خطبة الحرم المكي - الطريق إلى الله


مجلة الفرقان

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 2 من ربيع الأول 1443 ه الموافق 8 أكتوبر 2021 لإمام الحرم المكي الشيخ أسامة خياط مبينةً أن الطريق إلى الله -تعالى- في الحقيقة واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلا لمن سلكه إليه وإلى رضوانه وجناته، كما قال -سبحانه-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

توحيد السبل

فوَحّد -سبحانه- سبيله؛ لأنه في نفسه واحد لا تعدد فيه، وجمع السُّبل المخالفة له؛ لأنها كثيرة متعددة كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده والدارمي في سننه بإسناد حسن عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خط خطاً مستقيما ثم قال: «هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه السبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}».

الطريق إلى الله واحد

فالطريق إلى الله واحد، وبيان ذلك كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: إنه -سبحانه- الحق المبين، والحق واحد، ومرجعه إلى واحد، وأما الضلال فلا ينحصر، ومن هنا يُعلم أن الشرائع مع تنوعها واختلافها ترجع كلها إلى دين واحد، مع وحدة المعبود ووحدة دينه، ومنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم -رحمهما الله- في صحيحيهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد». فأولاد العلات من كان والدهم واحد وأمهاتهم متعددة، فشبّه -صلوات الله وسلامه عليه- دين الأنبياء بالأب الواحد، وشبّه شرائعهم بالأمهات المتعددة؛ فإنها -أي هذه الشرائع- مرجعها لواحد.

أفضل الطرق الموصلة إلى الله

1- طريق العلم

وإذا تقرر هذا، فمن الناس من يكون العلم والتعليم سيد عمله، وطريقه إلى الله، قد وفّر عليه زمانه مبتغيا به وجه الله، فلا يزال كذلك عاكفا على طريق العلم والتعليم عاملا بما عَلِم، حتى يصل من تلك الطريق إلى الله، أو يموت في طريق طلبه؛ فيُرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته كما قال -سبحانه-: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا...}. ومن الناس من يكون الذكر وتلاوة القرآن سيد عمله والغالب على أوقاته، وقد جعله زاده لمعاده، ورأس ماله لمآله، فمتى فَتَرَ عنه أو قصّر رأى أنه قد غُبِن وخَسِر.

2- طريق الصلاة

ومن الناس من يكون سيد عمله الصلاة، فمتى قصّر في وِرد منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو غير مستعد لها، أظلَمَ عليه قلبه، وضاق صدره.

3- طريق الإحسان

ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي، كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان، وأنواع الصدقات، قد فُتِح له في هذا وسلك منه طريقه إلى ربه.

4- طريق الصوم

ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغيّر قلبه، وساءت حاله.

5- طريق الحج

ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ منه الحج والاعتمار.

السالك إلى الله في كل واد

ومنهم الجامع لتلك المنافذ، السالك إلى الله في كل واد، الكادح إليه من كل طريق، فهو قد جعل وظائف عبوديته قِبْلَة قلبه ونُصْب عينه، يؤمُّها أين كانت، ويسير معها حيث سارت، قد ضرب مع كل فريق بسهم. فأين كانت العبودية وجدْتَه، إن كان عِلم وجدته مع أهله، أو صلاة وجدته في القانتين، أو ذكر وجدته في الذاكرين، أو إحسان وجدته في زمرة المحسنين، أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين.

يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها

ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها

تمام المحبة

فهذا هو العبد السالك إلى ربه، النافذ إليه حقيقة نفوذًا يتصل به قلبه، ويتعلق به تعلق المحبوب تام المحبة بمحبوبه، حتى يسلو به عن جميع المطالب سواه. فلا يبقى في قلبه إلا محبة الله ومحبة أمره؛ فكان عاقبة ذلك أن قرّبه ربه واصطفاه، وأخذ بقلبه إليه وتولاه في أموره جميعها، في دينه ومعاشه، ومن ذاق شيئا من ذلك، وعرف طريقا موصلة إلى الله ثم تركها فحياته عجز وغم وحزن، وموته كدر وحسرة، ومعاده أسف وندامة؛ ذلك بأنه عرف طريقه إلى ربه ثم تركها ناكبا عنها، مُكبا على وجهه، فلو نال بعض حظوظه، وتلذذ براحاته فهو مقيد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد وميادين الأُنس ورياض المحبة وموائد القرب.

من غفل أعرض الله عنه

فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس في أعماله وأحواله؛ فالمحروم هو من عرف الطريق إليه ثم أعرض عنها، أو وجد بارقة من حبه ثم سُلِبها ولم ينفذ إلى ربه منها، وصدق -سبحانه-؛ إذ يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}.


محبة الله للعبد

إن الله إذا أقبل على عبده السالك إليه استنارت حياته، وأشرقت ظلماته، وظهر عليه آثار إقباله من بهجة الجلال ونضرة الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبعٌ لمولاهم -سبحانه-. فإذا أحب عبده أحبوه كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله -تعالى- إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله -تعالى- يحب فلانا فأحبوه؛ فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض».

ويجعل الله قلوب أوليائه تَفِد إليه بالود والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته ويُقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظ إليه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم؛ فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.