس الذكر، وفيه قوله جل وعلا: «أشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم» وفي رواية: «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم».

فهذا العبد الخطَّاء شملته المغفرة ببركة مجالسته للصالحين.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقول القائل: ببركة الشيخ، قد يعني دعاءه، وأسرع الناس إجابة دعاء غائب لغائب، وقد يعني بها بركة ما أمره وعلَّمه من الخير، وقد يعني بها بركة معاونته له على الحق وموالاته في الدين ونحو ذلك، وهذه كلها معان صحيحة».

مجموع الفتاوى (27/96).







التبرك بذوات الصالحين:



أما التبرك بذوات الصالحين أو آثارهم كملابسهم وفضل وضوئهم، فالحق هو المنع من ذلك كله؛ لأنه لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم التبرك بآثار غير النبي [؛ ولأن الصحابة رضي الله عنهم أصحاب فهم ثاقب وإدراك عظيم؛ فالفهم فهمهم والعلم علمهم.

قال ابن القيم رحمه الله:

هذا وسادس عشرها إجماع أهل العلم أعني حجة الأزمان

فلم نجد أحداً منهم قد تبرك بأفضلهم كأبي بكر وعمر وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين.

فمن أجاز من العلماء التبرك بالصالحين فقد أخطأ، قال في تيسير العزيز الحميد (ص153) بعد أن ذكر أن بعض المتأخرين استحب التبرك بآثار الصالحين وقد أكثر أبو زكريا النووي في «شرح مسلم» من الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئاً من ذلك مع النبي[ وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي[ وهذا خطأ صريح؛ لوجوه:

1) عدم المقاربة فضلاً عن المساواة للنبي[ في الفضل والبركة.

2) عدم تحقق الصلاح؛ فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص.

3) ومنها أنا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء والأعمال بالخواتيم؛ فلا يكون أهلاً للتبرك بآثاره.

4) ومنها أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد موته ولو كان خيراً لسبقونا؛ فدل أن ذلك مخصوص بالنبي[.

5) ومنها أن فعل هذا مع غيره[ لا يؤمن أن يفتنه وتعجبه نفسه فيورثه العجب والكبر والرياء؛ فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم.

وقد بيَّن شيخ الإسلام -رحمه الله- ورجح المنع من التبرك بالمساكن والمنازل والأماكن التي صلى فيها النبيون كما في كتابه -رحمه الله- «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم» (2/742).

وقد وضَّح شيخ الإسلام -رحمه الله- تعالى أن تتبع مثل هذه الآثار من فعل أهل الكتاب، ولو فتح هذا الباب لصار كثير من ديار المسلمين مساجد ومزارات ومشاهد، ثم قال -رحمه الله-: «وليس في شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة الله فيها بالصلاة والدعاء والذكر والقراءة ونحو ذلك إلا مساجد المسلمين ومشاعر الحج». (مجموع الفتاوى: 2/134).

وقال رحمه الله: «إنْ قصد الصلاة والدعاء عند ما يُقال إنه قدم نبي أو أثر نبي، من البدع المحدثة المنكرة في الإسلام، لم يشرع ذلك رسول الله[ ولا السابقون الأولون ولا التابعون لهم بإحسان يفعلونه، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين، بل هو من أسباب الشرك وذرائع الإفك». انظر مجموع الفتاوى (27/140) باختصار.

قلت: ومن حرص أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- أنه عدَّ تَتَّبع آثار الأنبياء من الهلاك، فعن المعرور بن سويد الأسدي قال: «خرجت مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من مكة إلى المدينة، فلما أصْبحنا صلى بنا الغداة، ثم رأى الناس يذهبون فقال: أين يذهب هؤلاء؟ قيل: يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه رسول الله [ هم يأتون يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، يتبعون آثار أنبيائهم فيتخذونها كنائس وبيعاً، من أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها».

إسناده صحيح: أخرجه ابن وضاح في «ما جاء في البدع ص87) وذكره شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه التوسل والوسيلة وقال عنه: إسناده صحيح، وذكره الحافظ في الفتح وأشار لثبوته رحمه الله (1/569).

أما فعل ابن عمر -رضي الله عنهما- من تحرِّيهِ قصد الصلاة في المواضع التي صلى فيها النبي [ في طريقه إلى مكة، فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: «فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حجاجا وعمارا أو مسافرين، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرى الصلاة في مصليات النبي [، ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبا لكانوا إليه أسبق؛ فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم وقد قال[: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة»، وتحري هذا ليس من سنة الخلفاء الراشدين، بل هو مما ابتدع، وقول الصحابي وفعله إذا خالفه نظيره ليس بحجة فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة؟! وأيضا فإن تحري الصلاة فيها ذريعة إلى اتخاذها مساجد والتشبه بأهل الكتاب مما نهينا عن التشبه بهم فيه، وذلك ذريعة إلى الشرك بالله، والشارع قد حسم هذه المادة بالنهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وبالنهي عن اتخاذ القبور مساجد؛ فإذا كان قد نهى عن الصلاة المشروعة في هذا المكان وهذا الزمان سدا للذريعة فكيف يستحب قصد الصلاة والدعاء في مكان اتفق قيامهم فيه أو صلاتهم فيه من غير أن يكونوا قد قصدوه للصلاة فيه والدعاء فيه؟! ولو ساغ هذا لاستحب قصد جبل حراء والصلاة فيه، وقصد جبل ثور والصلاة فيه، وقصد الأماكن التي يقال إن الأنبياء قاموا فيها كالمقامين اللذين بجبل قاسيون بدمشق اللذين يقال إنهما مقام إبراهيم وعيسى، والمقام الذي يقال إنه مغارة دم قابيل، وأمثال ذلك من البقاع التي بالحجاز والشام وغيرهما، ثم ذلك يفضي إلى ما أفضت إليه مفاسد القبور؛ فإنه يقال إن هذا مقام نبي أو قبر نبي أو ولي، بخبر لا يعرف قائله أو بمنام لا تعرف حقيقته، ثم يترتب على ذلك اتخاذه مسجدا فيصير وثنا يعبد من دون الله تعالى». (اقتضاء الصراط المستقيم: 1/389 – 390).