تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: العلم وأثره في تزكية النفوس

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي العلم وأثره في تزكية النفوس

    العلم وأثره في تزكية النفوس (1)


    الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر





    العلم نورٌ وضياء لصاحبه، وقد قال الله -تعالى-: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الش ورى:52)، فالعلم نُور يضيء لصاحبه الطريق، وتَستبين لصاحبه به الجَادّة؛ فيكون في سيره على نورٍ من ربّه، فلا تلتبس عليه السّبيل، والله يقول: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الملك:22)، ويقول: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} (الرعد/19)، ويقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر/9)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

    ولهذا كان التَوجيه لطلب العلم من أمارات الخير ودلائل الفلاح، ففي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، وفي حديث أبي الدرداء في المسند وغيره أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ؛ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ». والأحاديث في فضل العلم وبيان شرفه وعلو مكانته ورفيع منزلة أهله كثيرةٌ جداً، معلومةٌ لدى طلاب العلم وعموم الناس.

    القرب من العلم والجدية في تحصيله

    وكلَّما كان العبد قريباً من العلم، جاداً في تحصيله، مُبتغياً بذلك وجه ربّه -سبحانه وتعالى-، كان ذلك أمْكنَ له في تزكيتِه لنفسه ؛ لأنَّ النَّفس إنَّما تزكو بالعلم، ولا سبيل إلى تَزَكِّـيها إلا به، وقد قال الله -سبحانه وتعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} (الجمعة:2) أي أنّ التزكية التي تكون لهم إنّما تكون بتلاوة الآيات، ومعرفة وحي الله -جل وعلا- وتنزيله ودراسته ؛ فالوحي هو الذي به تتزكى النُّفوس، قال الله -تعالى-: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (الإسراء:9)، وقال -تعالى-: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } (الإسراء:82)، وقال -تعالى-: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (فصلت/44)، وقال -تعالى-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق:37)، وقال -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} (الأنبياء:45)، وقال -تعالى-: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (ق:45)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

    وعندما يقف المسلم على موضوع التزكية وجوانبِ هذا الموضوع الفسيحَة المباركة في ضوء الآيات والأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنّه يقف على قواعد متينة وتأصيلاتٍ جامعة ومعالم بيِّنة تُضيء للمرء طريقه في عمله على تزكِية نفسه.

    أعظم معْلمٍ وقاعدة

    وأعظم معْلمٍ وقاعدةٍ في هذا الباب العظيم المبارك: أنّ التزكية مِنّةٌ إلهية وهِبَةٌ ربانية ؛ فالله -عزّ و جل- هو الذي بيده الأمر، يزكِّي من يشاء، قال الله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (النساء:49)، وقال الله -تعالى-: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (النور:21)، وقال الله -تعالى-: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الحجرات:17)، ويقول الله -تعالى-: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحجرات:7-8)، والآيات في هذا المعنى كثيرة. ولقد كان الصحابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- يقولون في رجَزِهم:

    وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا

    وَلَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا

    أي أنّ المِنّة في ذلك كله لله وحده؛ فهو المانُّ والمتفضل، وهو -جلّ وعلا- الهادي من يشاء إلى صِراط مستقيم {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} (فاطر/8).

    خطبة الحاجة

    وقد كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يغرسُ هذا الأمر في نفوسِ الصحابة، ويؤكد عليه تأكيداً متكرراً، فكان يقول في خطبة الجمعة مُستهلاً لها بحمد الله: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» وهي تُعرف بخطبة الحاجة، جمعت قواعد الدين وثوابِت الشريعة وأُصول الشّرائع جـمعًا عجيباً، ولها تأثيرٌ بالغ فيمن يكرمه الله -سبحانه وتعالى- بفهم مضامينها ومعرفة دلالاتها.

    خطبة الحاجة سبب في هداية قومٍ بأكملهم

    ولقد كانت هذه الخطبة سببًا بِمَنّ الله -سبحانه وتعالى- وفضله لهداية قومٍ بأكملهم لدين الإسلام في قصةٍ عجيبة خرّجها الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، وهي قصة إسلام ضماد الأزدي - رضي الله عنه -، وذلك أنّ ضماداً كان في جاهليته راقياً يشتغل برقية الناس ومن كان منهم مصاباً بمسٍّ أو جنون أو نحو ذلك، وكان مُشتهرا بالرّقية، يقول: قدِمتُ مكة فكـنتُ كلما مررت بطريق في مكة سمعت «إنّ محمداً مجنون»، فقلت: إنَّي رجل راقٍ، وإنَّ الله شَفى على يديَّ من شاء من عباده، لـئِن لقيت هذا الرجل لأرْقِينَه لعل الله يشفيه على يدي، يقول ثم إنَّـني لقيت محمداً - أي النبي صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إنَّـني رجل راقٍ وإنّ الله شفى على يدي من شاء فهل لك في ذلك؟ - تحب أنْ أرقيك؟، يخاطب بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبب الدعاية الآثمة الكبيرة الواسعة التي تُحاك حوله - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله»، قال فقلت له: أعِـد عليّ كلامك هذا - أعجبه الكلام وأثّـر فِـيه - فأعاده النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ضمام فقلت له: لقد سمعتُ كلام السّحرة والكهنة وما هذا من كلامهم، وسمعتُ كلام المجانين وما هذا من كلامهم، سمعتُ كلام الشعراء ما هذا من كلامهم، ووالله إنّ كلامك هذا قد بلغ قاموس البحر - أعظم بحر، يعني كلمتك دخلت في الصميم - أعطني يدك أبايعك على الإسلام، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وعلى قومك؟» قال: وعلى قومي؛ لأنّه كان سيد قومه.

