(إفرادِ اللهِ بالعِبادةِ) أيْ: قولاً، وقَصْدًا، وفِعلاً،
فيُفْرَدُ اللهُ بالأقوالِ، والأفعالِ، والْمَقاصِدِ.
فلا ينذر إلا له، ولا يدعى في السراء والضراء إلا إياه، ولا يستغاث إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، إلى غير ذلك من أنواع العبادة
إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة"
بأن لا يتخذ الإنسان مع الله أحداً يعبده ويتقرب إليه كما يعبد الله تعالى ويتقرب إليه
وهذا النوع من التوحيد هو الذي ضل فيه المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم
قال الامام ابن باز
أن تخص ربك بأفعالك بعباداتك بقرباتك لا تدعو مع الله إلهًا آخر، لا تعبد معه سواه من شجر أو حجر أو صنم أو نبي أو ولي فلا تدعو غير الله، لا تقول يا سيدي البدوي اشفني، أو يا رسول الله اشفني أو عافني أو انصرني، أو يا فلان أو يا فلان من الأولياء أو من غير الأولياء من الأموات أو من الأشجار والأحجار والأصنام، هذا الشرك الأكبر.
فتوحيد العبادة معناه: أن تخص العبادة لله وحده، ويقال له توحيد الإلهية،ومعناه أن يخص الله بالعبادة دون كل ما سواه،
وهذا هو معنى قوله سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ.
وقوله سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] معناه أن يخصوا الله بالعبادة بصلاتهم وصومهم ودعائهم واستغاثتهم وجهادهم كله لله وحده،
هذا يسمى توحيد العبادة، ويسمى توحيد الإلهية،
وهذا أنكره المشركون وأبوه،
ولما قال: قولوا لا إله إلا الله أبوا واستنكروها
وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]،
فاستنكروا ذلك وأصروا على كفرهم وضلالهم
وهم يقولون: الله الخالق الرازق المدبر،
يقولون هذا ولكن مع ذلك لم يخضعوا لتوحيدهم العبادة ....
فلهذا صاروا كافرين، وقاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم وأموالهم لكفرهم وعدم إذعانهم بافراد الله بالعبادة
قال ابن عثيمين
(التَّوحيدُ هوَ: إفْرادُ اللهِ عزَّ وجلَّ بالعبادةِ)،
أيْ: أنْ تَعْبُدَ اللهَ وحْدَهُ ولا تُشْرِكَ بهِ شيئًا،
بلْ تُفْرِدَهُ وحْدَهُ بالعبادةِ مَحبَّةً وتَعْظِيمًا، ورَغبةً ورَهبةً.
ومرادُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى التَّوحيدُ الَّذي بُعِثَت الرُّسلُ لتَحْقِيقِهِ؛
لأنَّهُ هوَ الَّذي حَصَلَ الإِخْلالُ بهِ والخِلافُ بينَ الرُّسلِ وأُمَمِهم.
وهناكَ تَعريفٌ أَعَمُّ للتَّوحيدِ،
وهوَ: إفرادُ اللهِ سُبحانَهُ وتعالى بما يَخْتَصُّ بهِ
، وأنواعُهُ ثلاثةٌ:
الأوَّلُ: توحيدُ الرُّبوبيَّةِ، وهوَ: إفرادُ اللهِ تعالى بالخَلْقِ والمُلْكِ والتَّدبيرِ
- قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [ الزُّمَرُ: 62 ].
-وقالَ تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}[ فاطرٌ: 3 ].
- وقالَ تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [ المُلْكُ: 1 ].
- وقالَ تعالى: {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ} [ الأعْرافُ: 54 ].
الثَّاني: توحيدُ الألوهيَّةِ،
وهوَ: إفرادُ اللهِ تعالى بالعبادةِ بأنْ لا يَتَّخِذَ الإنسانُ معَ اللهِ أحَدًا يَعْبُدُهُ كما يَعْبُدُ اللهَ، أوْ يَتَقَرَّبُ إليهِ كما يَتَقَرَّبُ إلى اللهِ تعالى.
