من سنن الوضوء الغسلة الثانية والثالثة
الكـاتب : دبيان محمد الدبيان
استحب الجمهور الغسلة الثانية والثالثة لجميع أعضاء الوضوء، ما عدا الرأس والأذنين، فلا يكرر مسحهما، وهو مذهب الحنفية[1]، والمالكية[2]، والحنابلة[3].
واستحب الشافعية الثلاث حتى في الرأس[4].
وقيل: الوضوء ما أسبغ، وليس فيه توقيت مرة أو ثلاث، وهو نص المدونة عن مالك[5].
وهل الغسلة الثالثة أفضل من الثانية، والثانية أفضل من الواحدة مطلقًا؟
قيل: نعم[6].
وقيل: من اعتاد الاقتصار على غسلة واحدة فإنه يأثم بذلك، اختاره بعض الحنفية[7].
والصحيح أن الاقتصار على غسلة واحدة لا يكره، فضلاً عن كونه يأثم، والأفضل أن يتوضأ أحيانًا مرة مرة، وأحيانًا مرتين مرتين، وأحيانًا ثلاثًا ثلاثًا، وأحيانًا يخالف بين الأعضاء؛ فيغسل بعضها ثلاثًا، وبعضها مرتين، وبعضها مرة؛ ليفعل السنة على جميع وجوهها[8].
دليل من استحب الغسلة الثانية والثالثة فيما عدا الرأس:
الدليل الأول: (885-114) ما رواه البخاري من طريق ابن شهاب، أن عطاء بن يزيد أخبره، أن حمران مولى عثمان أخبره، أنه رأى عثمان بن عفان دعا بإناء، فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه)). ورواه مسلم[9].
وجه الاستدلال:
الحديث دليل على استحباب الثلاث الغسلات، وأن السنة في الرأس مسحه مرة واحدة.
الدليل الثاني: (886-115) ما رواه أحمد، قال: حدثنا عبدالرحمن، حدثنا زائدة بن قدامة، عن خالد بن علقمة، حدثنا عبد خير قال: جلس علي بعد ما صلى الفجر في الرحبة، ثم قال لغلامه: ائتني بطهور، فأتاه الغلام بإناء فيه ماء وطست. قال عبد خير: ونحن جلوس ننظر إليه، فأخذ بيمينه الإناء فأكفأه على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى، ثم غسل كفيه، فعله ثلاث مرار، قال عبد خير: كل ذلك لا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، ثم أدخل يده اليمنى في الإناء، فمضمض، واستنشق، ونثر بيده اليسرى، فعل ذلك ثلاث مرات...الحديث وفي آخره قال: هذا طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أحب أن ينظر إلى طهور نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا طهوره[10]. [رجاله ثقات وسبق تخريجه والكلام على متنه][11].
وجه الدلالة من هذا الحديث كالحديث السابق على استحباب الثلاث فيما عدا الرأس.
الدليل الثالث: (887-116) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، قال: حدثنا سفيان، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء قالت: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضعنا له الميضأة، فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، ومسح برأسه مرتين، بدأ بمؤخره وأدخل أصبعيه في أذنيه[12]. [سبق تخريجه][13].
الدليل الرابع: (888-117) ما أخرجه أبو داود، قال: حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن موسى بن أبي عائشة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، كيف الطهور؟ فدعا بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل ذراعيه ثلاثًا، ثم مسح برأسه فأدخل إصبعيه السباحتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه على ظاهر أذنيه، وبالسباحتين باطن أذنيه، ثم غسل رجليه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: ((هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص، فقد أساء وظلم - أو ظلم وأساء)). [إسناده حسن، وسبق الكلام عليه، والإشارة إلى أن لفظ: (أو نقص) وهم من الراوي][14].
الدليل الخامس: من النظر، قالوا: الدليل على أن الرأس لا يشرع له التثليث أن الأصل في المسح التخفيف، ولذلك لا يمسح الوجه في التيمم، ولا يمسح الخف في الوضوء، ولأن تكراره يؤدي إلى أن يصير المسح غسلاً، فينافي مقصود الشارع من التخفيف في طهارته.
