الوسطية والاعتدال في ضوء القرآن الكريم


الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر


في محاضرة للشيخ عبد الرزاق عبد المحسن البدر عن الوَسَطِيَّةِ وَالْاعْتِدَالِ فِي ضَوْءِ الْقُرْآن الْكَرِيم، بين فيها الشيخ أن القرآن كتاب الله -عز وجل- ووحيه وتنزيله، نزل هذا القرآن هدايةً للبشرية وصلاحًا للعباد وتحقيقًا لسعادتهم في دنياهم وأخراهم، فهو كتاب سعادة دنيوية وأخروية كما قال الله -سبحانه وتعالى- {طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}(طه:1-2) أي إنما أنزلناه عليك لتسعد ويسعد به من كان من أهله، {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}(طه:123).

وبين الشيخ أن في القرآن هداية لأقوم السُّبل وأكمل الطرق كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}(الإسرا ء:9-10) أي يهدي لأرشد السبل وأقومها وأصلحها وأنفعها للعباد وأبعدها عما فيه المضرة عليهم.

صراط مستقيم وحبل متين

وأضاف، القرآن صراط مستقيم وحبل متين، يوصِل المتمسك به إلى رضوان الله -عز وجل- وجنات النعيم، ولهذا لما سئل عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن الصراط المستقيم قال: «هو حبلٌ تركنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أدناه وطرفه الآخر في الجنة» فالقرآن حبل ممدود، إذا أمسك بهذا الحبل ولم يفرط فيه قاده إلى الجنة {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ}(الأع راف:170)، من كان متمسكًا بالقرآن عاملًا بالقرآن مهتدًيا بهدايات القرآن، يوصله إلى منازل الرضوان والفوز بالجنان والنجاة من سخط الرحمن.

خير أمة أخرجت للناس

وقد امتدح الله -سبحانه وتعالى- أمة القرآن (أمة محمد -[) بأنها خير أمة أخرجت للناس، وأنها أمة خيار عدول وسط، لا غلو فيهم ولا جفاء، لا إفراط فيهم ولا تفريط؛ وهذه الوسطية التي امتدحهم الله -سبحانه وتعالى- بها مردُّها إلى لزومهم صراط الله المستقيم وهديه القويم المبيَّن في كتابه العظيم القرآن الكريم، وتأمل في بيان ذلك قول الله -سبحانه وتعالى-: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}(البقرة :142)، تأمل الارتباط {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}؛ فإن قوله{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} عقب قوله {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يفيد أن هذه الوسطية التي امتدحهم الله -سبحانه وتعالى- بها، وأثنى عليهم بتحقيقها، مردُّها إلى لزومهم صراط الله المستقيم، فلا يميلون عنه يمينا ولا شمالا.

مثل واضح

وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الأمر مثلا واضحا بيِّنًا؛ حيث وضع - صلى الله عليه وسلم - إصبعه الشريف - صلى الله عليه وسلم - على الأرض، وخط خطا ممتدا مستقيما، ثم وضع إلى جنب هذا الخط خطوطا عن يمينه وعن شماله عديدة، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «هذا صراط الله المستقيم» وجاء في بعض روايات الحديث ووضع يده في الخط الوسط «ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ»، وقال هذا صراط الله المستقيم، وعلى جنبتيه سبُل، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، قال الله -سبحانه وتعالى- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153).

الصراط المستقيم هو القرآن

ثم أكد الشيخ البدر أن الصراط المستقيم هو القرآن، هو حبل الله المتين، وهو دين الله الذي رضيه -سبحانه وتعالى- لعباده ولا يرضى لهم دينًا سواه، قال الله -سبحانه-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}(الشو رى:52-53) ؛ فهذا الصراط المستقيم الذي رُسم لنا في القرآن وحُدَّت به حدوده وبُيِّنت معالمه، وأرسِيت قواعده، وذكرت ضوابطه، لا يكون المرء من أهله إلا بالاعتصام بهذا القرآن حبل الله المتين {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}(آل عمران:103)، فهلاك الناس في تفرقهم خروجًا عن هذا الصراط ذات اليمين وذات الشمال، وسعادتهم في هذه الوسطية بلزوم صراط الله المستقيم الذي خُطَّت لهم معالمه في كتاب الله، وذُكرت مناراته فيه وأعلامه البيِّنة؛ ليكون المرء على جادة سوية وعلى صراط مستقيم.

