وقولُه: (وَلا يَسلُبونَ الفاسِقَ الملِّيَّ الإسلامَ بالكُلِّيَّةِ، ولا يُخلِّدُونه في النَّارِ كما تقولُه المعتزلِةُ) أيْ: ومِن أصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّهم (لا يَسلُبون) أيْ: لا يَنْفُونَ عن (الفاسِقِ) الفِسقُ: هُوَ الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ، والمرادُ بالفاسِقِ هنا الذي يَرتكِبُ بعضَ الكبائِرِ كشُربِ الخمرِ والزِّنا والسَّرِقةِ، مع اعتقادِ حُرمةِ ذَلِكَ. (الملِّيِّ) أيْ: الذي على مِلَّةِ الإسلامِ، ولم يَرتكِبْ مِن الذُّنوبِ ما يُوجِبُ كُفرَه، فأهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ لا يَسلُبونَه الإسلامَ بالكلِّيَّةِ، فيَحكمونَ عليه بالكفرِ، كما تقولُه الخوارجُ في الدُّنيا. (ولا يُخَلِّدُونَه في النَّارِ) أيْ: يَحكمونَ عليه بالخُلودِ في النَّارِ في الآخرةِ، وعدمِ خروجِه منها إذا دخَلَها (كما تقولُه المعتزِلةُ) والخوارِجُ،
فالمعتزلِةُ يَروْنَ أنَّ الفاسِقَ لا يُسمَّى مسلِماً ولا كافِراً بل هُوَ عندهم بالمَنْزِلةِ بَيْنَ المَنْزِلَتَيْن ِ هَذَا حُكمُه عندهم في الدُّنيا، وأمَّا حُكمُه عندهم في الآخرةِ فَهُوَ مخلَّدٌ في النَّارِ. والأدلَّةُ على بُطلانِ هَذَا المذهبِ كثيرةٌ، وقد مَرَّ بعضُها، وسيأتي ذِكْرُ بَقِيَّتِها.

ثم بيَّنَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ الحُكمَ الصَّحيحَ الذي يَنطبِقُ على الفاسِقِ الملِّيِّ مؤيَّداً بأدِلَّتِه مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ، فقال: (بل الفاسِقُ يدخُلُ في اسمِ الإيمانِ المطلَقِ) أيْ: مطلَقِ الإيمانِ الذي يدخُلُ فيه الإيمانُ الكامِلُ والإيمانُ النَّاقِصُ، كما في قولِه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمنَةٍ} فإنَّ مَن أعتَقَ رقبةً مؤمنةً، وإنْ كان المُعْتَقُ فاسِقا، فيما يُشترَطُ فيه إيمانُ الرَّقبةِ المعتَقةِ, ككفَّارةِ الظِّهارِ والقتلِ، أجْزَأه ذَلِكَ العِتقُ باتِّفاقِ العُلماءِ؛ لأنَّ ذَلِكَ يدْخُلُ في عمومِ الآيةِ، وإنْ لم يكُنْ المُعتِقُ مِن أهلِ الإيمانِ الكامِلِ.

وقولُه: (وقد لا يدخُلُ) أيْ: الفاسِقُ الملِّيُّ (في اسمِ الإيمانِ المطلَقِ) أي إذا أُريدَ بالإيمانِ الإيمانُ الكامِلُ، كما في قولِه تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآيةَ؛ لأنَّ المرادَ بالإيمانِ المذكورِ في الآيةِ الكريمةِ الإيمانُ الكاملُ، فلا يدخُلُ فيه الفاسقُ؛ لأنَّ إيمانَه ناقصٌ. ولنَرْجِعْ إلى تفسيرِ الآيةِ الكريمةِ: {إنما} أداةُ حَصْرٍ تُثْبتُ الحُكمَ للمَذكورِ وتَنفِيه عمَّا سِواه {الْمُؤْمِنُونَ} أي الإيمانَ الكاملَ {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} أيْ: ذُكِرَتْ عظمَتُه وقُدرَتُه وما خوَّفَ به مَن عَصاهُ {وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: خافَتْ {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} أيْ: قُرئَتْ آياتُه المنزَّلَةُ أو ذُكِرَتْ آياتُه الكونيَّةُ {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} أي زادَ إيمانُهم بسببِ ذَلِكَ {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أيْ: يُفَوِّضونَ جميعَ أمُورِهم إليه لا إلى غيرِه.

ثم ذَكَرَ الشَّيخُ دليلاً مِن السُّنَّةِ على أنَّ الفاسِقَ المِلِّيَّ لا يدخُلُ في اسمِ الإيمانِ الكاملِ، وَهُوَ قولُه صلى اللهُ عليه وسلم
((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ.. الخ)) أيْ كامِلُ الإيمانِ، فالمَنفِيُّ هنا عن الزَّانِي والسَّارِقِ والشَّارِبِ هُوَ كمالُ الإيمانِ لا جميعُ الإيمانِ، بدليلِ الإجماعِ على تَورِيثِ الزَّاني والسَّارِقِ وشَارِبِ الخمرِ. فقد دَلَّ الحديثُ على أنَّ هؤلاءِ حين فِعلِهم المعصيةَ قد انْتَفى الإيمانُ الكاملُ عنهم، وقد دلَّت النُّصوصُ الكثيرةُ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ على أنَّهم غيرُ مرتَدِّينَ بذَلِكَ، فعُلِمَ أنَّ الإيمانَ المنفِيَّ في هَذَا الحديثِ إنَّما هُوَ كمالُ الإيمانِ الواجِبِ.
وقولُه: ((وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ..الخ)) النُّهْبَةُ بضَمِّ النُّونِ هِيَ الشَّيءُ المَنْهوبُ ـ والنَّهْبُ: أخذُ المالِ بالغلَبةِ والقهْرِ ((ذَاتَ شَرَفٍ)) أي قَدْرٍ، وقيل: ذاتَ استِشرافٍ يَستشرِفُ النَّاسُ إليها ناظرِينَ إليها رافِعينَ أبصارَهم.

ثم إنَّ الشَّيخَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ النَّتيجةَ للبحثِ السَّابقِ، واستخلَصَ الحُكمَ بقولِه في حقِّ الفاسِقِ المِلِّيِّ:
(ونقولُ: هُوَ مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ أو مؤمنٌ بإيمانِه فاسقٌ بكَبيرَتِه) وهَذَا هُوَ الحُكمُ العادِلُ جَمْعاً بَيْنَ النُّصوصِ التي نَفَتِ الإيمانَ عنه كحديثِ: ((لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)) والنُّصوصِ التي أَثبتَت الإيمانَ له؛ كآيةِ القِصاصِ، وآيةِ حُكمِ البُغاةِ السَّابِقتَيْنِ ، وبِناءً على ذَلِكَ (فلا يُعطَى الاسمَ المطْلَقَ) أي، اسمَ الإيمانِ الكاملِ (ولا يُسلَبُ مطلَقَ الاسمِ) أي: الإيمانَ النَّاقِصَ. فيُحكمُ عليه بالخروجِ مِن الإيمانِ كما تقولُه المعتزِلةُ والخوارجُ. واللَّهُ أَعْلَمُ.

فالإيمانُ المطلَقُ هُوَ الإيمانُ الكاملُ. ومُطلَقُ الإيمانِ هُوَ الإيمانُ النَّاقِصُ.




العقيدة الواسطية شرح الشيخ د. صالح الفوزان حفظه الله