دليل من قال: يستحب التثليث في الرأس:
(889-118) ما رواه مسلم، من طريق أبي أنس (مالك بن عامر الأصبحي) أن عثمان توضأ بالمقاعد، فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا....
فقوله: "توضأ ثلاثًا ثلاثًا" يشمل ما يغسل وما يمسح. وأجيب: بأن الأحاديث التي ذكروا فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثًا ثلاثًا، أرادوا فيها ما سوى المسح، فإن رواتها حين فصلوا قالوا: ومسح برأسه مرة واحدة، والتفصيل يحكم به على الإجمال، ويكون تفسيرًا له، ولا يعارض به، كالخاص مع العام[15]. وقال البيهقي تعليقًا على رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثلاثًا ثلاثًا، قال: وعلى هذا اعتمد الشافعي في تكرار المسح، وهذه روايات مطلقة، والروايات الثابتة المفسرة تدل على أن التكرار وقع فيما عدا الرأس من الأعضاء، وأنه مسح برأسه مرة واحدة[16].
الدليل الثاني: (890-119) ما رواه أبو داود، من طريق يحيى بن آدم، قال: حدثنا إسرائيل، عن عامر بن شقيق بن حمزة، عن شقيق بن سلمة، قال: رأيت عثمان بن عفان غسل ذراعيه ثلاثًا ثلاثًا، ومسح رأسه ثلاثًا، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل هذا. [إسناده ضعيف، وذكر التثليث في مسح الرأس منكر][17].
الدليل الثالث: (891-120) ما رواه الدارقطني من طريق صالح بن عبدالجبار، ثنا البيلماني، عن أبيه، عن عثمان بن عفان أنه توضأ بالمقاعد، والمقاعد بالمدينة حيث يصلى على الجنائز عند المسجد، فغسل كفيه ثلاثًا ثلاثًا، واستنثر ثلاثًا ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ومسح برأسه ثلاثًا، وغسل قدميه ثلاثًا، وسلم عليه رجل وهو يتوضأ، فلم يرد عليه حتى فرغ، فلما فرغ كلمه معتذرًا إليه، وقال: لم يمنعني أن أرد عليك إلا أنني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من توضأ هكذا، ولم يتكلم، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، غفر له ما بين الوضوءين))[18]. [ضعيف جدًّا][19].
الدليل الرابع: (892-121) ما رواه الدارقطني من طريق أبي كريب، نا مسهر بن عبدالملك بن سلع، عن أبيه، عن عبد خير، عن علي - رضي الله عنه - أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، ومسح برأسه وأذنيه ثلاثًا، وقال: هكذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أحببت أن أريكموه[20]. [إسناده ضعيف، والمعروف من هذا الحديث أن المسح مرة][21].
الدليل الخامس: (893-122) ما رواه البيهقي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا عباس بن الفضل، ثنا إبراهيم بن المنذر، ثنا ابن وهب، عن ابن جريج، عن محمد بن علي بن حسين، عن أبيه، عن جده، عن علي أنه توضأ، فغسل وجهه ثلاثًا، وغسل يديه ثلاثًا، ومسح برأسه ثلاثًا، وغسل رجليه ثلاثًا، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ[22]. [رجاله ثقات إلا أن رواية ابن وهب عن ابن جريج متكلم فيها، وقد خولف ابن وهب في هذا الحديث][23].
الدليل السادس: (894-123) ما رواه الطبراني، قال: حدثنا محمود بن علي، ثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي، ثنا إسحاق بن محمد الفروي، عن يزيد بن عبدالملك، عن أبي موسى الحناط، عن محمد بن المنكدر، عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا توضأ أحدكم، فليمضمض ثلاثًا، فإن الخطايا تخرج من وجهه، ويغسل وجهه ويديه ثلاثًا، ويمسح برأسه ثلاثًا، ثم يدخل يديه في أذنيه، ثم يفرغ على رجليه ثلاثًا)).
قال الطبراني: لم يروه عن ابن المنكدر إلا أبو موسى، واسمه عيسى بن أبي عيسى، تفرد به يزيد[24]. [إسناده ضعيف جدًّا][25].
قال الشوكاني - رحمه الله -: والإنصاف أن أحاديث الثلاث لم تبلغ درجة الاعتبار حتى يلزم التمسك بها؛ لما فيها من الزيادة، فالوقوف على ما صح من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما من حديث عثمان وعبدالله بن زيد وغيرهما، هو المتعين، لا سيما بعد تقييده في تلك الروايات السابقة بالمرة الواحدة[26]. ا. هـ.
دليل من قال: يمسح رأسه مرتين:
(895-124) ما رواه أحمد، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عبدالله بن محمد بن عقيل، عن الربيع بنت معوذ، قال: قالت: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فوضعنا له الميضأة، فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، ومسح برأسه مرتين، بدأ بمؤخره، وأدخل أصبعيه في أذنيه. [سبق تخريجه في أدلة القول الأول][27].
الدليل الثاني: (896-125) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبدالله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ، فغسل وجهه ثلاثًا، ويديه مرتين، ومسح برأسه ورجليه مرتين[28]. [الحديث رجاله ثقات، إلا أن ابن عيينة أخطأ في هذا الحديث من وجهين][29].
الراجح: أن الرأس لا يمسح إلا مرة واحدة، وأما ما يتعلق بسائر الأعضاء فالراجح فيه أنه يتوضأ أحيانًا مرة مرة، وأحيانًا مرتين مرتين، وأحيانًا ثلاثًا ثلاثًا، وأحيانًا يخالف بين أعضائه، فيغسل بعضها مرتين وبعضها مرة في فعل واحد، هكذا جاءت السنة: أما الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، فقد ذكرنا أدلته من حديث عثمان في الصحيحين وغيرهما. (897-126) وأما الوضوء مرة مرة، فقد أخرجه البخاري وغيره من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة[30].
وهو ظاهر القرآن؛ فإن آية المائدة أمرت بغسل الأعضاء الأربعة، ولم تذكر عددًا، فمن غسل أعضاء الوضوء مرة واحدة، فقد أدى ما افترض الله عليه، قال - سبحانه وتعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ)[31].
وأما الدليل على استحباب مرتين مرتين:
(898-127) فما رواه البخاري، من طريق فليح بن سليمان، عن عبدالله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عباد بن تميم، عن عبدالله بن زيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين[32].
وهذا الحديث غير حديث عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبدالله بن زيد؛ فإن مخرج الحديث مختلف. وله شاهد من حديث أبي هريرة: (899-128) رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا زيد بن الحباب، عن عبدالرحمن بن ثوبان، عن عبدالله بن الفضل، عن عبدالرحمن بن هرمز، عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين مرتين[33]. [إسناده ضعيف][34].
وأما الدليل على استحباب غسل بعض الأعضاء مرة، وبعضها مرتين، وبعضها ثلاثًا:
(900-129) فما رواه البخاري من طريق مالك، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رجلاً قال لعبدالله بن زيد - وهو جد عمرو بن يحيى -: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ؟ فقال عبدالله بن زيد: نعم، فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثًا، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. ورواه مسلم[35]. فهل كون الرسول - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، هل يفهم من ذلك أنه فعله لبيان الجواز، وأن الثلاث أفضل مطلقًا؛ لكونها أكثر من غيرها؟ أو يكون ذلك من باب تنوع العبادة، ويكون الاستحباب أن يفعل هذا مرة، وهذا مرة، وهذا مرة؟ قولان لأهل العلم.
