ضياع النفس بين نكران الذات وإثباتها!!



هيام الجاسم



بلا شك فإن تضخيم الذات والأنا أمر مرفوض قلبا وقالبا، شرعا ومنطقا، عقلا وواقعا، والنفس تنفر أشد النفور ممن يتمركز حول ذاته ويفسر كل شيء من حوله انطلاقا من محورية ذاته؛ ذلك هو الإنسان المسمى عند ذوي الاختصاص - بالنرجسي - وعلى الرغم من جمال الكلمة إلا أن وصف صاحبها مزعج جدا، ومما لاشك فيه أن المرء اللبيب الحصيف المتعقل هو من ينكر ذاته في سبيل إثبات قضايا كلية ومسالك شرعية محمودة ومطلوبة ومرغوبة، ونحن مأمورون بنكران ذواتنا في حال الغضب لله إذا انتهكت محارمه فلا نغضب لأنفسنا في تلك اللحظة حتى وإن آذانا المؤذون فنحن في شغل وهمّ أعظم منه ألا وهو حماية جناب الدين من الانتهاك المحرم، ونحن مأمورون أن ننكر ذواتنا دوما في جميع أحوال الإخلاص لله في أعمالنا، فلا نرى لأنفسنا حظوة ولا نفتش عن شهرة من أجل إعلاء قدر ذواتنا، كل ذلك مرفوض جملة وتفصيلا في شرعة ربنا فنحن ندور حيث دار بنا ديننا، ولا نسمح لأنفسنا أن تعتلي عرش لذة التفات الخلق لها وإعجابهم بها، فلا نلهث وراء سماع مدح مادح، ولا يجب أن يهمنا سماع ذم الذام لحاقا وتباعا، نعم.




عزيزي القارئ: في أحوال عديدة نحن مطالبون بوصفنا مسلمين أن نتنكر لذواتنا، ولكن في المقابل بقدر ما هو من التأصيل الشرعي ذلك النكران المحمود إلا أننا لا يحق لنا أن نلغي شعور الابتهاج من قلوبنا حينما يمدحنا المادحون، ويعلي من قدرنا المشجعون، ويعجب بنا المعجبون، بل ويفتخر بنا المفتخرون ، وإلا لماذا ربنا امتدح نبينا في الآيات: {ورفعنا لك ذكرك}؟ {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وقد أثنى ربنا عز وجل على صحابته الكرام، وهاهو ذا نبينا عليه الصلاة والسلام يحثنا على امتداح ربنا في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه «ولا أحد أحب إليه المدحة من الله»، ولماذا إذا كان لنبينا عليه الصلاة والسلام جولات وصولات في مدح زوجاته وصحابته حينما امتدحهم بمديح رائع قائلا لهم: «إنكم لتقلّون عند الطمع وتكثرون عند الفزع»؟ ولو كانت فرحة النفس وابتهاجها بسماع المديح محظورا شرعا ومخدشا للعقيدة؛ إذا لماذا هذا المديح من نبينا عليه الصلاة والسلام لصاحبه أبي بكر في قضية ارتخاء الإزار قائلا له في وجهه: "إنك لست منهم؟"!! وأطلق ألقابا على صحابته حتى طارت شهرتهم في دنيا التاريخ والناس عبر كل هذه الأجيال: جعفر الطيار، وسيف الله المسلول خالد ابن الوليد، وقوله للفاروق ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا آخر.



عزيزي القارئ: إن علماءنا ضبطوا لنا تجنب المديح في الوجه إذا خيف على الممدوح من الغرور وذلك لسلامة قلبه. صحيح أننا لا نعمل من أجل أن نحظى بمديح يطلبه المستمعون من راغبي الشهرة والرفعة وإنما الأعمال بالنيات، ولكن لو طرق أذني وأذنك مدح مادح ألا يحق للنفس أن تبتهج؟! وإذا صب المؤذي أذيته في أذني أليس من طبع النفس الجبلّي أن تنزعج؟ لا نريد أن نخالف فطرتنا التي فطرنا الله عز وجل عليها ويلتبس علينا الإخلاص لربنا الذي هو رأس أعمال قلوبنا.



عزيزي القارئ: لو كان استقبال مدح المادحين المدح وفرحة النفس به مذموما لما امتلأت مباحث وكتب علمائنا القدامى بأبواب وفصول قننوا لنا ضوابط المدح تقنينا عجيبا، مسموحاته ومحظوراته، ولو كان انزعاج النفس من أذية المؤذين ليس من حق النفس لما سطر لنا علماؤنا الأجلاء في فصول كتب الأخلاق كيفيات التعامل مع أصناف الحمقى والسفهاء، إنني أعجب كثيرا ممن يلقي محاضرات في فقه الإخلاص لله تعالى ويطالب السامعين بإلغاء شعوري بالفرحة والحزن أو تجاهله حينما يمدحنا المادحون أو يذمنا الذامون. صحيح ابتداء وانتهاء الأعمال هي لله لا شريك له ولكن لو اطلع مطلع وأعجبه عملك فمدحه لك في وجهك من عاجل بشرى المؤمن ولا عزاء لمن يعتقد غير ذلك، من هنا نشير دوما إلى قضية أن نفهم أنفسنا جيدا كما نفهم ديننا كي نتمكن من إنزال أحكام شرعة الله التفصيلية على واقعنا الذي هو أنا والآخرون، لو كان كل امرئ فينا يدرك تماما ما أنعم الله عليه من إمكانات وقدرات واستعدادات ثم هو عرف كيف يستثمرها ويوجهها في خدمة نفسه ومجتمعه الصغير والكبير وفق مراد الله وحسب ضوابط شرع الله مستنداً إلى فقهيات التعامل مع الآخرين من منظور شرعي فإنه حتى لو آذاه المؤذون وأزعجه المزعجون فلن يعيرهم اهتماما؛ لأنه حارث همام مشغول فيما يرضي الله، وهو في شغل لا يجد حظوة في قلبه لنفسه أبدا وإنما هو ماض قدما في استثمار ما يمكن استثماره، ولا يملك وقتا يضيعه، وهو منصرف للعطاء دون طلب العطاء من الآخرين ولكن في المقابل سيسعده مدح المادحين له؛ لأنه يعده دعما معنويا بعد الله تعالى فالنفس تميل دوما للتشجيع.



عزيزي القارئ: الناس مراتب ودرجات في قوة هضمها للفيصل الدقيق في حيثيات الإخلاص لله وما هو مسموح ومحظور به من حظوظ النفس ونكران الذات في قبول المدح والنفرة من الأذية؛ لذا لزمتنا التؤدة والتأني في تأصيل الواقع حسب شرعة الله تعالى.