    فكانت هذه الخطبة سبباً لدخوله - رضي الله عنه - وقومه في هذا الدين العظيم المبارك؛ لأنها قائمة على ذِكر أصُولٍ عظيمة وقواعد متينة، من تدبّرها وأحسن تأملها نفعه الله -سبحانه وتعالى- بها نفعاً عظيما، ولها في موضوعنا هذا دلالاتٌ وهدايات في جوانب عديدة منها، جديرة بأن تُتأمل وتُـتَدبر، كقوله مثلا في هذه الخطبة: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا»، وقوله: «من يهده الله فلا مضل له»، وغيرها من ألفاظ هذه الخطبة العظيمة المباركة.

    الهداية والتزكية مِنّةٌ إلهية

    والشّاهد أنّ الهداية والتزكية مِنّةٌ إلهية ؛ فالرّب العظيم هو الهادي وهو -سبحانه وتعالى- الّـذي يزكي من يشاء، وهو الموفق لا شريك له -جل وعلا- ؛ وبهذا يُعلم أنّ أعظم أصلٍ في هذا الباب (باب التزكية) أنّها مِنّة إلهية لا يُلجأ في طلبها إلّا إلى الله -سبحانه وتعالى- الذي بيده أزمّة الأمور ؛ فيُحْسِن العبد صلته بالله، ويُحسن إقباله على الله، ويَصْدق مع الله -سبحانه وتعالى-، ويُحسن في سؤال ربه -جل وعلا- وطلبه ؛ طالباً منه الهداية والصّلاح والزّكاء، والله -عز وجل- لا يُخَيِبُ عبداً دعاه، ولا يرُدّ مؤمناً ناداه وهو القائل -سبحانه-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(الب قرة:186).


    مكانة الدعاء

    ثم إنّ هذا يبين لنا مكانة الدعاء في هذا الباب العظيم وفي كل باب، وقد قال أحد السلف: «تأملتُ الخير فإذا هو أبوابٌ عديدة، وتأملت فإذا ذلك كله بيد الله -عزّ وجل- فعلمتُ أنّ الدعاء مفتاح كل خير»، ولهذا جدير بالعبد المؤمن أنْ يكثِر الدُّعاء والسُّؤال والطلب والمناجاة لله -سبحانه وتعالى- أنْ يهديه، وأنْ يصلح قلبه، وأنْ يزكِّي نفسه، وأنْ يثبِّته على صراطه المستقيم، وأنْ يعيذه من سبيل الزّيغ، وألا يكِله إلى نفسه طرفة عين، إلى غير ذلكم من الدعوات المأثورة عن نبينا -عليه الصلاة و السلام.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: العلم وأثره في تزكية النفوس

    العلم وأثره في تزكية النفوس

    - تزكية النفس في ضوء القرآن والسنة (2)


    الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر

    ما زال الحديث مستمرًا حول العلم وأثره في تزكية النفوس، وقد ذكرنا في المقال السابق أن العلم نُور يضيء لصاحبه الطريق، وتَستبين لصاحبه به الجَادّة؛ فيكون في سيره على نورٍ من ربّه، فلا تلتبس عليه السّبيل، وقلنا: إنّ الهداية والتزكية مِنّةٌ إلهية؛ فالرّب العظيم هو الهادي وهو -سبحانه وتعالى- الّـذي يزكي من يشاء، وهو الموفق لا شريك له -جل وعلا-، ثم تكلمنا عن مكانة الدعاء في هذا الباب العظيم، ونستكمل ما بدأناه.

    التزكية في ضوء القرآن والسنة

    الحديث عن تزكية النّفس في ضوء دلالة الآيات والنصوص والأحاديث المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ واسع وله جوانب كثيرة جداً، وفي لقائنا هذا سأقف وقفات مع جوانب مهمة وقواعد عظيمة مستمدة من كتاب الله -عز وجل- وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم- كلها تدور حول فقه تزكية النّفوس.

    حقيقة النفس البشرية

    ونبدأ أولاً بحديث مختصر عن: النّفس البشرية ما هي؟ وما حقيقتها؟ وما صفاتها؟، ونقف أيضا في هذا الباب على بعض الأمثلة أو الأمثال العظيمة التي ضربها أهل العلم التي توضح ما يتعلق بالـنَّـفس البشرية، وكيف أنّ أمر تزكية النّفس يحتاج من العبد إلى معالجةٍ مستمرة، وعنايةٍ دائمة ورعايةٍ لهذه النّفس لكي لا تَنْفلِت وتضيع.