فقيل: إن الثلاث أكمل من الثنتين، والثنتان أكمل من الواحدة، والاقتصار على الواحدة دليل على الإجزاء. قال النووي: قد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة، وأن الثلاث سنة، وقد جاءت الأحاديث بالغسل مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، وبعض الأعضاء ثلاثًا وبعضها مرتين، والاختلاف دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال، والواحدة تجزئ. والصحيح: أن ذلك من باب تنوع العبادة، وأن السنة أن يفعل كل هذه الأفعال؛ لإصابة السنة من جميع وجوهها الواردة، فإن الكمال أن يفعل المسلم ما يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)[36]، وتمام المتابعة أن يفعل هذا مرة، وهذا مرة، وهذا مرة كما فعل المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحتى لا تكون العبادة من قبيل العادة، شأنها شأن العبادات التي وردت من وجوه مختلفة؛ كدعاء الاستفتاح، وأنواع التشهد، ونحوهما.
وهل تكرار هذه الأعضاء في بعضها مرة، وفي بعضها مرتين، وفي بعضها ثلاثًا، هل هو على سبيل التشهي؟ أو السنة أن يكون التكرار موافقًا للتكرار الوارد في السنة؟
فما ورد أنه غسل مرة يغسل مرة، وما ورد أنه غسل مرتين يغسله مرتين وهكذا، لا شك أن الأولى الثاني، وإن فعل الأول فلا بأس؛ حيث قد ورد غسل هذه الأعضاء من حيث الجملة مرة ومرتين وثلاثًا، والله أعلم.
_______________
[1] شرح معاني الآثار (1/29)، بدائع الصنائع (1/22)، العناية شرح الهداية (1/31).
[2] في حكم الغسلة الثانية والثالثة في مذهب المالكية أقوال، منها:
أن الغسلة الثانية والثالثة فضيلتان، قال الحطاب في مواهب الجليل (1/59): وهذا هو المشهور.
وقيل: إنهما سنتان. وقيل: الثانية سنة، والثالثة فضيلة. وهناك قول رابع سوف يأتي: أنه لا توقيت في الوضوء، انظر مواهب الجليل (1/259، 260)، المنتقى للباجي (1/35)، الفواكه الدواني (1/145)، حاشية الدسوقي (1/101)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير (1/122).
[3] المغني (1/94)، الإنصاف (1/137).
[4] المجموع (1/461) البيان في مذهب الشافعي (1/142)، روضة الطالبين (1/59)، واعتبر الماوردي في الحاوي الكبير (1/133) أن التكرار ثلاثًا من فضائل الوضوء، ولم يعده من سنن الوضوء.
[5] جاء في المدونة (1/113): قال سحنون: قلت لعبدالرحمن بن القاسم: أرأيت الوضوء؛ أكان مالك يوقت فيه واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا؟ قال: لا، إلا ما أسبغ، ولم يكن مالك يوقت، وقد اختلفت الآثار في التوقيت. قال ابن القاسم: لم يكن مالك يوقت في الوضوء مرة ولا مرتين ولا ثلاثًا. وقال: إنما قال الله -- تبارك وتعالى --: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ) [المائدة: 6]، فلم يوقت - تبارك وتعالى - واحدة من ثلاث. قال ابن القاسم: ما رأيت عند مالك في الغسل والوضوء توقيتًا، لا واحدة ولا اثنتين ولا ثلاثًا، ولكنه كان يقول: يتوضأ أو يغتسل ويسبغهما جميعًا. ا. هـ.
واختلف المالكية في تفسير هذا الكلام من الإمام مالك:
فقال الباجي في المنتقى (1/35) ما حكاه ابن القاسم عن مالك أنه لم يحد في الوضوء شيئًا، معنى ذلك أنه لم يحد فيه حدًّا لا يجوز التقصير عنه، ولا تجوز الزيادة عليه، وأما تحديد فرضه ونفله فمعلوم من قول مالك وغيره، ولا خلاف فيه نعلمه، وذلك أن الفرض في الوضوء مرة، والأصل في ذلك قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ)[المائدة: 6]. والأمر بالغسل أقل ما يقتضي فعله مرة واحدة؛ لأنه أقل ما يسمى به غاسلاً لأعضاء الوضوء. وقد روي عن ابن عباس "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرة مرة"، وأما النفل فمرتين وثلاثًا. وقد روى عبدالله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "توضأ مرتين مرتين"، وروي عن عثمان أنه أراهم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، وهو أكمل الوضوء وأتمه، وهو حد للفضيلة.
وأخذ ابن العربي كلام مالك على ظاهره، ولم يؤوله كما فعل الباجي، فقال في أحكام القرآن (2/77): المسألة الثامنة والأربعون: في تحقيق معنى لم يتفطن له أحد حاشا مالك بن أنس؛ لعظيم إمامته، وسعة درايته، وثاقب فطنته؛ وذلك أن الله - تعالى - قال: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ) الآية، [المائدة: 6].
وتوضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، ومرتين في بعض أعضائه وثلاثًا في بعضها في وضوء واحد، فظن بعض الناس - بل كلهم - أن الواحدة فرض، والثانية فضل، والثالثة مثلها، والرابعة تعدٍّ، وأعلنوا بذلك في المجالس، ودونوه في القراطيس، وليس كما زعموا وإن كثروا، فالحق لا يكال بالقفزان، وليس سواء في دركه الرجال والولدان. اعلموا - وفقكم الله - أن قول الراوي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ مرتين وثلاثًا، أنه أوعب بواحدة، وجاء بالثانية والثالثة زائدة، فإن هذا غيب لا يدركه بشر؛ وإنما رأى الراوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غرف لكل عضو مرة، فقال: توضأ مرة، وهذا صحيح صورة ومعنى؛ ضرورة أنَّا نعلم قطعًا أنه لو لم يوعب العضو بمرة لأعاد؛ وأما إذا زاد على غرفة واحدة في العضو أو غرفتين، فإننا لا نتحقق أنه أوعب الفرض في الغرفة الواحدة وجاء ما بعدها فضلاً، أو لم يوعب في الواحدة ولا في الاثنتين حتى زاد عليها بحسب الماء، وحال الأعضاء في النظافة، وتأتي حصول التلطف في إدارة الماء القليل والكثير عليها، فيشبه - والله أعلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يوسع على أمته بأن يكرر لهم الفعل، فإن أكثرهم لا يستطيع أن يوعب بغرفة واحدة، فجرى مع اللطف بهم، والأخذ لهم بأدنى أحوالهم إلى التخلص؛ ولأجل هذا لم يوقت مالك في الوضوء مرة ولا مرتين ولا ثلاثًا إلا ما أسبغ.
قال: وقد اختلفت الآثار في التوقيت، يريد اختلافًا يبين أن المراد معنى الإسباغ لا صورة الأعداد، وقد توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم، فغسل وجهه بثلاث غرفات، ويده بغرفتين؛ لأن الوجه ذو غضون ودحرجة واحديداب، فلا يسترسل الماء عليه في الأغلب من مرة، بخلاف الذراع فإنه مسطح، فيسهل تعميمه بالماء وإسالته عليها أكثر مما يكون ذلك في الوجه.
فإن قيل: فقد "توضأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة مرة" وقال: ((هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به))، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: ((من توضأ مرتين مرتين، آتاه الله أجره مرتين))، ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وقال: ((هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، ووضوء أبي إبراهيم))، وهذا يدل على أنها أعداد متفاوتة زائدة على الإسباغ، يتعلق الأجر بها مضاعفًا على حسب مراتبها.
قلنا: هذه الأحاديث لم تصح، وقد ألقيت إليكم وصيتي في كل وقت ومجلس ألا تشتغلوا من الأحاديث بما لا يصح سنده، فكيف ينبني مثل هذا الأصل على أخبار ليس لها أصل، على أن له تأويلاً صحيحًا، وهو أنه توضأ مرة مرة وقال: ((هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به))، فإنه أقل ما يلزم، وهو الإيعاب على ظاهر هذه الأحاديث بحالها، ثم توضأ بغرفتين وقال: ((له أجره مرتين)) في كلِّ تكلُّفِ غرفةٍ ثوابٌ، وتوضأ ثلاثًا وقال: ((هذا وضوئي))، معناه الذي فعلته رفقًا بأمتي وسنة لهم؛ ولذلك يكره أن يزاد على ثلاث؛ لأن الغرفة الأولى تسن العضو للماء، وتُذهِب عنه شعث التصرف، والثانية ترحض وضر العضو، وتدحض وهجه، والثالثة تنظفه، فإن قصرت دربة أحد عن هذا كان بدويًّا جافيًا فيُعلَّم الرفق حتى يتعلم، ويشرع له سبيل الطهارة حتى ينهض إليها ويتقدم؛ ولهذا قال من قال: "فمن زاد على الثلاث، فقد أساء وظلم". ا. هـ
[6] انظر المراجع السابقة في أقوال المذاهب.
[7] البناية في شرح الهداية (1/124، 125).
[8] مجموع الفتاوى لابن تيمية (22/337، 67).
[9] صحيح البخاري (159)، ومسلم (236).
[10] المسند (1/135).
[11] في فصل كون المضمضة باليمين، والاستنثار بالشمال.
[12] المسند (6/359).
[13] انظر حديث (874).
[14] سبق تخريجه، انظر رقم: (68) من كتاب أحكام المسح على الحائل، وهو جزء من هذه السلسلة.
[15] المغني (1/180).
[16] سنن البيهقي (1/62).
[17] هذا الحديث سبق الكلام عليه في أكثر من موضع، وانظر الكلام عليه وافيًا في حديث رقم (845) وفيه عامر بن شقيق، قال في التقريب: لين الحديث، ومداره على إسرائيل، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة، عن عثمان.
واختلف على إسرائيل في ذكر مسح الرأس ثلاثًا، فقد تفرد يحيى بن آدم عن إسرائيل بذكر التثليث في مسح الرأس.
ورواه وكيع كما في مسند أحمد (1/57) بذكر توضأ ثلاثًا ثلاثًا، ولم يذكر مسح الرأس.
ورواه عبدالرزاق كما في المصنف (125).
وابن مهدي كما في رواية ابن الجارود (72)، وابن خزيمة (125).
وأبو عامر العقدي كما في رواية ابن خزيمة (167).
وعبيدالله بن موسى مقرونًا برواية عبدالرزاق كما في مستدرك الحاكم (1/148، 149).
وخلف بن الوليد كما في رواية ابن خزيمة (151).
كلهم رووه عن إسرائيل، وذكروا مسح الرأس، إلا أنهم لم يقولوا: ثلاثًا.
وهذا دليل على ضعف عامر كما أسلفت، وليس البلاء من يحيى بن آدم، ولا من إسرائيل، وإنما علته عامر بن شقيق، فأحيانًا يذكر فيه تخليل اللحية، وأحيانًا يزيد فيه تخليل الأصابع، وأحيانًا يذكر أن مسح الرأس ثلاثًا، وأحيانًا يذكر بدون تثليث، وهذا دليل قوي لمن ضعف أمره بأنه غير حافظ، والله أعلم.
[18] سنن الدارقطني (1/92).
[19] في إسناده صالح بن عبدالجبار.
قال ابن القطان: لا أعرفه إلا في هذا الحديث، وهو مجهول الحال. كما في نصب الراية (1/32).
وفي إسناده ابن البيلماني محمد بن عبدالرحمن.
قال فيه أبو حاتم الرازي: منكر الحديث، ضعيف الحديث، مضطرب الحديث. الجرح والتعديل (7/311).
وقال البخاري: منكر الحديث، كان الحميدي يتكلم فيه. التاريخ الكبير (1/163).
وقال النسائي: منكر الحديث. الكامل (6/178).
وقال ابن عدي: وكل ما روي عن ابن البيلماني فالبلاء فيه من ابن البيلماني، وإذا روى عنه محمد بن الحارث فجميعًا ضعفاء، والضعف على حديثهما بين. تلخيص الكامل لابن الملقن (1661).
وقال الحافظ ابن حجر: ضعيف جدًّا. تلخيص الحبير (1/84). وفي التقريب قال: ضعيف، فقط.
وأما أبوه، فضعفه الحافظ في التقريب والتلخيص (1/84).
فالإسناد مظلم، يرويه ضعيف عن مثله، عن مثله. انظر إتحاف المهرة (13696).
ومع ضعف إسناده فقد اختلف في إسناده، فرواه الدارقطني (1/92، 93) بالإسناد نفسه إلا أنه جعله من مسند ابن عمر، وهذا من تخليط ابن البيلماني، ودليل على ضعفه. وانظر إتحاف المهرة (9954).
وأخرجه أحمد (1/61) حدثنا صفوان بن عيسى، عن محمد بن عبدالله بن أبي مريم، قال: دخلت على ابن داره مولى عثمان، قال: فسمعني أمضمض، قال: فقال يا محمد، قال: قلت: لبيك، قال: ألا أخبرك بوضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: رأيت عثمان، وهو بالمقاعد دعا بوضوء، فمضمض واستنشق ثلاثًا، وغسل وجهه ثلاثًا، وذراعيه ثلاثًا ثلاثًا، ومسح برأسه ثلاثًا، وغسل قدميه، ثم قال: من أحب أن ينظر إلى وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ومن طريق صفوان بن عيسى أخرجه البيهقي في السنن (1/62، 63)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1/36).
وفي إسناده: زيد بن داره، قال عنه الحافظ: مجهول الحال. تلخيص الحبير (1/84).
وذكره في الجرح والتعديل ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، ولم يذكر راويًا عنه إلا محمد بن أبي عبيدالله بن أبي مريم.
كما أن في إسناده محمد بن عبيدالله بن أبي مريم:
ذكره الحافظ في التقريب، وعلم له علامة أبي داود، وإنما روى له أبو داود تعليقًا عقب حديث (54)، وقال عنه الحافظ في التقريب: مقبول؛ أي: إن توبع، وإلا فليِّن.
والحق أنه أعلى درجة من تقدير الحافظ، فقد قال عنه يحيى القطان: لم يكن به بأس. الجرح والتعديل (7/306).
وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه، فقال: شيخ مدني صالح الحديث. المرجع السابق.
ومع ضعف إسناده، فإنه منكر مخالف لرواية الصحيحين، فقد رواه الشيخان من طريق حمران، عن عثمان، ولم يذكر عن مسح الرأس إلا مرة واحدة.
وأخرج أبو داود (107) من طريق الضحاك بن مخلد، قال: حدثنا عبدالرحمن بن وردان، قال: حدثني أبو سلمة بن عبدالرحمن، قال: حدثني حمران، قال:
رأيت عثمان بن عفان توضأ، فذكر نحوه - يعني: نحو حديث عطاء بن يزيد، عن حمران - ولم يذكر المضمضة والاستنشاق، وقال فيه: ومسح رأسه ثلاثًا، ثم غسل رجليه ثلاثًا، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ هكذا، وقال: من توضأ دون هذا كفاه.
وأخرجه البيهقي (1/62) من طريق أبي داود به. وأخرجه أيضًا (1/62) من طريق أبي بكر بن أبي داود، عن إسحاق بن منصور، عن الضحاك بن مخلد به.
وأخرجه الدارقطني (1/91) من طريق يوسف بن موسى، أنا أبو عاصم (الضحاك بن مخلد) به.
وهذا الحديث في إسناده عبدالرحمن بن وردان، قال فيه أبو حاتم: ما بحديثه بأس. الجرح والتعديل (5/295).
وقال ابن معين: صالح. المرجع السابق.
ولم يقيد ابن معين الصلاح بحديثه، فيعني أنه صالح في دينه؛ إذ لو كان يعني الحديث، لقال: صالح الحديث، أو حديثه صالح، أو نحوهما.
وقال الدارقطني: ليس بالقوي. المغني في الضعفاء (3650).
وفي التقريب: مقبول؛ أي: حيث يتابع، وإلا فلين.
فالإسناد فيه لين.
يتبع