الشـــــــروط البيــــــــنات فـــي تــولي الولايـــات


أبو عمر حاي الحاي


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

فمن الأمور المهمة التي يجب على المسلم أن يضعها نصب عينيه ولا يغفل عنها عندما يطلب الولاية أن يتقي الله جل وعلا فيها، وأن يتحلى بالإنصاف والعدل، ولا تحمله حلاوة المنصب ولذة الشهرة وذيوع الصيت ألا يقوم بما أوجبه الله عليه وولاّه من واجب النصح لله ورسوله والمؤمنين، قال[: «الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» متفق عليه.







وما أجمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى-: يجب أن يعرف أن ولاية الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي[: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.



وروى الإمام أحمد في المسند عن عبدالله بن عمرو أن النبي[ قال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم».



فأوجب[ تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر؛ تنبيها على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة؛ ولهذا روي: «أن السلطان ظل الله في الأرض» ويقال: ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان، والتجربة تبين ذلك.



قلت: والأحاديث الواردة في كلام شيخ الإسلام صحيحة إلا حديث: «أن السلطان ظل الله في الأرض» فقد رواه البيهقي في شعب الإيمان وغيره، وفيه أبو المهدي سعيد ابن سنان، وهو ضعيف عند أهل الحديث.



قلت: ولاشك في وجوب الإمارة شرعا وعقلا؛ لأن أحوال الناس وأمور البشر لا تنضبط إلا بإمام عدل، وكذلك بطانته وعماله ومن تولى شيئا من أمور الدولة.



لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم



ولا سراة إذا جهالهم سادوا



إذا تولى سراة القوم أمرهم



نما على ذاك أمر القوم وازدادوا



تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت



فإن تولت فبالأشرار تنقاد



والبيت لا يبتنى إلا له عمد



ولا عماد إذا لم ترس أوتاد



فإن تجمع أقوام ذوو حسب



وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا



أمارة الغي أن تلقى الجميع لدى الـ



إبرام للأمر والأذناب أكتاد



كيف الرشاد إذا ما كنت في نفر



لهم عن الرشد أغلال وأقياد



ويجب على من تولى أمر المسلمين أن يحقق مرضاة الله فيهم؛ لأنها أمانة عظيمة في عنقه قد تحملها: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} (الأحزاب: 72).



وقال تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعِمَّا يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا} (النساء: 58).



قال العلماء: نزلت الآية في ولاة الأمور، وأن عليهم أداء الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل.



وقد وردت أحاديث تحذر من التطلع والاستشراف إلى الإمارة والولاية؛ فعن أبي ذر - رضي الله عنه - أن رسول الله[ قال: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين ولا تَوَلَّينَّ مال يتيم» رواه مسلم.



وقال[: «ما من مسلم يلي عشرة فما فوق ذلك إلا أتى يوم القيامة مغلولا يده إلى عنقه، فكه بره أو أوبقه إثمه، أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها عذاب يوم القيامة» رواه الطبراني وهو صحيح.



وقال[: «إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامة يوم القيامة؛ فنعم المرضعة وبئست الفاطمة» رواه البخاري.



«فنعم المرضعة» أول الإمارة؛ لأن معه المال والجاه واللذات الحسية والوهمية، و«بئست الفاطمة» آخرها؛ لأن معه القتل والعزل والمطالبة بالتبعات يوم القيامة.



قلت: يستخلص مما تقدم أن من الشروط في الولاية عدم سؤالها، وألا تعطى لمن سألها وحرص عليها، إلا من رأى من نفسه الأمانة والكفاءة والقدرة على قضاء مصالح المسلمين والعلم بما يصلحهم، وجعل طاعة الله نصب عينيه، والدليل على ذلك قول الله عز وجل حاكيا عن يوسـف - عليه السلام-: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}، فمن رأى في نفسه أنه حفيظ على مصالح المسلمين عليم بما يصلح أمور دينهم ودنياهم، فليسألها، وليستعن بالله عليها، وليسأله سبحانه التوفيق والسداد، وأن يجعلها حجة له لا عليه يوم القيامة.