    ثلاثة أوصافٍ للنّفس

    وقد جاء في القرآن الكريم ذكر ثلاثة أوصافٍ للنّفس مشهورة معلومة: فوُصفت بالنّفس المطمئنة، ووُصفت بالنّفس الأمارة بالسوء، ووُصفت بالنّفس اللوامة، وهذه الصّفات ترجع إلى أحوالٍ تتعلق بالنّفس، ولها في كل حال من هذه الأحوال ما يُناسبها من وصف:

    - فإذا كانت نفس الإنسان اطمأنت بالإيمان وذكر الله وعبادته وحُسن الإقبال عليه، استحقت هذا الوصف (النفس المطمئنة)، قال -تعالى- {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ} (الرعد:28-29).

    - بينما إذا كانت هذه النّفس تستحِثُ صاحبها على فعل المحرمات وارتكاب الآثام، وتقُـوده إلى مواطن المنكرات ومواضع الرذيلة، وتدفعه إلى فعل القبائح والرذائل؛ فإنّها بهذه الحال نفسٌ (أمارة بالسوء).

    - بينما إذا كانت النّفس تلوم صاحبها - وهي (النّفس اللّوامة) - تلوم صاحبها على فعله لخطأ، أو تقصيره في واجب، أو تفريطه في طاعة؛ فهي نفس لوامة، وهذه صفةٌ لها أي أنَّها تلوم صاحبها، ولوم النفس لصاحبها أيضا على قسمين كما نبّه أهل العلم:

    1- قد تكون نفساً أمارةً بالسوء وتلوم صاحبها على عدم ازدياده مِن السُّوء وتماديه في الخطأ.

    2- وقِسم - ويتعلق بالنّفس المطمئنة - تلوم صاحبها على تفريطه وتقصيره وعدم ازدياده من الخير.

    أحوالٌ تتعلق بالنّفس

    فهذه الأوصاف الثلاثة للنّـفس «المطمئنة» و«الأمارة بالسُّوء» و«اللّوامة» أحوالٌ تتعلق بالنّفس، ولها من هذه الأوصاف بحسب حالها، ولهذا قد تكون النّفس في اليوم الواحد أو في السّاعة الواحدة مُتقلبة، وكل إنسانٍ يعلم ذلك من نفسه، وهذه التقلبات للنّفس راجعة إلى الواردات التّي ترد على النّفس، فالنّفس بتقلباتها بحسب الواردات التي ترد عليها، أرأيتُم أنّ الإنسان عندما يُكرمه الله -جلّ وعلا- بحضور مجلس ذكرٍ وحلْقة علمٍ ومكان وعظٍ وتذكيرٍ بالله -سبحانه وتعالى- كيف أنّ نفسه بسبب هذا الوارد ترتقي نحو الفضائل، وكيف أنّ نفسه تطمئن، حتى إنَّ كثيرا من الناس يحدِّث بذلك عن نفسه يقول: «والله إنّني إذا َدخلت المسجد وصلَّيت وسمعت العلم والتذكير بالله أجد طمأنينة، وأجد راحة، وأجد كذا إلى آخره» يُخبر بذلك عن نفسه، هذه الطمأنينة للنّفس حصلت بهذه الواردات المباركة التي هـيأَها الله -سبحانه وتعالى- لهذا الإنسان، بينما إذا ذهب الإنسان إلى الأماكن التي تثير في قلبه المحرم والرّذيلة والفاحشة والفساد يجِد أنَّ نفسه انتقلت إلى نفس أمارة بالسُّوء.

    محاسبة ومجاهدة

    وهذه المعاني تؤكد لنا أنَّ النفس تحتاج من العبد إلى محاسبة وإلى مجاهدة، وهذه المحاسبة والمجاهدة والمتابعة للنّفس هي نوع من الجهاد في سبيل الله، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في خطبته في حجة الوداع: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ»، ولا شك أنّ هذا جهاد، ولا شك أنّ النّفس تحتاج إلى جهاد وتحتاج إلى مُتابعة، وقد يجد الإنسان في بداية الأمر شيئا من المشقة وشيئا من الصعوبة، وإذا مضى مستعيناً بالله بلغ بإذنِ الله -سبحانه وتعالى- مبْلغاً عظيماً مباركاً في تزكيتهِ لنفسه.

    مثلان عظيمان

    ونعرض لكم مثلين عظيمين ضربهما عالمان جليلان لهما عناية دقيقة في هذا الباب؛ باب تزكية النّفس:

    - المثل الأول: للإمام الآجري -رحمه الله تعالى- ذكره في كتابه (أدب النُّفوس)، وإنّ كان صغير الحجم إلّا أنّه كبير الفائدة عظيم النفع.

    - والمثل الثاني: ضربه العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه (مدارج السالكين).