الثَّالثُ: توحيدُ الأسماءِ والصِّفاتِ، وهوَ:
إفرادُ اللهِ سُبحانَهُ وتعالى بأسمائِهِ وصِفاتِهِ الوارِدةِ في كِتابِهِ وسُنَّةِ رسولِهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وذلكَ بإثْباتِ ما أَثْبَتَهُ، ونفْيِ ما نَفَاهُ، مِنْ غيرِ تَحْرِيفٍ ولا تعْطيلٍ، ومِنْ غيرِ تَكْييفٍ ولا تَمْثِيلٍ.
مُرَادُ الشيخِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى هنا تَوحيدُ الألوهيَّةِ،
فهوَ دِينُ الرُّسلِ، فَكُلُّهم أُرْسِلُوا بِهذا الأصلِ الَّذي هوَ التَّوحيدُ، كما قالَ اللهُ تعالى: {وَلقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [ النَّحلُ: 36 ]، وقالَ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [ الأنبياءُ: 25 ].
وهذا النَّوعُ هوَ الَّذي ضَلَّ فِيهِ المُشْرِكونَ الَّذين قاتَلَهم النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، واسْتَبَاحَ دِماءَهُم وأمْوالَهم وأَرْضَهم ودِيارَهم، وسَبَى نِساءَهم وذُرِّيَّتَهم.
ومَنْ أَخَلَّ بِهذا التَّوحيدِ فهوَ مُشْرِكٌ كافِرٌ،
وإنْ أَقَرَّ بِتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ والأسماءِ والصِّفاتِ.
فإفرادُ اللهِ وحْدَهُ بِالعبادةِ هوَ دِينُ الرُّسلِ الَّذين أَرْسَلَهم اللهُ بهِ إلى عِبادِهِ
كما قالَ الشَّيخُ رَحِمَهُ اللهُ، فَها هوَ أوَّلُ الرُّسلِ نوحٌ عليهِ السَّلامُ
يَقولُ كما حَكَى اللهُ عنهُ:
- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ} [هود: 25، 26 ].
- وقالَ تعالى:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [ هودٌ: 50].
- وقالَ تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هودٌ: 61].
- وقالَ تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [ هودٌ: 84 ].
*********
قال الشيخ صالح الفوزان
(أَنَّ التَّوحِيدَ هو إِفْرَادُ اللهِ بالعِبَادَةِ)
ولَيْسَ هو إِفْرَادَ اللهِ بالرُّبُوبِيَّة ِ،
فإِنَّ هذا أَقَرَّ به المُشْرِكُونَ ولَمْ يَكُونُوا مُوحِّدِينَ
؛ لأَِنَّهم لَمْ يُفْرِدُوا اللهَ بالعِبَادَةِ،
فإِقْرَارُهم بِتَوْحيدِ الرُّبُوبيَّةِ ليس هو التَّوْحيدَ المَطْلُوبَ،
وإنَّما تَوْحِيدُ الرُّبُوبيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى تَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ،
ولاَزِمٌ لَهُ فَمَنْ أَقَرَّ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَزِمَه أَنْ يُقِرَّ بِتَوْحِيدِ الأُلُوهيَّةِ،
واللهُ تَعَالَى يَسْتَدِلُّ في القُرْآنِ في كَثِيرٍ مِن الآياتِ عَلَى تَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ بتَوْحِيدِ الرُّبُوبيَّةِ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ}
فَقَوْلُهُ: {اعْبُدُوا رَبَّكُمْ}هذا هو تَوْحِيدُ الأُلُوهِيَّةِ
{الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا للهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}هذا هو تَوْحيدُ الرُّبُوبيَّةِ وهو دَلِيلُ تَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ،
فاسْتَدَلَّ -سُبْحَانَه وتَعَالَى- عَلَيْهِم فيما أَنْكَرُوهُ مِن تَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ بِمَا اعْتَرَفُوا به مِن تَوْحِيدِ الرُّبُوبيَّةِ لِيُلْزِمَهُم بذَلِكَ،
حَيْثُ قَالَ لَهُم:
كيف تَعْتَرِفُونَ أَنَّه هو الخَالِقُ الرَّازِقُ المُحْيي المُمِيتُ، وأَنَّهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ في ذلك،
ثُمَّ تُشْرِكُونَ في عِبَادَتِهِ.
أَمَّا الَّذِينَ يَقُولُونَ:
إِنَّ التَّوْحِيدَ هو الإِقْرَارُ بِأَنَّ اللهَ هو الخَالِقُ الرَّازِقُ المُحْيي المُمِيتُ...
فَهُم غَالِطُونَ غَلَطًا فَاحِشًا،
وَلَمْ يَأْتُوا بالتَّوْحِيدِ المَطْلُوبِ الَّذِي دَعَتْ إِلَيْهِ الرُّسُلُ،
وعَلَى هذا المَنْهَجِ البَاطِلِ جَمِيعُ عَقَائِدِ المُتَكَلِّمِين َ الَّتِي تُدَرَّسُ الآنَ في كَثِيرٍ مِن المَدَارِسِ الإِسْلاَمِيَّة ِ.
وَقَصْدُ الشَّيْخِ -رَحِمَهُ اللهُ- بِهَذَا التَّعْرِيفِ هو الرَّدُّ عَلَى هؤُلاَءِ الَّذِينَ رَكَّزُوا عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وتَرَكُوا تَوْحِيدَ الأُلُوهِيَّةِ،
فهذه أَوَّلُ شُبْهَةٍ وهي:
أَنَّهُم جَعَلُوا تَوْحيدَ الرُّبُوبِيَّةِ هو التَّوْحِيدَ المَطْلُوبَ،
وأَنَّ مَن أَفْرَدَ اللهَ بِهِ فهو المُوَحِّدُ،
وأَلَّفُوا كُتُبَهُم فيه وبَنَوْا مَنْهَجَهُم عَلَيْهِ وصَرَفُوا هَمَّهُم إِلَى تَحْقِيقِهِ.
فالرُّسُلُ كُلُّهُم مَا طَلَبُوا مِن النَّاسِ أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ اللهَ هو الخَالِقُ الرَّازِقُ المُحْيي المُمِيتُ؛ لأَِنَّهُم مُعْتَرِفُونَ بِهَذَا
وإِنَّما طَالَبُوا الأُمَمَ بِإِفْرَادِ اللهِ بالعِبَادَةِ،
قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}
مَا قَالَ: أَنْ أَقِرُّوا بِأَنَّ اللهَ هو الرَّبُّ؛ لأَِنَّهُم مُقِرُّونَ بِهَذا،
بَلْ قَالَ: {اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي: اتْرُكُوا الشِّرْكَ باللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
وقَالَ تَعَالَى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنـَا فَاعْبُدُونِ}
مَا قَالَ: أَنَّهُ لاَ رَبَّ سِوَايَ، وَلاَ خَالِقَ إِلاَّ أَنَا.
بَلْ قَالَ -سُبْحَانَهُ- {أنَّه لاَ إِلَهَ إلاَّ أَنـَا} أي:
لاَ مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلاَّ أَنَا.
هذا الَّذي بَعَثَ بِهِ اللهُ الرُّسُلَ،
مَا بَعَثَ الرُّسُلَ لتَقْرِيرِ تَوْحِيدِ الرُّبُوبيَّةِ؛ لأَِنَّ هذا مَوْجُودٌ،
لَكِنَّهُ لاَ يَكْفِي بَلْ بَعَثَهُم لِتَوْحِيدِ الأُلُوهِيَّةِ الَّذي هو إِفْرَادُ اللهِ تَعَالَى بالعِبَادَةِ،
وهو دِينُ الرُّسُلِ كُلِّهِم مِن أَوَّلِهِم إِلَى آخِرِهِم.