وصدق من قال:



حب الرياسة أطغى من على الأرضِ



حتى بغى بعضهم منها على بعضِ



وقال آخر:



حب الرياسة داء لا دواء له



وقلما تجد الراضين بالقسم



ومما ورد من مواقف السلف من عدم الحرص على الولاية أو المنصب ما قاله يزيد بن المهلب لما ولي خرسان قال: دلوني على رجل كلٍّ لخصال الخير، فدُلَّ على أبي بردة ابن أبي موسى الأشعري، فلما جاءه رآه رجلا فائقا، فلما كلمه رأى مخبرته أفضل من مرآته، قال: إني وليتك كذا وكذا من عملي، فاستعفاه فأبى أن يعفيه، فقال: أيها الأمير، ألا أخبرك بشيء حدثنيه أبي أنه سمعه من رسول الله[؟ قال: هاته، قال: إنه سمع النبي[ يقول: «من تولى عملا وهو يعلم أنه ليس لذلك العمل أهل فليتبوأ مقعده من النار» قال: وأنا أشهد أيها الأمير أني لست بأهل لما دعوتني إليه، فقال له يزيد: ما زدت إلا أن حرضتني على نفسك ورغبتنا فيك، فاخرج إلى عهدك فإني غير معفيك؛ فخرج ثم أقام فيه ما شاء الله أن يقيم، واستأذنه بالقدوم عليه، فأذن له، فقال: أيها الأمير، ألا أحدثك بشيء حدثنيه أبي أنه سمع من رسول الله[؟ قال: هاته، قال: «ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من يُسأَل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأله هُجْرا»، قال: وأنا أسألك بوجه الله إلا ما أعفيتني أيها الأمير من عملك، فأعفاه. أورد هذه القصة شيخنا الألباني - رحمه الله - في السلسلة الصحيحة عند ذكره الحديث رقم (2290) وعزاه لابن عساكر (8/397/2) والطبراني وقال: سندها حسن.



وعن عامر بن واثلة أن نافع بن عبدالحارث لقي عمر بعسفان وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟ قال: إنه قارئ لكتاب الله عز وجل وإنه عالم بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم[ قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين» رواه مسلم.



قلت: والحديث واضح الدلالة على حرص عمر - رضي الله عنه - في سؤاله عن الولاة واختيارهم، وأنه قد أجاز اختيار نافع لابن أبزي لما أخبر عن علمه بكتاب الله والفرائض، ولم ينظر إلى نسبه وحسبه.



وانظر إلى عمر حين ولى أحد قضاته لفقهه وعلمه بأحوال الناس، فلقد أورد شيخنا الألباني - رحمه الله - في «إرواء الغليل» قصة صحيحة، قال: روى الشعبي أن كعب بن سوار كان جالسا عند عمر بن الخطاب، فجاءت امرأة، فقالت: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلا قط أفضل من زوجي والله إنه ليبيت ليله قائما، ويظل نهاره صائما؛ فاستغفر لها وأثنى عليها، واستحيت المرأة وقامت راجعة، فقال كعب: يا أمير المؤمنين هلا أعديت المرأة على زوجها، فلقد أبلغت إليك في الشكوى، فقال لكعب: اقض بينهما فإنك فهمت من أمرها ما لم أفهم، قال: فإني أرى كأنها امرأة عليها ثلاث نسوة هي رابعتهم؛ فأقضي بثلاثة أيام ولياليهن يتعبد فيهن ولها يوم وليلة، فقال عمر: والله ما رأيك الأول بأعجب من الآخر، اذهب فأنت قاض على البصرة، وفي لفظ: نعم القاضي أنت.



أورده الحافظ في «الإصابة» في ترجمة كعب هذا، وذكر عن ابن عبدالبر أنه خبر عجيب مشهور. الإرواء (7/80).