    النّفس كالمهرِ الحسن من الخَيل

    نقف أولاً مع المثل الذي ضَربه الإمام الآجري -رحمه الله-، وأُؤكد على التأمُلِ في المثل وفي مضامينه ودلالاته وأبعاده؛ لأن الأمثال مِن شأنِها تقريب المعاني وجعلها بمثابة الأشياء الملموسة المحسوسة، فيتضح الأمر تماماً، يقول الآجري -رحمه الله-: «وأنا أُمثِّل لك مثالاً لا يخفى عليك أمرها إن شاء الله- يعـني إذا تأملت المثل -، اعلم أنّ النّفس مثلها كمثل المهرِ الحسن من الخَيل، إذا نظر إليه النّاظر أعجبهُ حُسنه وبهاؤُه، فيقول أهل البصيرة به - يقولون لصاحب هذا المهر: لا يُنتفع بهذا حتى يُراض رياضة حسنةً ويؤدَّب أدباً حسناً، فحينئذ يُنتفع به فيصلح للطلَب والهرب، ويَحمَد راكبه عواقبَ تأديبه ورياضته، فإن لم يُؤدَّب لم يُنتفع بحسنه ولا ببهائه ولا يَحمَد راكبه عواقبَه عند الحاجة، فإن قبِل صاحب هذا المهر قول أهل النصيحة والبصيرة به علِم أنّ هذا قولٌ صحيح فدفعه إلى رائضٍ فراضه، ثم لا يصلح أنْ يكون الرائض إلا عالماً بالرياضة، معه صبر على ما معه من علْم الرياضة، فإنْ كان معه علمٌ بالرياضة ونصيحة انتفع به صاحبه، فإن كان الرائض لا معرفة معه بالرياضة ولا علم بأدب الخيل أفسد هذا المهر وأتعب نفسه ولم يَحمَد راكبُه عواقبه، وإنْ كان الرائض معه معرفة بالرياضة والأدب بالخيل إلّا أنّه مع معرفته لم يصبر على مشقة الرياضة، وأحبَّ الترفيه لنفسه وتوانى عما وجَب عليه من النّصيحة في الرياضة أفسد هذا المهر، وأساء إليه، ولم يصلح للطلب ولا للهرب، وكان له منْظر بلا مَخْبَر، فإن كان مالكه هو الرائض له ندم على توانيه يوم لا ينفع الندم، وحين نظر إلى غيره في وقت الطلب قد طلب فأدرك وفي وقت الهرب قد هرب فسَلِم، وطلب هو فلم يُدرِك وهرب فلم يسْلم، كل ذلك بتَوانيه وقلة صبره بعد معرفته منه، ثم أقبل على نفسه يلُومها ويُوبخها فيقول: لمَ فرطتِ؟ لمَ قصَّرتِ؟ لقد عاد علي من قلة صبري كل ما أكره، والله المستعان، اعقلوا رحمكم الله هذا المثل وتفقهوا به تُفلحوا وتنجحوا». ثم نقل رحمه الله عن وهب بن منبّه - وهو من علماء التابعين - قال: «النّفس كنفوس الدّواب، والإيمان قائد، والعمل سائق، والنّفس حَـرون، فإن فتر قائدُها حرنَت على سائقها، وإن فَتَر سائقها ضلَّت على الطريق».

    هذا المثل الأول وهو للإمام الآجري -رحمه الله تعالى- ويوضح أنّ النّفس البشرية تحتاج من صاحبها إلى رياضة وصبرٍ عليها، وأنْ يكون على علم بالأمور التي تُصلح النّفس وتزكِّيها في ضوء دلائل كتاب الله عـز وجل وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأنّ الإنسان إنْ فرَّط في هذا الجانب سيندم في نهاية المطاف غاية الندم.

    النّفس جبلٌ عظيمٌ

    والمثل الثاني للإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- أورده في كتابه مدارج السالكين فقال -رحمه الله-: «النّفس جبلٌ عظيمٌ شاقٌ في طريق السّير إلى الله تعالى، وكل سائر لا طريق له إلاّ على ذلك الجبل؛ فلا بُد أن ينتهي إليه، ولكن منهم - أي من النّاس - من هو شاقٌ عليه، ومنهم من هو سهلٌ عليه وإنَّه ليسيرٌ على من يسره الله عليه، وفي ذلك الجبل أودية وشُعوب وعَقبات ووهُـود وشوك وعوسَج وعُـلَّيْـق وشِبرق ولصوص يقطعون الطريق على السائرين ولاسيما أهل الّليل المدلجين، فإذا لم يكن معهم عُـدَدُ الإيمان ومصابيح اليقين تَتَّـقِد بزيت الإخبات، وإلا تعلقت بهم تلك الموانع وتشبَّثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السّير، فإنَّ أكثر السّائرين فيه رجعوا على أعقابهم لمّا عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته، والشّيطان على قُـلَّـة ذلك الجبل - أي على أعلاه - يُحذرُ النّاس من صعوده وارتفاعه ويُخوِّفهم منه، فيتـفِق مشقة الصعود وقُعود ذلك المخوِّف على قُـلّـتِه، وضَعف عزيمة السّائر ونيته، فيتولد من ذلك الانقطاع والرّجوع، والمعصوم من عصمَه الله».


    هذا المثل وكذلك المثل الذي قبله يُبين لنا حال النّفس، وأن النّفس البشرية تحتاج من صاحبها إلى تعاهد وإلى مُتابعة وإلى مُعالجة وإلى مُداواة وإلى رعاية، فإنْ لم يتابعها، إنْ لم يُراقبها، إنْ لم يجاهدها تنفلت منه وتضيع، ومِن الخير للإنسان أن يُحاسب نفسه ما دام في دار المهلة ودار العمل قبل أنْ يُحاسبه ربّ العالمين في دار الجزاء يوم القيامة، ولهذا جاء عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنّه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الاكبر، يوم تعرضون لا يخفي منكم خافية».

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: العلم وأثره في تزكية النفوس

    العلم وأثره في تزكية النفوس

    - تزكية النفس في ضوء القرآن والسنة (3)



    الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر





    كثرت النُّـقول عن السلف -رحمهم الله تعالى- في الحث على مُحاسبة النّفس ومعاتبتها ومداواتها:

    يقول الحسن البصري -رحمه الله-: «إنّ العـبد لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته». وقال ميمون بن مهران: «لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشدَّ المحاسبة من الشريك لشريكه، ولهذا قيل: النّفس كالشريك الخوان إن لم تحاسبه ذهب بمالك».

    وقال الحسن -رحمه الله-: «المؤمن قوَّام على نفسه يحاسب نفسه، وإنَّما خفَّ الحسابُ يوم القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنّما شقّ الحساب يوم القيامة على قومٍ أخذوا هذا الأمر من غير مُحاسبة، إنَّ المؤمن يفاجئُه الشيء ويعجبه فيقول: «والله إنِّي لأشتهيك وإنّـك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات! حِيل بيني وبينك، ويقرب منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردتِ إلى هذا؟ مالي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً. إنَّ المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم. إنَّ المؤمن أسيٌر في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله، يعلم أنَّه مأخوذٌ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله».

    تزكية النفس

    والآثار عن السّلف -رحمهم الله تعالى- في هذا المعـنى كثيرة. ويَتأكد هذا المقام (مقام تزكية النّـفس) في مثل الأزمنة التي تكثر فيها الفتن والصّوارف التي تصرف الإنسان عن الخير، وتشغله بما يسخط الله -تبارك وتعالى- ويُغضبه، وإذا كان عبد الله بن المبارك وهو من علماء التابعين يقول -رحمه الله تعالى- في زمانه: «إنَّ الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفواً، وإنَّ أنفسنا لا تكاد تواتينا إلّا على كرهٍ، فينبغي لنا أنْ نُكرِهها»، إذا كان ذلك يقوله -رحمه الله تعالى- في ذلك الزمان، فكيف إذاً بالأزمنة المتأخرة؟! مع كثرة الفتن وكثرة الصّوارف وكثرة الشّواغل التي تُلهي الإنسان وتصرفه عن الخير، وتصرفه عما يُقرِّب إلى الله -تبارك تعالى- ويُدني منه -سبحانه.

    أيُّها الإخوة الكرام: نأتي بعد هذا إلى الحديث عن حقيقة تزكية النّفس، وما الأمور التي تزكو بها النّفس البشرية؟ ويُمكنُ إجمال ذلك أيُّها الإخوة الكرام في أمورٍ ثلاثة:

    - الأمر الأول: وهو أساس تزكية النّفس، ولا زكاء لنفسٍ إلّا إذا قامت عليه وتأسست عليه ألا وهو: الإيمان بالله وتوحيده -سبحانه وتعالى- وإخلاص الدِّين له، ألا وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلّا الله بما تعنيه هذه الكلمة من توحيد وإخلاص وإفراد لله -سبحانه وتعالى- بالذّل والخضوع والمحبة والامتثال وأنواع العبادة، وهذا أساس تزكية النفس.

    والنفس بأعمالها الصالحة وطاعاتها الزَاكية مَثلها مَثل شجرةٍ مُباركة، ومن المعلوم أنَّ الأشجار لا قيام لها إلّا على أصُولها، وقد قال الله -تعالى- في سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}؛ وبهذا يُعلم أنَّ تزكية النّفس له أساس لا تقوم التزكية إلا عليه، وهو توحيد الله وإخلاصُ الدّين له -جل وعلا-، قال الله -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس:9-10)، وقال الله -تعالى-: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (فصلت:6-7)، قال ابن عباس: لا يشهدون أنَّ لا إله إلا الله. وقال مجاهد: لا يزكون أعمالهم أي: ليست زاكية. وقيل: لا يُطهرونها بالإخلاص، كأنّه أراد والله أعلم أهل الرِّياء فإنَّه شِرك. وقال الله -سبحانه وتعالى- في قصة موسى مع فرعون: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} (النازعات:18) أي بالإخلاص والتوحيد لله -جل وعلا.

    فالتّزكية شجرةٌ مباركة عظيمة الثَمر، كبيرة الأثر، لها أصل لا قيام لها إلّا عليه، ألا وهو: توحيد الله -عز وجل- وإخلاص الدين له -سبحانه وتعالى-، وكُـلما كان هذا التوحيد والإخلاص والإيمان بالله مُتمكناً من القلب كان هذا أبلغ في نَماء هذه الشّجرة، وكونها مُثمرةً أطايب الثَمر ولذيذه وحسَنه ونافعه.

    جوانب تزكية النفس

    - الأمر الثاني من جوانب تزكية النّفس: تزكيتها بفرائض الإسلام وواجبات الدّين وحُسن التّـقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- بفعل ما أمر، وترك ما نهى عنه -تبارك وتعالى- وزجـر.

    ولهذا ينبغي أنْ يُعلَم أنّ التزكية لها جانبان لا تكون إلّا بهما، يدُل عليهما أصل هذه الكلمة اللُّغوي، وأيضاً دلالة هذه الكلمة في نصوص الشرع، وإذا نظرنا في كتب اللّغة في معنى التّزكية ومدلولها نجِد أنَّ لها جانبين من معاني التزكية وهما: الطهارة والنّماء؛ فالتزكية: طهارة ونماء، ولهذا يُقال: زكا الزّرع إذا طاب وزالت عنه المؤذيات التي تُضعِف نماءَه. وتُسمى الصدقة المفروضة زكاة؛ لأّنها تُطهر المال {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة:103)، ولأنَّها أيضاً في الوقت نفسه سببٌ لنماء المال، فالتزكية طهارة وفي الوقت نفسه نماء، طهارة بالبُعد عن الأعمال المحرمة والمعاصي والآثام، ونماءٌ بفعل الطاعات والعبادات المقرِّبة إلى الله -سبحانه وتعالى.

    وعليه - أيّها الإخوة - فإنّ التّـزكية لابد فيها من فعل الأوامر التي فرضها الله -سبحانه وتعالى- على عباده وأوجبها عليهم، ولابد أيضاً في الوقت نفسه من البُعد عن النّواهي والآثام، ففِعْل الأمر تزكية، وترك النَّهي أيضاً تزكية، فالتزكية تخْليةٌ وتحلية، تخليةٌ للنّفس بإبعادها عن الرذائل والخسائس، وتحليةٌ لها بفعل الأوامر والطاعات المقربة إلى الله -سبحانه.

    - فالصّلاة تزكية، قد قال الله -عز وجل-: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت:45)، وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا».

    - الزكاة تزكية {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}.

    - والصيام تزكية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183).

    - الحج تزكية.

    -الطاعات جميعها التي أمر الله -عزّ وجل- عباده بها كُـلها داخلة في هذا الباب (باب تزكية النَّفس)؛ ولهذا قال الله -تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى:14-15).

    - الذّكر تزكيةٌ للنَّفس، بل هو أعظم باب تزكو به النُّفوس، وتتطهر به القلوب وتطمئن، وكم للأذكار المشروعة من الآثار المباركة على أهلها في الدنيا والآخرة من تطهيرٍ وتنقيةٍ للنّفس من أدرانها وتفريطها وتقصيرها، والحديث في هذا الجانب قد يطول، لكـنني أكتفي بمَثلٍ واحد في هذا الباب من السنة وهو ما رواه الترمذي في جامعه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ - وكان مع أصحابه - بشجرة يابسة الورق، وبيده - صلى الله عليه وسلم - عصا، فضرب الشّجرة بالعصا التي بيده فأخذ الورق يتناثر ويتساقط من تلك الشجرة، فقال - صلى الله عليه وسلم - للصحابة وهم ينظرون في هذا الورق يتساقط من هذه الشّجرة: «إِنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لَتُسَاقِطُ مِنْ ذُنُوبِ الْعَبْدِ كَمَا تَسَاقَطَ وَرَقُ هَذِهِ الشَّجَرَةِ»؛ فذِكر الله -عز وجل- تزكية للنُّفوس وطهارة لها.

    - وعُـموم الطاعات والعبادات المقرِّبة إلى الله -جل وعلا- كلّها داخلة في هذا الباب (باب تزكية النفس).

    - كذلك ترك النواهي والمحرمات واجتنابُ الكبائر والموبقات بابٌ مهم للغاية في تزكية النّفس، فإذا غـشي العبد الحرام، وارتكب الآثام، يكون بذلك دنّس نفسه ودسّاها وحقّرها بحسب فِعله لتلك المحرمات وارتكابه لتلك الآثام، وفي هذا تأمل قول الله -سبحانه-: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون} (النور:30). فالبُعد عن المحرمات واجتناب الكبائر والآثام كل ذلكم -أيّها الإخوة الكرام - داخل في باب تزكية النّفس. في هذا المعنى أيضا قول الله -تعالى-: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (النور:28).

    التزكية بالرغائب والمستحبات

    - الأمر الثالث في باب تزكية النّفس: تزكيتها بفعل الرّغائب والمستحبات، وهذه مرحلة تأتي بعد مرحلة الفرائض، في الحديث القدسي يقول الله -تعالى-: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» .


