تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: هل كانت سورة الكافرون إقرارًا للكافرين على دينهم؟

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي هل كانت سورة الكافرون إقرارًا للكافرين على دينهم؟

    أنزل الله سورة الكافرون:
    "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)"

    ومثل هذه السورة آيات أخرى تشابهها في إعلان البراء من الكفر وأهله، مثل قوله تعالى "وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ"
    وقوله تعالى " قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۚ قُل لَّا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ۙ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ"
    وقوله تعالى "قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وأمرت أن أكون من المؤمنين"


    بهذه النصاعة وهذا الوضوح جاءت هذه الآيات لترسم معالم الطريق بين الصف الإسلامي والصف الكافر المشرك الذي لا يؤمن بالله ورسوله

    **************************


    ومع هذا الوضوح القرآني نجد أن بعض أدعياء العلم قد فهم من هذه الآيات -وخاصة سورة الكافرون- إنها إقرار من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للكفار على دينهم الباطل، وهذا زعم باطل.. مخالف لحقيقة الإسلام، ، ومضاد لدعوة الرسل جميعًا.

    يقول العلامة ابن القيم، رحمه الله:
    (إن هذه السورة -سورة الكافرون- تشتمل على النفي المحض وهذه خاصية هذه السورة، فإنها سورة براءة من الشرك كما جاء في وصفها
    (ومقصودها الاعظم البراءة المطلوبة بين الموحدين والمشركين، ولهذا أتى بالنفي في الجانبين تحقيقًا للبراءة المطلوبة. مع تضمنها للإثبات بأن له معبودًا يعبده وأنتم بريئون من عبادته، وهذا يطابق قول إمام الحنفاء "إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني" فانتظمت حقيقة لا إله إلا الله
    (ولهذا كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يقرنها بسورة الإخلاص في سنة الفجر وسنة المغرب، حين أخبر الله أن لهم دينهم وله دينه: هل هو إقرار فيكون منسوخًا أو مخصوصًا؟ أو لا نسخ في الآية ولا تخصيص؟

    (هذه مسألة شريفة من أهم المسائل، وقد غلط في السورة خلائق، وظنوا أنها منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم! وظن آخرون: أنها مخصوصة بمن يقرون على دينهم وهم أهل الكتاب

    وكلا القولين غلط محض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها، فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيها.

    (وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى أيضًا سورة الإخلاص،
    ومنشأ الغلط: ظنهم أن الآية اقتضت إقرارهم على دينهم،
    ثم رأوا أن هذا الإقرار زال بالسيف، فقالوا: منسوخة!


    وقالت طائقة: زال عن بعض الكفار وهم من لا كتاب لهم فقالوا هذا مخصوص! ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرًا لهم أو إقرار على دينهم أبدًا.. بل لم يزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد على الإنكار عليهم وعيب دينهم وتقبيحه، والنهي عنه والتهديد والوعيد في كل وقت وفي كل ناد، فكيف يقال إن الآية اقتضت تقريرًا لهم؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل

    وإنما الآية اقتضت البراءة المحضة كما تقدم، وما أنتم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدًا، فإنه دين باطل، فهو مختص بكم لا نشرككم فيه، ولا أنتم تشركوننا في ديننا الحق

    فهذه غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار حتى يُدعى النسخ أو التخصيص؟

    أفترى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال: لكن دينكم ولي دين؟

    بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده، وكذلك حكم هذه البراءة بين أتباع الرسول، صلى الله عليه وسلم، أهل سنته وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به، الداعين إلى غير سنته إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته لكم دينكم ولنا ديننا لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم، بل يقولون لهم هذه براءة منها، وهم مع هذا منتصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان
    بدائع الفوائد، ج1-138

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية
    (قوله تعالى "لكم دينكم ولي دين" اللام في لغة العرب يدل على الاختصاص
    فأنتم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه،
    وأنا مختص بديني، لا تشركونني فيه،
    كما قال تعالى "لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ".

    وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين ولا أهل الكتاب، كما يظنه بعض الملحدين، ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين، وجعلوها منسوخة. بل فيها براءته من دينهم، وبراءتهم من دينه، وأنه لا تضره أعمالهم، ولا يجزون بعمله ولا ينفعهم. وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ، ولم يرضى الرسول بدين المشركين، ولا أهل الكتاب طرفة عين قط.

