الحَنِيفُ :
مُشْتَقٌّ مِن الحَنْفِ وهو المَيْلُ،
فالحَنِيفُ: المَائِلُ عَن الشِّرْكِ قَصْدًا إلى التَّوْحيدِ.
والحَنِيفُ المُسْتَقِيمُ، المُسْتَمْسِكُ بالإِسْلاَمِ،
المُقْبِلُ عَلَى اللَّهِ، المُعْرِضُ عن كُلِّ مَا سِوَاه، وكُلُّ مَن كَانَ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
يقول القرطبي رحمه الله :
" ( حَنِيفاً ) مائلاً عن الأديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم ؛ وهو في موضع نصب على الحال ؛ قاله الزجاج .
أي : بل نتبع ملّة إبراهيم في هذه الحالة .
وسُمِّيَ إبراهيم حنيفاً لأنه حَنِف إلى دين الله ، وهو الإسلام .
والحَنَف : المَيْل ؛ ومنه رِجْلٌ حَنْفاء ، ورَجُل أَحنف ، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها . قالت أمّ الأَحْنَف :
واللَّهِ لولا حَنَفٌ بِرجْلِه ... ما كان في فِتيانكم مِن مِثلِه
وقال الشاعر :
إذا حوّل الظّل العشيّ رأيتَه ... حَنِيفاً وفي قَرْن الضحى يَتنصّرُ
أي : الحِرْباء تستقبل القِبْلة بالعشيّ ، والمَشْرِقَ بالغداة ، وهو قِبلة النصارى .
وقال قوم : الحَنَف : الاستقامة ؛ فسُمّيَ دين إبراهيم حنيفاً لاستقامته " انتهى.
" الجامع لأحكام القرآن " (1/358).
ويقول العلامة السعدي رحمه الله :
حنيفا" أي : مقبلا على الله ، معرضا عما سواه ،
قائما بالتوحيد ، تاركا للشرك والتنديد ،
فهذا الذي في اتباعه الهداية ،
وفي الإعراض عن ملته الكفر والغواية " انتهى.

" تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان " (ص/67)
قال الامام ابن باز
والحنيفُ هوَ الذي أقبلَ على اللَّهِ وأعرضَ عمَّا سواهُ، وأخلصَ لهُ العبادةَ، كإبراهيمَ وأتباعِهِ، وهكذا الأنبياءُ وأتباعُهُم.
قال الشيخ الفوزان
فالحنيفُ: هوَ المائلُ عن الشرْكِ قَصْدًا وإخلاصًا إلَى التوحيدِ، والْحَنيفُ هوَ الْمُقْبِلُ علَى اللهِ سُبحانَهُ وتعالَى، الْمُعْرِضُ عنْ كلِّ ما سواهُ،
قالَ تعالَى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا}


***
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ، أَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ ، فَقَالَ : إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ ، فَأَخْبِرْنِي ؟!
فَقَالَ : لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ !!
قَالَ زَيْدٌ : مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا ، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ !! فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟
قَالَ : مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا .
قَالَ زَيْدٌ : وَمَا الْحَنِيفُ ؟
قَالَ : دِينُ إِبْرَاهِيمَ ؛ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ .
فَخَرَجَ زَيْدٌ ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ : لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ !!
قَالَ : مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ ، وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ ، وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا ، وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ ؟! فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟
قَالَ : مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا .
قَالَ : وَمَا الْحَنِيفُ ؟
قَالَ : دِينُ إِبْرَاهِيمَ ؛ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ، وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ .
فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام خَرَجَ ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ !!
[ قال البخاري : ] وَقَالَ اللَّيْثُ كَتَبَ إِلَيَّ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ :
رَأَيْتُ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَقُولُ : يَا مَعَاشِرَ قُرَيْشٍ ، وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرِي .
وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ ، يَقُولُ لِلرَّجُلِ : إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ لَا تَقْتُلْهَا ، أَنَا أَكْفِيكَهَا مَئُونَتَهَا ؛ فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا : إِنْ شِئْتَ دَفَعْتُهَا إِلَيْكَ وَإِنْ شِئْتَ كَفَيْتُكَ مَئُونَتَهَا .
رواه البخاري (3828)
****
الحَنِيفِيَّةُ :
طَرِيقَةُ وشَرِيعَةُ الخَلِيلِ إبْرَاهِيمَ، وجَمِيعِ الأنْبِياءِ عَلَيْهم السَّلاَمُ، هي:: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا له الدِّينَ، فهذه هي حَقِيقَةُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، عِبَادَةُ اللَّهِ بالإخْلاَصِ.