    فهذه مجالات التزكية وجوانبها وهي تتلخص في أمور ثلاثة:

    - الأول الأصل: وهو توحيد الله والإيمان به وبكل ما أمر -سبحانه وتعالى- عباده بالإيمان به.

    - والثاني: تزكيتها بفعل الفرائض والواجبات وترك الكبائر والمحرمات.

    - والثالث: تزكيتُها بفعل الرّغائب والنّوافل والمستحبات.






    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,462

    افتراضي رد: العلم وأثره في تزكية النفوس

    العلم وأثره في تزكية النفوس

    - تزكية النفس في ضوء القرآن والسنة (4)


    الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر


    تزكية النُّـفوس - كما يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه (مدارج السالكين) - أمرُها مُسلَّمٌ إلى الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، وإنّما بعثهم الله بهذه التزكية وولاهم إيّاها، وجعلها على أيديهم دعوةً وتعليماً وبياناً وإرشاداً لا خَلْقاً ولا إلهاماً، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم. قال الله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}(الجمعة:2 )، وقال -تعالى-: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}(الب قرة:151).
    ميزان دقيق
    يقول سفيان ابن عيينه -رحمه الله-: «إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الميزان الأكبر وعليه تُعرض الأشياء على خُلُقه وسيرته وهدْيه، فما وافقها هو الحق، وما خالفها هو الباطل»، هذا - أيّها الإخوة - ميزان دقيق ومهمٌّ للغاية في باب تزكية النّفس، تزكية النَّـفس ليس أمراً مُسلّما للإنسان يزكي نفسه بأي طريقة شاء وبأي سبيل أراد، لا؛ بل لابد في باب تزكية النّفس من وزنِ الأعمال بما جاء عن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، فَخلُقه وسيرته وهديه - صلى الله عليه وسلم - مِيزان تُعرض عليه الأعمال وتُقاس عليه الأمور، وليس للإنسان أنْ يتخِذَ لنفسه ما شاء من الأمور أو الوسائل التي يزعُم أنّها تُـزكي نفسه، ولهذا يقول ابن القيم -رحمه الله-: «تزكية النُّفوس أصعب من علاج الأبدان وأشـد، فمن زكّي نفسه بالرياضة والمجاهدة والخَلوة التي لم يجئ بها الرسل - يعني جاء بأعمال وطرق يزعم أنّها تزكي النّـفس لكن لم تأتِ عن الرسل عليهم الصلاة والسلام - هو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب ؟ فالرّسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلّا من طريقهم وعلى أيديهم وبمحض الانقياد والتسليم لهم والله المستعان».
    لا إفراط ولا تفريط
    بعض النَّاس يظن في هذا الباب أنَّ التزكية تكون بالتّشديد على النَّفس والقسوة عليها وحرمان النَّفس من حقُـوقها التي فطر الله -سبحانه وتعالى- النّفوس على الاحتياج إليها، قد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ»، فبعض النَّاس يظن أنَّ تزكيته لنفسه تكون بحرمان النَّفس من حقوقها المباحة، أو بالقسوة على النَّفس والشّدة عليها، أو بالرّعونة ونحو ذلك من التّصرُفات التي يظن أنّه بمثل هذه المسالك يزكّي نفسه، وهيهات أن تكون تزكية النَّـفس بمثل ذلك؛ فتزكية النَّفس لا تكون بالإفراط ولا بالتفريط، ولا تكون بالزيادة ولا بالتقصير، بل تكون بالتّـوسط والاعتدال وذلك بلزوم هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ونهجِه القويم - صلى الله عليه وسلم .
    فلا بُـد من الوسطية والاعتدال في باب تزكية النَّـفس، لأن تزكية النَّـفس مطلوبٌ للجميع، لكن تتفاوت في المسالك: فمن النّـاس من يريد أن يزكي نفسه بالتّشديد والتعسير والقسوة على النّفس وفي الحديث: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا»، ومن النّاس من يزكّي نفسه بوسائل وطرائق لا أصل لها ولا أساس، فالنّاس في هذا الباب بين إفراطٍ وتفريط، وخِيارُ الأمور أوساطُها؛ لا تفريطها ولا إفراطها.
    يقول ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين: «فإنَّ النّفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخُلُقين الذميمين ولابُد؛ فإذا انحرفت عن خلق التواضع: انحرفت إما إلى كِبر وعلو، وإما إلى ذلّ ومهانة وحقارة. وإذا انحرفت عن خُلق الحياء انحرفت إمّا إلى قِحَةٍ وجُرأة، وإمّا إلى عجـزٍ وخور ومهانة. وكذلك إذا انحرفت عن خُلق الصبر المحمود انحرفت إمّا إلى جزعٍ وهلع، وإمّا إلى غلظة كبد وقسوة قلب وتحجّـر طبع. وإذا انحرفت عن خُلق الحلم انحرفت إمّا إلى طيش أو إلى مهانة وحقارة. وإذا انحرفت عن خُلق الأناة والرفق انحرفت إمّا إلى عجلة وطيش وعنف، أو إلى تفريطٍ وإضاعة. وإذا انحرفت عن خُلق العزة التي وهبها الله لأهل الإيمان انحرفت إمّا إلى كِبرٍ وإمّا إلى ذُل. وإذا انحرفت عن خلق الشّجاعة انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود أو إلى جُبن وتأخُّر مذموم «؛ وهكذا نجد أنَّ النّفس إذا خرجت في باب التزكية عن حدّ الاعتدال والتّـوسط الذي كان عليه نبينا - صلى الله عليه وسلم - تنحرف إلى جانبين كلاهما مذموم، وخِيار الأمور أوساطها؛ لا تفريطها ولا إفراطها.
    الحنيفية السمحة
    ويجب أنْ يُعلم في هذا الباب: أنَّ خير العمل ما كان لله أطوع ولصاحبه أنفع، وقد يكون ذلك أيسر العملين وقد يكون أشدهُما، فليس كل شديد فاضلاً، ولا كل يسير مفضولاً، بل الشرع إذا أمَرَنا بأمر شديد فإننا نأمر به بما فيه من المنفعة لا لمجرد تعذيب النّفس، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ««إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»، وقال لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ».
    والشيطان له مداخل في هذا الباب؛ عندما يرى الإنسان قد أقـبل على تزكية النّـفس إمّا أنْ يُدخله في باب تشديدٍ وتعسيرٍ على النَّفس بترك المباحات وتعذيب النفس بقلة المطعم، لبس البدن، المنع من المباحات، أو ينقل الإنسان نقلةً أخرى بعيداً يحرفه من خلالها عن الصواب والسداد. والواجب على المسلم في هذا الباب (باب تزكية النّفس) وفي كل بابٍ أنْ يُلزم نفسه بشرع الله ودينه الثّابت عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأنْ يحذر من كلِ طريقٍ وسبيل لا أصل له في شرع الله -عز وجل.
    الذكر الدائم
    يَحتاج العبد في هذا المقام (مقامِ تزكية النّـفس) إلى أمرٍ مهم للغاية لابد من التأكيد عليه وهو: أنْ يكون على ذكرٍ دائم للوقوف بين يدي الله والمجازاة والمحاسبة، قد قال الله -عـزّ وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (الحشر:18)، وقال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} (التحريم:6)، ومن أواخر ما نزل على نبينا - صلى الله عليه وسلم - قول الله -تعالى-: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} (البقرة:281)، وفي الحديث وفي سنده مقال ولكن معناه صحيح لا ريب في صحة معناه: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني». الكيّس: أي اللّبيب الفطِن الذي يحاسب نفسه ويُعِـدّها لما بعد الموت، يُعدُّها للقاء الله -سبحانه وتعالى-، والعاجز من أتْبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
    الهداية منة من الله
    - ثُمّ أمرٌ أخير أختم به ألا وهو: ينبغي على من أكرمَه الله -عزّ وجل- بالاستقامة ووفَّقه للرّعاية لنفسه والعناية بها أن يذكُر دائماً أن هذا محضُ فضل الله عليه ومَـنِّه -سبحانه وتعالى-، وأنّه لولا فضل الله عليه لما استقام ولَمَا اهتدى؛ فيحذر في هذا المقام من أن ينظر إلى نفسه نظر الإعجاب أو الثناء على نفسه أو التزكّية لها، والله يقول: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم:32)، ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (النساء:49)، فإذا أكرم الله -سبحانه وتعالى- عبده ووفقه لسلوكِ طريق الهِداية ولزوم سبيل الاستقامة فعليه أنْ يذكر أنَّ هذا محضُ فضل الله ومنّه عليه؛ فلا ينظر إلى نفسه نظر إعجاب بل يكونُ حامداً شاكراً مُثنياً على مولاه -سبحانه وتعالى-، وقد ذكر الله -جل وعلا- في صفات المؤمنين الكُمَّل فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (المؤمنون:60) أي: يقدِّمون ما يقدِّمون من طاعات وعبادات وقلوبهم خائفة، قد جاء في المسند أن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن معنى هذه الآية الكريمة وقالت: «يا رسول الله، أَهُوَ الَّذِي يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ قَالَ لَا يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيُصَلِّي وَهُوَ يَخَافُ أَلَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ»، ولهذا قال الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: «إنَّ المؤمن جمَع بين إحسانٍ ومَخافة، والمنافق جَمع بين إساءةٍ وأمْن»، المؤمن يحسِن في العمل ويخاف، والمنافق يسيء في العمل وآمِن».

    فالواجب على المسلم أنْ يُجاهد نفسه على تقوى الله -سبحانه وتعالى- ونيل رضاه، وأنْ ينظر إلى نفسه دائماً نظـر التقصير والتفريط، ويلُـوم نفسه على تقصيرها وتفريطها، ويجاهد نفسه على البعد عن الذّنوب والآثام التي تحرِمه من الخير وتحُـول بينه وبين نيل الفضائل والخيرات والبركات في الدنيا والآخرة، ويكُون مُقبلاً على ربّهِ -سبحانه- يرجو رحمته ويخاف عذابه {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء:57).

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •