لا ينجس قل أم كثر إلا إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة


زيد بن مسفر البحري

مسألة:
الصحيح أن الماء لا ينجس قل أم كثر إلا إذا تغير أحد أوصافه بالنجاسة.
الشرح:
هذه المسألة اختلف فيها العلماء، فبعض العلماء يرى أن الماء إن كان قليلاً فوقعت فيه نجاسة فإنه ينجس، غيرته أم لم تغيره، فبمجرد وقوع النجاسة في الماء القليل فإنه ينجس، أما إن كان كثيراً فيقولون إنه لا ينجس إلا إذا تغير أحد أوصافه، ودليلهم قوله - عليه الصلاة والسلام - كما في السنن قال: ((إذا كان الماء قلتين لم ينجس))، وفي وراية: ((لم يحمل الخبث))، فيفهم من هذا أن الماء إن كان دون القلتين أنه ينجس فيكون ضابط القليل ما كان دون القلتين، ويكون ضابط الكثير من الماء ما كان قلتين فأكثر، وضابط القلتين: قال بعض المعاصرين إنها توازي عشر تنكات أو إحدى عشرة تنكة، وبعضهم قال: إنها تساوي قريباً من مائة وتسعين كيلاً (190 كيلو)، وبعضهم وصف هاتين القلتين بأنها كقلال هجر اعتماداً على رواية جاءت في هذا، لكن الألباني - رحمه الله - يقول: إنها رواية منكرة، فتقييدها بقلال هجر لا يصح، هذا هو القول الأول القائل: بأن الماء إن كان قليلا فوقعت فيه النجاسة فإنه ينجس تغير أو لم يتغير أما إن كان كثيراً فينظر هل تغير بالنجاسة أم لا؟ فإن لم يتغير فيكون طهوراً، حتى لو بقيت النجاسة.
القول الثاني: يفرقون بين نجاسة الآدمي وذلك إذا كانت بولاً أو عذرة مائعة فيقولون إن كان الماء كثيراً ووقعت فيه نجاسة آدمي فإن الماء ينجس تغير أم لم يتغير بينما لو وقعت فيه نجاسة غير نجاسة الآدمي فإنه لا ينجس إلا بالتغير، ويستدلون ذلك بقوله - عليه الصلاة والسلام - كما في الصحيحين: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه))، فدل هذا الحديث على أن بول الآدمي مؤثر في الماء ولو كان كثيراً، ويقاس على البول عذرته المائعة، أما عذرته الجامدة فحكمها حكم سائر النجاسات، ومن ثم فإنهم يتفقون مع أصحاب القول الأول على أن الماء إذا كان قليلاً فوقعت فيه نجاسة فينجس تغير أم لم يتغير بقطع النظر عن نوعيه هذه النجاسة، ويختلفون معهم في أنه لو كان كثيراً فينجس ببول الآدمي وعذرته المائعة تغير أو لم يتغير، ثم إن أصحاب هذا القول أرادوا أن يسدوا المدخل عليهم إذ لو قال لهم قائل يلزم على قولكم أن ماء الغدير الكثير إذا بال فيه الآدمي ينجس، فأجابوا بأننا نقيد فنقول: إن وقعت فيه نجاسة آدمي ولم يشق نزحها يعني إزالتها فهذا هو مرادنا، أما إن كان يشق نزحها فإنه لا ينجس.
القول الثالث:
وهو الراجح أن الماء إذا وقعت في النجاسة لا ينجس سواء كان قليلا أم كثيراً سواء كانت النجاسة بول آدمي وعذرته المائعة أو كانت غير ذلك، ودليل هذا القول ما يأتي، قوله - تعالى -: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام: 145]، ووجه الدلالة من هذا الآية: أن الله - عز وجل - جعل علة تحريم هذه الأشياء الرّجسية فدل على أن ما خلا من الرجسية فإنه حلال، وهذا في المطعوم فما ظنكم بالمشروب، وهذا الماء ليس فيه شيء من هذه الرجسية فليس لهذه النجاسة الواقعة في هذا الماء القليل أثر0
والدليل الثاني: ما جاء في سنن أبي داود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بئر بضاعة -وهي بئر يلقى فيها النتن ولحوم الكلاب- فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء))، وهذا البئر ماؤه قليل فإنها إن كثرت كما ذكر الراوي إن كثرت فتصل إلى العانة، وإن قلت فإلى الركبة هذا عمقها، أما عرضها فيقول أبو داود - رحمه الله - ذرعتها فإذا هي ستة أذرع، والذراع من أطراف أصابع اليد المتوسطة في الخِلْقة إلى المرفق، فقوله - عليه الصلاة والسلام - في هذه البئر مع قلة مائها، وما يلقي فيها من لحوم الكلاب والنتن قوله: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء))، يدل على أن الماء قل أم كثر أنه لا ينجس، بوقوع النجاسة فيه إلا إذا غيرت أحد أوصافه والأوصاف ثلاثة:
1- الريح.
2- اللون.
3- الطعم.
فإن غيرت النجاسة ريح الماء فقط صار نجساً، أو غيرت طعمه صار نجساً، فإن غيرت لونه صار نجساً، فإن غيرت اللون والطعم والريح معاً فمن باب أولى ودليل اعتبار هذه الأوصاف ما جاء من زيادة: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء))، زيد على هذا الحديث: (إلا ما غلب على ريحه، أو لونه، أو طعمه))، ولكن هذه الزيادة ليست صحيحة كما قال الألباني - رحمه الله - فليست صحيحة من حيث السند إنما هي صحيحة من حيث المعنى ولذا قال - رحمه الله - لم أر خلافاً بين العلماء في عدم اعتبار هذه الأوصاف، وأما استدلال أصحاب القول الأول بالحديث الذي سببه سؤال الرجل قال: يا رسول الله الماء في الفلاة من الأرض تنوبه السباع، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث))، فهذا الدليل الجواب عنه أن يقال: إن القاعدة المقررة في أصول الفقه تقول: "إذا تعارض منطوق نص بمفهوم نص آخر قدم المنطوق فالمنطوق يقدم على المفهوم" فاستدلالهم بهذا الحديث بطريق المفهوم فيفهم منه أن ما كان دون القلتين تنجس، وهذا المفهوم يعارضه منطوق حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الماء طهور لا ينجسه شيء)).
وأما الجواب عن دليل أصحاب القول الثاني فيقال: إن استدلالهم بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه))، نقول: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض في هذا الحديث لنجاسة الماء، وإنما تعرض - عليه الصلاة والسلام - إلى أن هذا الفعل لا يليق بالعقلاء، فالعقل يمنع أن يبول الإنسان في ماء ثم يغتسل منه، وهذا كحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين: ((لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم يضاجعها آخر النهار))؛ لأنه ليس من المناسب أن يجلد الزوج زوجته جلد العبد ثم بعد هذا الجلد يجامعها، فيكون الراجح أن الماء إذا وقعت فيه النجاسة قل أم كثر لا ينجس إلا بالتغير، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله -.