ضوابط وشروط قاعدة «الخروج من الخلاف مستحب»


د.وليد خالد الربيع



علم الخلاف: من العلوم الشرعية الأصيلة، وهو ما يعبر عنه بـ «الفقه المقارن »، وقد عرفه ابن خلدون بأنه:"بيان مآخذ هؤلاء الأئمة، ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم"، ويقول صديق بن حسن القنوجي في "أبجد العلوم":"هو علم باحث عن وجوه الاستنباطات المختلفة من الأدلة الإجمالية أو التفصيلية، الذاهب إلى كل منها طائفة من العلماء، ثم البحث عنها بحسب الإبرام والنقض لأي وضع أريد في تلك الوجوه".

ولعلم الخلاف فوائد جمة كما قال النووي في مقدمة "المجموع":"واعل م أن معرفة مذاهب السلف بأدلتها من أهم ما يحتاج إليه؛ لأن اختلافهم في الفروع رحمة، وبذكر مذاهبهم بأدلتها يعرف المتمكنُ المذاهبَ على وجهها، والراجح من المرجوح، ويتضح له ولغيره المشكلات، وتظهر له الفوائد النفيسات، ويتدرب الناظر فيها بالسؤال والجواب، ويتفتح ذهنه ويتميز عند ذوي البصائر والألباب"، وقال ابن خلدون:"هو - لعمري - علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم ومران المطالعين له على الاستدلال عليه".

ومن أبرز ثمرات علم الخلاف ما ذكره د. فتحي الدريني بقوله:"اجتثاث أصول الهوى أو التعصب المذهبي، وتكوين أصالة الفكر الاجتهادي، وصقل الملكة الراسخة، وتحقيق الشخصية العلمية النزيهة؛ إظهارا لحقائق الشرع، ومحافظة على قصد الشارع، وتحريا له باتباع مقتضيات الأدلة جملة وتفصيلا".

والدراسات المقارنة من الأبحاث المهمة في مجال الفقه الإسلامي ، ولها أسس منهجية وأساليب علمية وضعها العلماء السابقون والمعاصرون، لابد للباحث من مراعاتها ليتجنب الخطأ والانحراف في منهج البحث والنظر، وفي النتائج التي قد يصل إليها في بحثه ومقارنته بين المذاهب الفقهية، ومن هذه الضوابط:

قاعدة "الخروج من الخلاف مستحب"، وفي لفظ: "الخروج من الخلاف أولى وأفضل"، وهي قاعدة مهمة ينبغي التمسك بها؛ لأن مآلها الاحتياط في الدين، وجلب المحبة والتأليف بين القلوب عن طريق نبذ الخلاف في مسائل الخطب فيها يسير ، قال الزركشي: "لأن المجتهد إذا كان يجوّز خلاف ما غلب على ظنه ، ونظر في متمسَّك مخالفه فرأى له موقعا ، فينبغي له أن يراعيه على وجه ، وكذا الخلاف بين المجتهدين إذا كان أحدهما إماما، لما في المخالفة من الخروج على الأئمة، وقد صح عن ابن مسعود - رضي الله عنه- أنه عاب على عثمان - رضي الله عنه - صلاته بمنى أربعا وصلى معه، فقيل له في ذلك فقال: الخلاف شر".

يقول السبكي:"إن أفضليته - أي الخروج من الخلاف - ليست لثبوت سنة خاصة فيه، بل لعموم الاحتياط والاستبراء للدين، وهو مطلوب شرعي قطعا؛ فكان القول بأن الخروج أفضل ثابت من حيث العموم، واعتماده من الورع المطلوب شرعا".

وقال الليث بن سعد:"إذا جاء الاختلاف أخذنا فيه بالأحوط"، قال ابن القاسم:"الاحتياط في الفعل كالمجمع على حسنه بين العقلاء في الجملة، والاحتياط ما لم تتبين السنة، فإذا تبينت فالاحتياط اتباعها، فإن أفضى الاحتياط إلى خلافها كان خطأ، والعلماء متفقون على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر".



معنى القاعدة :

المراد بالخروج من الخلاف - أو مراعاة الخلاف-: «إعمال المجتهد دليل المجتهد المخالف له في لازم مدلوله»، والمقصود به «إتيان ما هو أحوط للدين في مسألة اجتهادية اختلفت فيها أنظار الفقهاء واجتهاداتهم».

فمفاد القاعدة: أنه عند وجود اختلاف في مسألة اجتهادية يستحب أن يخرج المكلف من الخلاف بفعل ما هو أحوط لدينه، وذلك أولى وأفضل.

دليل اعتبار القاعدة :

عن عائشة - رضي الله عنه-: أن عتبة ابن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد وقال: ابن أخي قد عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فتساوقا إلى رسول الله[ فقال:"هو لك يا عبد ابن زمعة"، ثم قال:"الولد للفراش وللعاهر الحَجَر"، ثم قال لسودة:"احتجبي منه"؛ لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها حتى لقي الله.

وجه الدلالة: أن النبي[ راعى الحكمين معا «الفراش والشبه»، فراعى الفراش بأن ألحق الولد بصاحب الفراش، وراعى الشبه بأمر سودة بالاحتجاب منه.


أنواع الخروج من الخلاف:

قال العز بن عبد السلام:"وقد أطلق بعض أكابر الشافعية أن الخروج من الخلاف حيث وقع أفضل من التورط فيه، وليس كما أطلق؛ بل الخلاف على أقسام:

القسم الأول: أن يكون الخلاف في التحريم والجواز؛ فالخروج من الاختلاف بالاجتناب أفضل".

مثاله : الاختلاف في حل أو تحريم نبيذ الزبيب والتمر الذي لا يسكر قليله؛ فالأولى اجتنابه خروجا من الخلاف .

القسم الثاني: أن يكون الخلاف في الاستحباب والإيجاب؛ فالفعل أفضل".

قال الزركشي:"القسم الثالث: أن يكون الخلاف في المشروعية، كقراءة البسملة في الفاتحة، فإنها مكروهة عند مالك واجبة عند الشافعي، وكذلك صلاة الكسوف على الهيئة المنقولة في الحديث فإنها سنة عند الشافعي وأنكرها أبو حنيفة؛ فالفعل أفضل".

ومثله الاختلاف في زكاة الحلي الملبوس بين الإيجاب وعدمه؛ فالفعل أفضل.


ضوابط الخروج من الخلاف:

أولاً: أن يكون الخلاف قويا: قال العز بن عبد السلام:"والضابط في هذا أن مأخذ المخالف إن كان في غاية الضعف والبعد من الصواب فلا نظر إليه ولا التفات عليه، إذا كان ما اعتمد عليه لا يصح نصا دليلا شرعيا، ولاسيما إذا كان مأخذه مما ينقض الحكم بمثله، وإن تقارنت الأدلة في سائر الخلاف بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد، فهذا مما يستحب الخروج من الخلاف فيه حذرا من كون الصواب مع الخصم، والشرع يحتاط لفعل الواجبات والمندوبات، كما يحتاط لترك المحرمات والمكروهات".

وقال الزركشي:"أن يكون مأخذ المخالف قويا، فإن كان واهيا لم يراع، كالرواية المنقولة عن أبي حنيفة في بطلان الصلاة برفع اليدين - فإن بعضهم أنكرها - وبتقدير ثبوتها لا يصح لها مستند، والأحاديث الصحيحة معارضة لها"، ومثله قول من قال: لا يصح الصوم في السفر، وهو مذهب الظاهرية ومحكي عن عبد الرحمن بن عوف حيث يروى عنه أنه قال:"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر"، قال ابن عبد البر:"هذا قول يروى عن عبد الرحمن بن عوف هجره الفقهاء كلهم والسنة ترده".

ثانياً: ألا تؤدي مراعاته إلى خرق الإجماع، قال الزركشي:" كما نقل عن ابن سريج أنه كان يغسل أذنيه مع الوجه ويمسحهما مع الرأس ويفردهما بالغسل؛ مراعاة لمن قال: إنهما من الوجه أو عضوان مستقلان، فوقع في خلاف الإجماع ، إذ لم يقل أحد بالجمع".

ثالثاً : أن يكون الجمع بين المذاهب ممكنا:قال الزركشي:"فإن لم يكن كذلك، فلا يترك الراجح عند معتقده لمراعاة المرجوح؛ لأن ذلك عدول عما وجب عليه من اتباع ما غلب على ظنه، وهو لا يجوز قطعا، ومثاله: الرواية عن أبي حنيفة في اشتراط المصر الجامع في انعقاد الجمعة، لا يمكن مراعاته عند من يقول: إن أهل القرى إذا بلغوا العدد الذي تنعقد به الجمعة لزمتهم ولا يجزئهم الظهر؛ فلا يمكن الجمع بين القولين".


أمثلة للخروج من الخلاف :

1- يندب الإتيان بالمضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة وفي الوضوء؛ خروجا من خلاف من أوجبهما كالحنفية في غسل الجمعة ، والحنابلة في الطهارتين.

2- يستحب غسل الإناء المتنجس سبعا مراعاة لمذهب الحنابلة .

3- تبييت النية من الليل في صوم النفل مراعاة للمالكية حيث أوجبوه .

4- استحباب الدلك في الطهارة بالماء، واستيعاب الرأس بالمسح في الوضوء، والترتيب في قضاء الصلاة؛ خروجا من خلاف من أوجبها.

5- استحباب الشرب جالسا خروجا من خلاف من أوجبه.


وغيرها من الأمثلة التي امتلأت بها كتب الفقه المقارن .

فهذا بعض ما تيسر ذكره في بيان هذه القاعدة المهمة، أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في الدين ويرزقنا العلم النافع والعمل الصالح والقبول في الدنيا والآخرة.