يوم.. مع ملك الموت


د. أمير الحداد



هاتفني «فهد» - وهو الوحيد الذي يهاتفني في أي وقت دون حرج - لنخرج بعد العشاء.. دون أن يحدد سببا أو يذكر مكانا.. وبالفعل.. أصبحت وجهتنا أحد المجمعات غير المزدحمة لتناول المبردات.

- تخيل أنك تتابع ملك الموت لمدة 24 ساعة!! ولن تستطيع ذلك.. ولكن لمجرد الاعتبار.. يقبض أرواح عشرات الآلاف من البشر.. هذا شاب قبض روحه وهو «مخدَّر»... وذاك في حادث سيارة.. وطفل حديث الولادة.. لفظ أنفاسه ولم يصرخ.. وطفل تناول قطعة حلوى فاختنق بها.. وصبي سقط في حفرة بينما كان يلعب الكرة.. وامرأة كانت تتجهز لزفافها القريب فتوقف قلبها.. وزوجان كانا في رحلة سياحية فغرقا في النهر.. وآخر لدغته حية.. فمات من تأثير السم.. وآخر سافر ليزور مريضا.. فمات في المستشفى.. وشباب خرجوا في رحلة صيد بحرية فغرق قاربهم.. ومريض ثري سافر تحت عناية فائقة فمات في الطائرة.. وامرأة سافرت لزيارة أقاربها فماتت عندهم.. من أقصى مشرق الأرض.. إلى مغربها.. عشرات الآلاف من الأبدان التي فارقتها أرواحها.. تدفن.. ويهال عليها التراب ويمضي الأحياء بعد الدفن إلى مشاغلهم.. وتستمر الحياة.. كنت أستمع لصاحبي.. متجاوبا معه.

- وما الذي جعلك تفكر في هذا الأمر؟

- اليوم الخميس... تلقيت نبأ وفاة أربعة ممن أعرف... اثنان عن طريق ابني.. وواحد من نسبي.. وواحد من رواد المسجد.. فحدثت نفسي.. نحن في هذه الدائرة الضيقة لدينا أربع وفيات.. فكيف ببلدنا.. وإقليمنا.. وقارتنا.. والعالم؟! هذا يموت كافرا.. وذاك سكران.. وثالث وهو يغني.. ورابع مخدرا.. وخامس ساجدا.. وسابع نائما.. وثامن طائعا.. وتاسع عاصيا.. وهكذا.. دون أن نستطيع حصرهم.. {إن سعيكم لشتى}.. وملك الموت موكل بقبض هذه الأرواح جميعا.. بالطبع مع الملائكة الذين معه.. ولو شاء الله لجعله وحده.. فهو سبحانه قادر على ذلك.. ولكن الملائكة التي تتولى نزع الروح منها ملائكة رحمة وملائة عذاب.. والكل يموت.. لا يدري أين يموت.. ولا متى يموت... ولكن ربما يختار على أي شيء يموت.. {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.. ولا مجاملة في الموت.. الصغير والكبير.. الغني والفقير.. الصحيح والسقيم.. الصالح والطالح.. المطيع والعاصي.. وقليل من يعتبر.. مهما ارتفع شأن الإنسان.. ومهما علا ذكره.. وزاد ثراؤه.. فإنه سيموت.. دون أن يعلم المكان والزمان.. بل يسعى إلى الموت من حيث يريد الفرار منه.. {قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم}.. فليس أمامنا سوى عدم الجزع.. والهدوء.. والاستعداد لقدوم هذا الزائر في أي وقت والدعاء أن تكون خاتمتنا حسنة مستورة...