مثل عجيب جدًا

وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر أيضا في مثل آخر عظيم للغاية، ينبغي معاشر الكرام أن نعي هذا المثل تمامًا لعظيم فائدته وكبير عائدته، وهو مخرَّج في مسند الإمام أحمد وغيره بسند صحيح ثابت عن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ» أي جداران ممتدان بامتداد هذا الصراط، «فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ» أي أن الذي يمشي في هذا الصراط المستقيم عن يمينه وعن شماله أبواب عديدة كثيرة يمر بها وهو يمشي على هذا الصراط، «وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ» كل باب من هذه الأبواب عليه ستار مرخاة على هذا الباب، «وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَعُوجُوا» أي سيروا عليه سيرا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا انحراف، «وَدَاعٍ يَدْعُو من جوف الصراط في رواية مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ، قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ»، ثم بيَّن - صلى الله عليه وسلم - هذا المثل العظيم الذي ضربه الله لعباده؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أول الحديث «ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا» فمثل ضربه الله لعباده بيَّنه لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال - صلى الله عليه وسلم - في توضيح هذا المثل: «وَالصِّرَاطُ: الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ الذين على جنب الصراط : حُدُودُ اللهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ التي عليها ستور مرخاة: مَحَارِمُ اللهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللهِ، وَالدَّاعِي مِنِ فَوْقَ الصِّرَاطِ: وَاعِظُ اللهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ».

الوسطية والاعتدال

هذا مثل عجيب جدا يوضح لنا هذه الوسطية وهذا الاعتدال الذي يدعو إليه القرآن الكريم «دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَعُوجُوا» أي لا تنحرفوا عنه يمينا وشمالا، والسائر على الصراط يأتيه في الطريق مرات وكرَّات أبواب تفضي إلى الاعوجاج والانحراف عن الصراط، وهذه الأبواب ليس عليها كوالين وأقفال وإغلاق بإحكام، بل عليها ستار، الباب الذي عليه ستار لا يكلِّف الداخل شيئا، ولا يأخذ منه وقتا، يدفع الستار بطرف كتفه ويدخل، والطرق المعوجة المنحرفة قريبة من الإنسان ليست بعيدة عنه، لا يظن المرء أنها بعيدة بل يسأل الله أن يسلِّمه يارب سلِّم سلم، وإلا هي قريبة من الإنسان عن يمينه وعن شماله طوال سيره تعرِض له، وعليها ستور مرخاة وربما جر الإنسان إلى تلك الطرق المعوجة الفضول الذي هو في ابن آدم لا ينجو منه إلا القليل، يرى ماذا وراء هذا الستار ثم يفاجأ وإذا به قد دخل مع المنحرفين فيه وتورط مع الزائغين عياذا بالله -سبحانه وتعالى- من ذلك.
الوسطية في ضوء القرآن
ولهذا فإن أهم ما يكون في هذا الباب والحديث عن هذا الموضوع العظيم «الوسطية في ضوء القرآن» أن يزم المرء نفسه بزمام القرآن متمسكًا به، معتصمًا به، مهتديًا بهداياته، متعظًا بعظاته وعبره، ممتثلا أوامره، منتهيا عن نواهيه، واقفا عند حدوده، غير متجاوزٍ ولا متعدٍ، أن يكون فعلا من أهل هذا القرآن، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ» قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ، وَخَاصَّتُهُ»، أهل القرآن ليس مجرد كلام أو وصف يضاف إلى النفس أون إلى الغير، أهل القرآن بالعمل به، ولهذا جاء في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ» هكذا قال، فلا يكون المرء من أهل القرآن إلا بالعمل بالقرآن، قد يكون المرء حاملا للقرآن حِفظا أو كثرة قراءةٍ لكنه لا يعمل به؛ فيكون جافيًا أو يتجاوز حدوده فيكون غاليا؛ فلا يكون بذلك من أهله وإن حمله حفظًا وكثرة قراءة لايجاوز حناجرهم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخوارج: «تحقرون قراءتكم مع قراءتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم» ومعنى لا يجاوز تراقيهم أي أن حظهم من القرآن مخارج الصوت فقط ؛ لأن مخارج الصوت أقصاها الحروف الحلقية، فحظهم هو مخارج الصوت، أما حظ القلب من القرآن فهمًا واتعاظا واعتبارا وإيمانا وتحقيقا لهداية القرآن بعيدون عن ذلك يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وليست قراءتهم للقرآن قراءة قليلة بل هي قراءة كثيرة، لكن حظهم من هذه القراءة هو مخارج الصوت فقط (لا يجاوز تراقيهم) هكذا قال صلى الله عليه وسلم ، ومعنى لا يجاوز تراقيهم : أي حظهم منه هو في حدود مخارج الصوت فقط، أما الاهتداء به والعمل بهدايته والتدبر له والعقل لمعانيه فهم بعيدون عن ذلك، والقرآن إنما أنزل لتُتدبر آياته وليُهتدى بهداياته {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}(ص:2 9)، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(مح مد:24)، {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}(النساء :82)، {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ}(المؤم نون:66-68) أي القرآن، والمعنى أنهم لو تدبروا القول لسلِموا من النكوص على الأعقاب، فالقرآن يهدي للتي هي أقوم.