والإخْلاَصُ: حُبُّ اللَّهِ، وإِرَادَةُ وجْهِهِ.
وعِبَادَةُ اللَّهِ بالإِخْلاَصِ، وتَرْكُ عِبَادَةِ مَا سِوَاه: هي المَذْكُورَةُ في قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ}
وفي قَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ}.
قال الامام ابن باز

الحَنِيفيةُ ملةُ إبراهيمَ، وهيَ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لهُ الدينَ،
وهيَ التي قالَ اللَّهُ فيها لنبيِّهِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}.
فالحنيفيةُ: هيَ الملةُ التي فيها الإخلاصُ للَّهِ وموالاتُهُ، وتركُ الإشراكِ بِهِ سبحانَهُ،
قالَ: (وبذلكَ أمَرَ اللَّهُ جميعَ النَّاسِ وخَلَقَهُم لها) فأمرَهُم بالتوحيدِ والإخلاصِ، وخلقَهُم ليَعْبُدُوه، وأمرَهُم بأنْ يَعْبُدُوهُ وحدَهُ في صلاتِهِم وصومِهِم ودعائِهِم وخوفِهِم ورجائِهِم وذبحِهِم ونذرِهِم وغيرِ ذلكَ منْ أنواعِ العبادةِ،كلُّه للَّهِ:
قال الشيخ صالح ال الشيخ

إن الحنيفية - ملةَ إبراهيم عليه السلام- هي التي أمر الله جل وعلا نبيه، وأمر الناس أن يكونوا عليها، قال جل وعلا: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}.
وملة إبراهيم هي التوحيد؛ لأنه هو الذي تركه فيمن بعده، حيث قال جـل وعـلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}.
هذه الكلمة: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} اشتملت على نفي في الشق الأول، وعلى إثبات في الشق الثاني، {إنني براءٌ مما تعبدون} البراءةُ نفي، ثم أثبت فقال: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فتبرأ من المعبودات المختلفة، وأثبت أنه عابد للذي فطره وحده، وهذا هو معنى كلمة التوحيد، ولهذا قال جل وعلا بعدها: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يعني: لعلهم يرجعون إليها.
وعقب إبراهيم عليه السلام منهم العرب، ومنهم أتباع الأنبياء، فهو أبو الأنبياء، ومعنى ذلك أنه أبٌ لأقوام الأنبياء.
جعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون إليها، وهذه الكلمة هي كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله)؛ لأن التوحيد هو ملة إبراهيم.
(لا إله إلا الله) معناها ما قال إبراهيم عليه السلام: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فـ(لا إله) مشتملة على البراءة من كل إله عبد، (وإلا الله) إثبات لعبادة الله -جل وعلا- وحده دون ما سواه؛ ولهذا يقول العلماء: (لا إله إلا الله معناها: لا معبود حق -أو بحق- إلا الله)، معنى ذلك أن كل المعبودات إنما عُبدت بغير الحق، قال جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ذلك بأن الله هو الحق، ولكونه جل وعلا هو الحق كانت عبادته وحده دون ما سواه هي الحق، قال: لا إله بحق، لا معبود بحق، لكن ثَمَّ معبودات بغير الحق، ثَم معبودات بالباطل، ثم معبودات بالبغي والظلم والعدوان، لكن المعبود بحق يُنفى عن جميع الآلهة، إلا الله جل وعلا؛ فإنه هو وحده المعبود بحق.
هذه الكلمة هي التي ألقاها إبراهيم عليه السلام في عقبه، وهذا مراد الشيخ -رحمه الله تعالى- بما ذكر.