قلت: فيجب على طالب المنصب أن يتحلى بالفقه والعلم، وسرعة البديهة وحسن التصرف.



وقد روى أبو نعيم في الحلية قصة عن عمر مع أحد عماله، وكيف كان ينظر في معاملتهم مع رعيتهم، وحرصه على تفقد أحوال رعيته، فقد روي عن خالد ابن معدان قال: «استعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر بن جذيم الجمحي، فلما قدم عمر بن الخطاب حمص، قال: يا أهل حمص كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه وكان يقال لأهل حمص «الكويفة الصغرى» لشكايتهم العمال، قالوا: نشكو أربعا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها، قال: وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحدا بليل، قال: وعظيمة، قال: وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا! قال: عظيمة، قال: وماذا؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام، يعني تأخذه موتة، قال: فجمع عمر بينهم وبينه، وقال: اللهم لا تفيِّل رأيي فيه اليوم، ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: والله إن كنت لأكره ذكره، ليس لأهلي خادم فأعجن عجيني ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ، ثم أخرج إليهم، فقال: ما تشكون منه؟ قال: لا يجيب أحدا بليل، قال: ما تقول؟ إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم وجعلت الليل لله عز وجل، قال: وما تشكون منه؟ قالوا: إن له يوما في الشهر لا يخرج إلينا فيه، قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى تجف ثم أدلكها ثم أخرج إليهم من آخر النهار، قال: وما تشكون منه؟ قالوا: يغنظ الغنظة بين الأيام، قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمة ثم حملوه على جذعة، فقالوا: أتحب أن محمدا مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وولدي وأن محمدا[ يشاك بشوكة! ثم نادى: يا محمد! فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال وأنا مشرك لا أومن بالله العظيم إلا ظننت أن الله عز وجل لا يغفر لي بذلك الذنب أبدا، قال: فتصيبني تلك الغنظة، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفيِّل فراستي، فبعث إليه بألف دينار، وقال: استعن بها على أمرك، فقالت امرأته: الحمد لله الذي أغنانا من خدمتك، فقال لها: فهل لك في خير من ذلك، ندفعها إلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها؟ قالت: نعم، فدعا رجلا من أهل بيته يثق به، فصررها صررا، ثم قال: انطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإلى يتيم آل فلان، وإلى مسكين آل فلان، وإلى مبتلى آل فلان، فبقيت منها ذهبية، فقال: أنفقي هذه، ثم عاد إلى عمله، فقالت: ألا تشتري لنا خادما ما فعل ذلك المال؟ قال: سيأتيك أحوج ما تكونين».



وقد روي أيضا عن عمر - رضي الله عنه - «أنه كان يسأل الوفود التي تقدم عليه من الأمصار المختلفة عن أمرائهم يسأل كل وفد عن أميره، فيقولون خيراً، فيقول: هل يعود مريضكم؟ فيقولون: نعم، فيقول: هل يعود العبد؟ فيقولون: نعم، فيقول: كيف صنيعه بالضعيف؟ هل يجلس على بابه؟ فإن قالوا لخصلة منها: لا، عزله» رواه الطبري في تاريخه بسند جيد.



قلت: فانظر إلى حرص الولاة في هذين القصتين على تقوى الله عز وجل في السر والعلن، ومراقبته سبحانه فيمن ولاهم أمرهم واسترعاهم؛ فهذا يقسم الليل لربه والنهار لرعيته، وهذا يعود مريضهم ويجالس ضعيفهم؛ فبهذا سادوا وارتفعوا، أما من أخذها بدون حقها، فإن علا في نظر الناس في الدنيا فلعلها تخسف به في النار يوم القيامة، وقد صدق من قال:



رياسات الرجال بغير دين



ولا تقوى الإله هي الخساسة






نسأل الله عز وجل للجميع النجاة من النار والفوز بالجنة، وذلك لا يكون إلا بتقوى الله عز وجل: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} (آل عمران: 76).



وصلى الله وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم