أنّ الشرك مناقضٌ للتوحيد، لا يجامعه، فمتى ما وقع الشرك الأكبر انتفى التوحيد ولا بد،
لا فرق في ذلك بين من بَلَغَه العلم وقامت عليه الحجّة وبين الجاهل،
فإنّ التوحيد هو إفراد الله بالعبادة والبراءة من الشرك،
ومعلوم أن من فَعَل الشرك لم يكن متبرئاً منه، إذ البراءة من الشرك: اعتقاد بطلانه، واجتنابه، وفاعلُ الشرك، جاهلاً كان أو عالماً، لم يعتقد بطلانه فضلاً عن اجتنابه،
فكيف يكون مسلماً مع كونه لم يأت بركن التوحيد؟!
ولا يُستثنى من ذلك إلا المُكره حيث لا يُنسب له فعلٌ واختيار،
لقوله تعالى:{مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
فإنّ قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ}: يعمُّ من فَعل الشرك اختياراً، جاهلاً كان أو عالماً،
فإن هذا لا يُحكم له بإسلام، إذ الإسلام والشرك ضدان لا يجتمعان،
متى ما ثبت أحدهما انتفى الآخر. والمسلم هو الموحّد، فمن كان مشركاً بعبادة غير الله لم يكن موحّداً،
ومن لم يكن موحداً فليس بمسلم،
ومن هذا يتبين خطأ بعض من يُسمّي المشرك الجاهل مسلماً بمجرد الشهادتين،
ويمتنع من تسميته موحداً،
وما الإسلام والتوحيد إلا شيءٌ واحدٌ.
قال ابن القيم -رحمه الله-:
(فالمُعرض عن التوحيد مشركٌ، شاء أم أبى).
[«إغاثة اللهفان» 1/214]
الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله- في حقّ من وقعوا في الشرك قبل قيام الحجة وبلوغ العلم:
(وأما الشرك فهو يَصدُق عليهم، واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله وقاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله،
وبقاء الاسم ومسمّاه مع بعض ما ذكر الفقهاء في باب حكم المرتد أظهر من بقائه مع عبادة الصالحين ودعائهم) ا.هـ.
[«منهاج التأسيس» ص99]
ومنزلة التوحيد في الدين ليست كمنزلة غيره من المسائل،
فإن دلائل التوحيد فطرية عقلية قبل أن تكون شرعية،
إلا أن الله برحمته لم يعلّق العذاب والعقوبة إلا باجتماع الحجتين:
الفطرية والشرعية،
كما في قوله {وما كنا معذّبين حتى نبعث رسولا}، وفي قوله: {رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
وقد قال صلى الله عليه وسلم:
«كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تُنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء». متفق عليه
وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا فيما يحكيه عن ربه عز وجل: «وإنى خلقت عبادى حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأَمَرَتهم أن يشركوا بى ما لم أنزل به سلطانا». رواه مسلم
قال ابن القيم -رحمه الله-:
(نفسُ العقل الذي به يعرفون التوحيد حجّة في بطلان الشرك
لا يُحتاج ذلك إلى رسول، فإنه جَعَلَ ما تقدّم حجّة عليهم بدون هذا.
وهذا لا يناقض قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}،
فإنّ الرسول يدعو إلى التوحيد،
ولكنّ الفطرة دليلٌ عقليٌّ يُعلم به إثبات الصانع، لم يكن في مجرد الرسالة حجة عليهم،
فهذه الشهادة على أنفسهم التي تتضمن إقرارهم بأن الله ربهم، ومعرفتهم بذلك أمرٌ لازم لكل بني آدم، به تقوم حجة الله تعالى في تصديق رسله،
فلا يمكن أحداً أن يقول يوم القيامة إني كنت عن هذا غافلاً،
ولا أنَّ الذنب كان لأبي المشرك دوني لأنه عارف بأنّ الله ربه لا شريك له،
فلم يكن معذوراً في التعطيل والإشراك، بل قام به ما يستحق به العذاب.
ثم إن الله سبحانه – لكمال رحمته وإحسانه – لا يعذب أحداً إلا بعد إرسال الرسول إليه،
وإن كان فاعلاً لما يستحق به الذم والعقاب:
فلله على عبده حجتان قد أعدهما عليه لا يعذبه إلا بعد قيامهما:
إحداهما:
ما فطره عليه، وخلقه عليه من الإقرار بأنه ربه ومليكه وفاطره، وحقه عليه لازم.
والثانية:
إرسال رسله إليه بتفصيل ذلك، وتقريره وتكميله،
فيقوم عليه شاهد الفطرة، والشرعة،
ويُقرّ على نفسه بأنه كان كافراً،
قال تعالى: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}،
فلم ينفذ عليهم الحكم إلا بعد إقرار وشاهدين، وهذا غاية العدل) ا.ه. [«أحكام أهل الذمة» 2/1013]
ولتقرير هذه المسألة موضع آخر.
وعلى هذا، فتوقُّف الإمام محمد بن عبد الوهاب عن تكفير المتلبسين بالشرك الأكبر حتى تبلغهم الحجة لا يعني الحكم لهم بالإسلام، بل عنده أّنَّهم من أهل الفترة، كفارٌ حكماً لا حقيقةً،
ولذلك جاءت الآثار بأنهم يُختبرون في الآخرة ليتحقق منهم الإيمان أو الكفر حقيقة لا حكماً، لأنّ العذاب متوقفٌ على حقيقة الكفر لا على الحكم به ظاهراً،
كما أنّ الثواب متوقفٌ على حقيقة الإيمان لا على الحكم به ظاهراً،
فإن الرجل قد يُحكم له بالإٍسلام والإيمان بحسب الظاهر،
مع كفره في الباطن،
كما أنه قد يُحكم له بالكفر ظاهراً مع عدم كفره باطناً،
وهذا أصلٌ عند أهل السنّة والجماعة
وهو أنّ الأحكام في الدنيا إنما هي على الظواهر لا البواطن،
وأما في الآخرة فإنها على الحقائق لا مجرد الظواهر.
قال عمر رضي الله عنه:
(إن أناساً كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّ الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظَهَر لنا من أعمالكم،
فمن أظهر لنا خيراً أَمِنّاه وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته،
ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمَنْه ولم نُصدّقه وإن قال إن سريرته حسنة)
رواه البخاري.
وأدلة هذا الأصل كثيرة، ليس هذا موضع ذكرها.
وعلى هذا فمراد الإمام محمد بن عبد الوهاب بالكفر الذي يَمتنعُ الحكمُ به على من تلبّس بالشرك إذا كان جاهلاً،
إنما هو الكفر المستوجب للخلود في النار،[الكفر الظاهر والباطن مع قيام الحجة]
وأما الكفر الظاهر، وهو المحكوم به في الدنيا والذي تترتب عليه الأحكام الدنيوية فإنه محكومٌ به على كل من وقع في الشرك.
وقد نبّه أئمة الدعوة على هذه المسألة، وبينوا أنّ التوقف في تكفير المتلبس بالشرك قبل قيام الحجة لا يعني الحكم له بالإسلام، بل هو معدود في أهل الفترة.
قال أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب وحمد بن ناصر بن معمر -رحمهم الله- عمّن مات قبل بلوغ الحجة: (إذا كان يعمل بالكفر والشرك وعدم من يُنبّهه، لا نَحكمُ بكفره حتى تقام عليه الحجة، ولكن لا نَحكُم بأنه مسلم، بل نقول عمله كفرٌ يبيح المال والدم، وإن كنا لا نحكم على هذا الشخص لعدم قيام الحجة عليه، لا يُقال إن لم يكن كافراً فهو مسلم، بل نقول: عمله عمل الكفار، وإطلاق الحكم على هذا الشخص بعينه متوقف على بلوغ الحجة الرسالية، وقد ذكر أهل العلم أن أصحاب الفترات يمتحنون يوم القيامة في العرصات، ولم يجعلوا حكمه حكم الكفار، ولا حكم الأبرار) ا.هـ. [«الدرر السنية» 10/136]
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله-: (إن ابن القيم – رحمه الله – جزم بكفر المقلدين لشيوخهم في المسائل المُكفِّرة إذا تمكنوا من طلب الحق ومعرفته، وتأهلوا لذلك، فأعرضوا ولم يلتفتوا، ومن لم يتمكن ولم يتأهّل لمعرفة ما جاءت به الرسل فهو عنده من جنس أهل الفترة ممن لم تبلغه دعوة رسول من الرسل، وكلا النوعين لا يُحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مسمى المسلمين، حتى عند من لم يُكفِّر بعضهم وسيأتيك كلامه، وأما الشرك فهو يصدق عليهم، واسمه يتناولهم، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله وقاعدته الكبرى: شهادة أن لا إله إلا الله، وبقاء الاسم ومسماه مع بعض ما ذكر الفقهاء في باب حكم المرتد أظهر من بقائه مع عبادة الصالحين ودعائهم) ا.هـ. [«منهاج التأسيس» ص99]
وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: ( فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة به، لا ليُسمَّى كافراً بعد البيان، فإنه يُسمّى كافراً بما حدث منه من سجوده لغير الله، أو نذره قربة، أو ذبحه شاة مثلاً لغير الله) ا.هـ. [فتاوى اللجنة الدائمة، فتوى رقم (4400)]
وقال الشيخ صالح آل الشيخ -وفقه الله-: (من قام به الشرك فهو مشرك الشرك الأكبر، من قام به فهو مشرك، وإنما إقامة الحجة شرط في وجوب العداء، كما أن اليهود والنصارى نسميهم كفاراً، هم كفار ولو لم يسمعوا بالنبي أصلاً، كذلك أهل الأوثان والقبور ونحو ذلك من قام به الشرك فهو مشرك، وترتَّب عليه أحكام المشركين في الدنيا، أما إذا كان لم تقم عليه الحجة فهو ليس مقطوعا له بالنار إذا مات، وإنما موقوف أمره حتى تقام عليه الحجة بين يدي الله – جل وعلا -.
فإذن فرقٌ بين شرطنا لإقامة الحجة، وبين الامتناع من الحكم بالشرك، من قام به الشرك الأكبر فهو مشرك ترتب عليه آثار ذلك الدنيوية، أنه لا يستغفر له، ولا تُؤكل ذبيحته، ولا يُضحّى له، ونحو ذلك من الأحكام، وأما الحكم عليه بالكفر الظاهر والباطن فهذا موقوف حتى تقام عليه الحجة، فإن لم تقم عليه الحجة فأمره إلى الله – جل وعلا -.
هذا تحقيق كلام أهل العلم في هذه المسألة وهي مسألة مشهورة دقيقة موسومة بمسألة العذر بالجهل) ا.هـ.. [«شرح مسائل الجاهلية»، الشريط الرابع]
وقال في موضع آخر: (فإن المتلبس بالشرك يُقال له مشرك سواءً أكان عالماً أم كان جاهلاً، والحُكم عليه بالكفر يتنوع:
فإن أُقيمت عليه الحجة؛ الحجة الرسالية من خبير بها ليزيل عنه الشبهة، وليُفهمه بحدود ما أنزل الله على رسوله: التوحيد وبيان الشرك، فتَرَكَ ذلك مع إقامة الحجة عليه، فإنه يُعدُّ كافراً ظاهراً وباطناً.
وأما المُعرض، فهنا يُعامل في الظاهر معاملة الكافر، وأما باطنه فإنه لا نحكم عليه بالكفر الباطن إلا بعد قيام الحجة عليه؛ لأنه من المتقرر عند العلماء أن من تلبس بالزنا فهو زان، وقد يؤاخذ وقد لا يؤاخذ، إذا كان عالماً بحرمة الزنا فزنى فهو مؤاخذ، وإذا كان أسلم للتو وزنى غير عالم أنه محرَّم فالاسم باق عليه؛ لكن -يعني اسم الزنا باق أنه زانٍ واسم الزنا عليه باق- لكن لا يُؤاخذ بذلك لعدم علمه.
وهذا هو الجمع بين ما ورد في هذا الباب من أقوال مختلفة.
[«شرح كشف الشبهات»]