إطالة الغرة والتحجيل


الكـاتب : دبيان محمد الدبيان
المبحث الأول: في تعريف الغرة والتحجيل:
الغُرة - بالضم -: بياض في الجبهة. وفي الصحاح: في جبهة الفرس.
وقال ابن سيده: وعندي: أن الغرة نفس القدر الذي يشغله البياض من الوجه، لا أنه البياض.
وقيل: الأغر: الأبيض من كل شيء، ثم استعيرت فقيل في أكْرَم كلّ شيء: غُرّته، وفلان غرة قومه؛ أي: سيدهم، ورجل أغر؛ أي: شريف، وغُرَّةُ كل شيء: أوله وأكرمه.
والغُرَّةُ: العبد والأمة، وفي الحديث قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنين بغُرّة. وكأنه عبَّر عن الجسم كله بالغُرَّة. ورجل غِرٌّ - بالكسر - وغَرِيرٌ؛ أي: غير مُجرِّب، وجارية غِرَّةٌ وغَرِيرَةٌ وغِرٌّ أيضًا بيِّنة الغَرَارَةِ بالفتح، وقد غَرَّ يغِر بالكسر غَرَارَةً بالفتح. والاسم: الغِرَّةُ بالكسر، والغِرّة أيضًا الغفلة[1].
والتحجيل: المحجل: هو الذي يَرْتَفع البياض في قَوائمه إلى مَوْضِع القَيْد، ويُجَاوِز الأرْسَاغ، ولا يُجِاوِز الركْبَتَيْن؛ لأنَّهُما مواضِع الأحْجَال، وهي الخَلاخِيل والقُيُود، ولا يكون التَّحْجيل باليد واليدين، ما لم يكُنْ معَها رِجْل أو رِجْلاَن.
ومنه الحديث: ((أمَّتي الغُرُّ المُحَجَّلُون))؛ أي: بيضُ مَواضع الوُضوء من الأيْدي والوجْه والأقْدام، اسْتَعار أثرَ الوضوء في الوجْه واليَدَين والرّجْلين للإنسان من البَياضِ الذي يكون في وجْه الفَرس ويَدَيْه ورجْلَيْه.
وفي حديث علي - رضي الله عنه - أنه قال له رجُل: إنّ اللُّصُوص أخَذُوا حِجْلَي امْرَأتي؛ أي: خَلْخَالَيْها[2].
قال العلماء: سمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرة وتحجيلاً؛ تشبيهًا بغرة الفرس. وتطويل الغرة: قيل: هو غسل شيء من مقدم الرأس وما يجاوز الوجه زائد على الجزء الذي يجب غسله؛ لاستيقان كمال الوجه، وأما تطويل التحجيل: فهو غسل ما فوق المرفقين والكعبين. المبحث الثاني: خلاف العلماء في استحباب إطالة الغرة والتحجيل:
اختلف أهل العلم في إطالة الغرة والتحجيل:
فقيل: تشرع إطالة الغرة والتحجيل، وهو مذهب الحنفية[3]، والشافعية[4]، والحنابلة[5].
وقيل: لا يشرع إطالتهما، وهو مذهب المالكية[6]، واختاره ابن القيم[7].
وقيل: تشرع إطالة التحجيل دون الغرة[8].
دليل من قال: تشرع إطالة الغرة والتحجيل:
(911-140) ما رواه مسلم من طريق نعيم بن عبدالله المجمر، قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء))، فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله[9].
دليل من قال: لا تشرع إطالتهما:
من ذهب إلى أن الغرة والتحجيل لا يشرعان في الوضوء، رأى أن لفظ: "فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله" مدرجة في الحديث، وأن هذا اللفظ من قول أبي هريرة.
قال الحافظ - رحمه الله -: "لم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة، وهم عشرة، ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه - يعني: نعيم بن عبدالله المجمر - عن أبي هريرة"[10]. ا. هـ.
