الدماء الطاهرة


زيد بن مسفر البحري

مسألة:
الدماء الطاهرة دم السمك ودم ما لا نفس له سائلة، والدم الذي يبقى في المذكاة، ودم الشهيد، ودم الآدمي غير الشهيد على القول الراجح، وعلى القول بنجاسته فيعفى عن يسيره، وأما الدماء النجسة فالدم الخارج من السبيلين، والدم المسفوح الذي يخرج من الحلقوم، والمريء، والودجين عند الذبح.
الشرح:
الشق الأول: وهو الدماء الطاهرة.
الشق الثاني: الدماء النجسة.
الشق الأول: وهو الدماء الطاهرة:
وليتنبه إلى قولنا الطاهرة، فلا يعني أنه يجوز شربها، وإنما طهارتها طهارة حكمية، فهذه الدماء الطاهرة أنواع:
النوع الأول: دم السمك، فدم السمك طاهر لقول ابن عمر - رضي الله عنهما - كما في المسند وغيره: "أُحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال".
وقد أنكر الإمام أحمد - رحمه الله -: أن يكون هذا الحديث من قبيل المرفوع حقيقة، وإنما هو من قبيل الحديث المرفوع حكماً؛ لأن قول الصحابي أحل لنا كذا، أو نهينا عن كذا، أو أمرنا بكذا فهو بمنزلة الحديث المرفوع حكماً، فهذا الحديث نص على أن ميتة السمك طاهرة، فيكون دمها طاهراً.
النوع الثاني: من أنواع الدماء الطاهرة: دم ما لا نفس له سائلة:
وقولنا ما لا نفس له سائلة، ما لا نفس يعني ما لا دم له يسيل فقد يطلق على الدم نفس، وإطلاقه باعتبار أن الدم هو مصدر بقاء هذه النفس، ومثال ما لا دم له يسيل البعوض، الذباب، الخنفساء، العقرب.
فهذه لها دماء لكنها دماء لا تسيل ودليل هذه المسألة ما جاء في صحيح البخاري قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في إحد جناحيه داء وفي الآخر دواء))، وجاء عند أبي داود: ((فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء))، وجاء عند ابن ماجة: ((يقدم السم ويؤخر الشفاء))، ووجه الاستشهاد من هذا الحديث أن غمس الذباب يميته، وموته لم ينجس هذا الشراب فدل على أنه ميتته طاهرة، وهذا الذباب -كفوائد عرضية- قد قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الذباب كله في النار إلا النحل))، وذلك لتعذيب أهل النار بهذه الحشرات فإنها حشرات مؤذية كثيرة التناسل، ولذا عمرها ليس بطويل كما يقال وذلك لأنها تتوالد بأعداد هائلة فلو كانت أعمارها طويلة لحصل على الناس مشقة وعناء، ولذا هي أكثر الحشرات سفاداً أي جماعاً، ولما سأل مَلِكُ الإمام الشافعي - رحمه الله - فقال: ما الحكمة من خلق الذباب؟ لأن هذا الذباب قد آذى هذا الملك فنشأ عنده هذا السؤال، فلم يجد الإمام الشافعي - رحمه الله - جواباً في ذهنه، فاستحضر الصورة التي هو فيها فقال: "خلق الله - عز وجل - الذباب مذلة للملوك".
والعجيب كما ذكروا أن فضلته إذا وقعت على ثوب أبيض كان لونها أسود، وإذا وقعت على ثوب أسود كان لونها أبيض، وللذباب قصص ليس هذا موضع ذكرها فقيس على الذباب ما لا نفس له سائلة.
النوع الثالث من أنواع الدماء الطاهرة: الدم الذي يبقى في المذكاة:
والمذكاة هي الحيوان المأكول الذي يذكى بقطع ودجيه وحلقومه ومريئه على اختلاف بين العلماء في المجزئ من التذكية من الودجين والحلقوم والمريء، فهذه البهيمة إذا ذكيت فإن الدم يكون في لحمها دم خارج من العروق فحكم هذا الدم أنه طاهر حتى قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: ولو كثر، وقال: لا أعلم خلافاً في طهارته والدليل: "أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يضعون هذا اللحم في القدور فيرون لهذا الدم خطوطا في القدر ولم يغسلوه".
النوع الرابع من أنواع الدماء الطاهرة دم الشهيد:
والمراد بالشهيد هو المقتول في ساحة المعركة لرفع راية التوحيد؛ لأن الشهداء كثر كما عدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس المراد الكل وإنما المراد شهيد المعركة، والدليل على طهارته ما جاء في الثناء على هذا الدم قال - عليه الصلاة والسلام - كما عند البخاري: ((ما من مَكلوم يُكلم في سبيل الله -والله أعلم بمن يكلم في سبيله- إلا جاء يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح المسك))، فساق النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث في معرض التشريف والتكريم، ولا يحسن أن يساق النجس في هذا المقام فدل على طهارته.
النوع الخامس من أنواع الدماء الطاهرة دم الآدمي غير الشهيد على قول بعض العلماء:
وهذا يشير إلى أن دم غير الشهيد ليست مسألة وفاق، وإنما هي مسألة خلاف، ولذا فالجمهور يرون أنه نجس، ويفرقون بينه و بين دم الشهيد، ويستدلون بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث المستحاضة قال: ((اغسلي عنك الدم ثم صلي))، وقال - عليه الصلاة والسلام - في دم الحيض: ((تحته ثم تقرصه بالماء))، وقال بعض العلماء: إنه طاهر، ولا وجه لنجاسته ويستدلون بأدلة كثيرة من بينها:
أولا: أن الأصل براءة الذمة، وبراءة الذمة ترجع إلى أن الأصل في الأشياء الطهارة.
ثانيا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في الصحيحين: ((إن المؤمن لا ينجس))، وهذا شامل للحياة والموت، فإذا كانت ميتته طاهرة، فيكون دمه أولى كما قيل في دم السمك ودم ما لا نفس له سائلة.
ثالثا: أن الآدمي لو قطع منه عضو لكان حكمه عند الجمهور الطهارة مع أن هذا العضو مشتمل على دم فلماذا هذا التفريق ؟!
رابعا: أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يصلون بجراحاتهم ولو كان نجساً لما صلوا وهم متلبسون بهذا الدم، وسيأتي أدلة إن شاء الله عما وقع لبعض الصحابة في هذا الشأن، وهذا هو الراجح، وأما ما استدل به الجمهور إذا قالوا دم الآدمي غير الشهيد يقاس على دم الحيض والاستحاضة فهو قياس مع الفارق، وذلك أن دم الحيض والاستحاضة يخرجان من الفرج وهو أحد السبيلين بينما هذا الدم يخرج من غيرهما والدم الخارج من السبيلين دم نجس، ثم يقال لماذا تسامحتم في يسيره؟ فإما أن تقولوا بالتسامح في كثيره وقليله، أو تقولوا بعدم التسامح مطلقاً، أما ما جاء في سنن أبي داود قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف))، فلا يدل على نجاسة الدم، وإنما يدل على أن استمرار المصلي مع نزول هذا الدم فيه ضرر عليه، فأجاز الشرع قطع صلاته وليس في هذا الحديث ذكر للدم تصريحاً، وإنما فيه إشارة وذلك لأن النفس قد تأنف من أن تدع الصلاة مع وجود الحدث استحياء من الناس، فأرشد - عليه الصلاة والسلام - إلى هذه التورية؛ وذلك لأن الراعف لن يستمر في صلاته لأن في استمراره ضررا عليه.
الشق الثاني: وهي الدماء النجسة، ويندرج تحتها ما يأتي:
النوع الأول: الدم الخارج من السبيلين، والدليل ما ذكر آنفا قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((فاغسلي عنك الدم ثم صلي)).
النوع الثاني: دم الآدمي غير الشهيد، عند جمهور العلماء، وسبق الحديث عنه.
النوع الثالث: الدم المسفوح، وضابط الدم المسفوح هو الدم الذي يخرج من المذكاة إذا ذكيت بقطع حلقومها ومريئها وودجيها، والدليل قوله - تعالى -: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس)، وهذه الآية تقيد ما أطلق في النصوص الأخرى، قال - تعالى -: (حرمت عليكم الميتة والدم)، والدم المحرم هو الدم المسفوح.

النوع الرابع: دم الحيوان الذي لا يؤكل لحمه وليس من الطوافين علينا، وذلك كالأسد والفهد ونحوهما.
النوع الخامس: دم الحيوان الذي لا يؤكل لحمه وهو مما يطوف علينا كالهرة والحمار ونحوهما.
النوع السادس: دم الحيوان مأكول اللحم، أي في حال الحياة.