الخلاف نذيرُ شرٍّ يُهَدِّد المجتمع





لا يخفى على أحد أنَّ الخلافَ نذيرُ شرٍّ، يُهَدِّد المجتمع بالخَيْبَة والخسران؛ لذلك كانت الدعوة إلى الائتِلاف ونبْذ الاختِلاف من مَحاسِن ديننا الإسلامي، يقول الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى-: «ما أَمَر به الشارعُ وحَثَّ عليه من وجوب الاجتِماع والائتِلاف، ونهْيه وتحذيره عن التفرُّق والاختِلاف، على هذا الأصل الكبير من نصوص الشريعة في الكتاب والسُّنَّة، شيءٌ كثير، وقد عَلِمَ كلُّ مَن له أدنى معقول مَنْفَعَةَ هذا الأمر، وما يترتَّبُ عليه مِن المصالح الدينية والدنيوية، وما يَندَفِع به مِن المضارِّ والمفاسِد، ولا يخفى أيضًا أنَّ القوَّة المعنويَّة المبنيَّة على الحقِّ، هذا أصلها الذي تَدُور عليه، كما أنَّه قد علم ما كان عليه المسلمون في صدر الإسلام مِن استِقامة الدين، وصَلاح الأحوال، والعزَّة التي لم يَصل إليها أحدٌ سِواهم؛ إذ كانوا مُستَمسِكين بهذا الأصل، قائِمين به حقَّ القيام، مُوقِنين أشدَّ اليَقِين أنه رُوح دينهم».
وقد تنوَّعَتْ دعوة الشريعة إلى هذا الأمر، فتَارَةً تأمُر الأمرَ الصريح بالاجتِماع والائتِلاف، وتارَةً تنهى عن التفرُّق والاختِلاف، وتارَةً؛ بل تارات تجمع بينهما؛ يقول -تعالى-: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:13)، وقال -تعالى-: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالجماعة، وإيَّاكم والفرقة...«، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «وتَطاوَعا ولا تختَلِفا».
وتارَةً تأمُر بما يحصل به الاجتِماع والألفة؛ كما قال -تعالى-: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} (الشورى: 40)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تهادُوا تحابُّوا»، وغير ذلك كثيرٌ، وتارَةً تَنهى عن أسباب التفرُّق والاختِلاف؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما ضلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليه إلا أُوتُوا الجدَل».
وتارَةً تمدح الاجتِماع والألفة، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فإنَّ البركة مع الجماعة»؛ وتارَةً تذمُّ الاختِلاف والفرقة بشَتَّى أنواعها؛ كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّما تفرُّقكم في الشِّعاب والأودِيَة من الشيطان»؛ وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما لي أراكم عِزِين؟» إلى غير ذلك ممَّا يحصل ويقوم به الائتِلافُ، ويَتلاشَى ويضْمحلُّ به الاختِلاف.
إنَّنا إذا تدبَّرنا حالَنا وما وصلْنا إليه، عَلِمنا بما لا يدَع لنا مجالًا للشكِّ أنَّ أزمة تأخُّرنا عمَّا افترَضَه لنا منهجُنا الرباني من التقدُّم: هو كثرة ما غلب علينا مِن النزاع والفرقة، واللهُ -تعالى- يقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46)، ولا يشعر بمحنة الفرقة والاختِلاف إلَّا مَن تَجرَّع مَرارَةَ واقعِ المسلمين اليوم الذين حلّت بديارهم الكوارث والنكبات بسبب الفرقة والاختلاف والنزاعات.
ومن أخطر آثار الخلاف على المجتمع أنه يؤدي إلى الفُرقة، والفرقة تؤدي إلى الضَّعف، والضعفُ يُجرِّئ الأعداء علينا، وهذا عين ما يحدثُ الآن؛ فالمرء منا قليل بنفسه كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده قوي بجماعته.
لذلك الرجلُ الحكيم أراد أن يعلِّم أولاده دَرسًا عمليًّا، فجمعهم وأمرهم أن يأتوا بحزمَة مِن الحطب، ويقوم كلٌّ منهم بكسرها مُجتمعةً، فلم يُفلحوا لقوَّتها، ثم أمرهم أن يُفرِّقوا حزمةَ الحطب، ويأخذ كلٌّ منهم عُودًا ويكسره، فَكُسَر، فعلموا أن الوَحدة سبيلُ القوَّة، والفُرقةَ سبيل الضعف، وهذه حقيقةٌ يؤكدها العقلُ والتاريخ والتَّجربة والواقع.
فالاختلاف يشغل الناس ببعضهم، ويصرف الأمة عن تحقيق غاياتها الكبرى التي حمَّلها الله إياها، من: تبليغ الرسالة والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإصلاح المجتمع والنهوض به، كما أنَّ التفرق والاختلاف يعطل الأفكار عن التطوير والتقدم، ويشتت الطاقات ويبددها فتضيع جهود الأمة والمجتمع، ويتناحر الأفراد على توافه الأمور في وقت يتجمع فيه الآخرون، بل ويتخذون من فرقة المسلمين مصدراً لقوتهم، ومستنداً لغزوهم.

فلنحذر من الفرقة وأدوائها المهلكة، ولنحرص على جمع الكلمة وردم الفجوات، ولنستشعر جميعاً أننا أمةُ الوحدة، وأن دواعي الاتفاق والاجتماع في ديننا وشريعتنا أكثرُ وأعمق مما عند غيرنا.
منقول