وقال ابن القيم: "لم يثبت عنه - أي: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تجاوز المرفقين والكعبين، ولكنْ أبو هريرة كان يفعل ذلك، ويتأول حديث إطالة الغرة، وأما حديث أبي هريرة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه غسل يديه حتى أشرع في العضدين، ورجليه حتى أشرع في الساقين، فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، ولا يدل على مسألة الإطالة" اهـ[11].
والذي يدل على أنه فهمٌ من أبي هريرة:
(912-141) ما رواه مسلم، من طريق أبي حازم، قال: كنت خلف أبي هريرة، وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمد يده حتى تبلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة، ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ، أنتم ها هنا؟! لو علمت أنكم ها هنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي يقول: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء))[12].
وفي البخاري عن أبي زرعة، عن أبي هريرة، "ثم دعا بتور من ماء، فغسل يديه حتى بلغ إبطه، فقلت: أشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: منتهى الحلية"[13].
ففهم أبو هريرة أن الحلية ممكن زيادتها إذا زِيدَ في غسل اليدين والرجلين، مع أن لفظ الحديث: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) المقصود به الوضوء الشرعي المحدود في كتاب الله - سبحانه -؛ بدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لـم يجاوز الحد الذي حده الله له في قوله: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)[المائدة: 6] (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)[المائدة: 6]، والله أعلم.
دليل من قال: تشرع إطالة التحجيل دون الغرة:
قالوا: أولاً: أن إطالة الغرة جاء بلفظ قال فيه المحققون: بأنه مدرج من كلام أبي هريرة، لكن إطالة التحجيل جاء بلفظ مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(913-142) ففي مسلم من طريق نعيم بن عبدالله المجمر، قال: رأيت أبا هريرة يتوضأ، فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل رجله اليسرى حتى أشرع في الساق، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ... الحديث[14].
فقوله: ((هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ)) دليل على أن هذا الوضوء بهذه الصفة مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس مدرجًا من كلام أبي هريرة.
ولكن سبق جواب ابن القيم عليه، فهو إنما يدل على إدخال المرفقين والكعبين في الوضوء، ولا يدل على مسألة الإطالة، والله أعلم.
ثانيًا: لا يمكن الإطالة إلا في اليد والساق، بخلاف الوجه؛ فإن الوجه يجب استيعابه[15].
الراجح: بعد استعراض الأقوال، نجد أن القول بعدم المشروعية أقوى وأرجح من حيث الدليل، والله أعلم.
_____________
[1] لسان العرب (5/14)، مختار الصحاح (ص: 197)، الفائق (3/62).
[2] النهاية في غريب الحديث (1/346)، لسان العرب (11/144).
[3] اعتبر الحنفية إطالة الغرة والتحجيل من آداب الوضوء، انظر شرح فتح القدير (1/36)، حاشية ابن عابدين (1/130).
[4] المجموع (1/458، 460)، أسنى المطالب (1/40)، حاشيتا قليوبي وعميرة (1/63).
[5] كشاف القناع (1/101)، الإنصاف (1/168)، المغني (1/74).
[6] كره المالكية الزيادة على المحل المفروض، واعتبروه من الغلو ومجاوزة الحد، وفسروا إطالة الغرة: بمداومة الوضوء. انظر حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/128)، التاج والإكليل (1/384)، حاشية الدسوقي (1/103)، منح الجليل (1/95، 96).
[7] زاد المعاد (1/196).
[8] المجموع (1/459).
[9] مسلم (246)، ورواه البخاري (136) ومسلم (246) من طريق نعيم به، بلفظ: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)).
[10] فتح الباري (1/236).
[11] زاد المعاد (1/196).

[12] مسلم (250).
[13] البخاري (5953).
[14] مسلم (246).
[15] وتعقبه الرافعي - كما في المجموع (1/459) -: بأن الإطالة في الوجه أن يغسل إلى اللبة وصفحة العنق. ا. هـ. وهذه الزيادة بهذا المقدار تحتاج إلى توقيف، ولا دليل عليه، والله أعلم.