    ومن زعم أنه رضي الله بدين الكفار، واحتج بقوله تعالى "قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)"

    فظن هذا الملحد أن قوله "لكم دينكم ولي دين" معناه أنه رضي بدين الكفار، ثم قال هذه الآية منسوخة فيكون قد رضي بدين الكفار، فهذا من أبين الكذب والافتراء على محمد، صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يرض قط إلا بدين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه.. ونظير هذه الآية قوله تعالى "وإن كذبوك فقل لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ"

    وقوله تعالى "فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم "
    وإذا كان الله سبحانه قد قال "واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون"
    فبرأه من معصية من عصاه من أتباعه المؤمنين فكيف لا يبرئه من كفر الكافرين الذين هم أشد له معصية ومخالفة"
    الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ج2، ص30

    قال عبد الله بن عباس رضى الله عنمها في شأن هذه السورة
    "ليس في القرآن أشد غيظًا لإبليس منها، ﻷنها توحيد وبراءة من الشرك"،

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2020
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: هل كانت سورة الكافرون إقرارًا للكافرين على دينهم؟

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمدعبداللطيف مشاهدة المشاركة
    ومع هذا الوضوح القرآني نجد أن بعض أدعياء العلم قد فهم من هذه الآيات -وخاصة سورة الكافرون- إنها إقرار من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للكفار على دينهم الباطل، وهذا زعم باطل.. مخالف لحقيقة الإسلام، ، ومضاد لدعوة الرسل جميعًا.
    نعم
    وهكذا تموت عقيدة الولاء والبراء، وهكذا يغطون على الآيات البينات ليس بأيديهم كما فعلت اليهود بآية الرجم ولكن بالتأويل الفاسد بالتأويل يحرفون الايات التى أمرت بالبراءة من اليهود والنصارى والمشركين أجمعين، وهكذا يتم تدجين المسلمين فيأمن منهم اليهود والنصارى والمشركين، يتلاعبون بالنصوص الشرعية، ويلوون أعناق النصوص، ويلبسون على البسطاء دينهم،
    ليدعي أن الإسلام أمر بمتاركة الأديان الأخرى، وأقرها، وأقر حرية الاعتقاد، وأمر بالمسامحة والمحبة.. إلى آخر هذا الباطل.
    عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
    «أَنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ» صححه الألباني في الصحيحة [1582])



  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Feb 2020
    المشاركات
    362

    افتراضي رد: هل كانت سورة الكافرون إقرارًا للكافرين على دينهم؟

    قال الشيخ العلامة الشنقيطي رحمه الله:
    في هذه السورة منهج إصلاحي، وهو عدم قبول ولا صلاحية أنصاف الحلول،
    لأن ما عرضوه عليه صلى الله عليه وسلم من المشاركة في العبادة،
    يعتبر في مقياس المنطق حلاً وسطاً لاحتمال إصابة الحق في أحد الجانبين،
    فجاء الرد حاسماً وزاجراً وبشدة، لأن فيه أي فيما عرضوه مساواة للباطل بالحق،
    وفيه تعليق المشكلة،
    وفيه تقرير الباطل، إن هو وافقهم ولو لحظة،
    وقد تعتبر هذه السورة مميزة وفاصلة بين الطرفين،
    ونهاية المهادنة، وبداية المجابهة [أضواء البيان (9/320)].
    وقيل:
    ثم إجمال لحقيقة الافتراق الذي لا التقاء فيه. والاختلاف الذي لا تشابه فيه، والانفصال الذي لا اتصال فيه، والتمييز الذي لا اختلاط فيه:
    {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.. أنا هنا وأنتم هناك،
    ولا معبر ولا جسر ولا طريق!!! مفاصلة كاملة شاملة، وتميز واضح دقيق..
    ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل،
    الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق. الاختلاف في جوهر الاعتقاد، وأصل التصور، وحقيقة المنهج، وطبيعة الطريق.
    إن التوحيد منهج، والشرك منهج آخر.. ولا يلتقيان..
    التوحيد منهج يتجه بالإنسان الى تجريد العبادة لله وحده والبراءة من الشرك واهله. ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان، عقيدته وشريعته، وقيمه وموازينه، وآدابه وأخلاقه، وتصوراته ،.. ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس، غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية.. وهي تسير..
    وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية، وضرورية للمدعوين..
    إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان، وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها،
    وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف،
    أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلاً،
    ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها،
    قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد.. وهذا الإغراء في منتهى الخطورة!
    إن الجاهلية جاهلية، والإسلام إسلام، والفارق بينهما بعيد،
    والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته،
    هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه.
    وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية: تصوراً ومنهجاً وعملاً،
    الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق،
    والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام.
    لا ترقيع، ولا أنصاف حلول،
    ولا التقاء في منتصف الطريق.. مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام، أو ادعت هذا العنوان!
    وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس،
    شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء،
    لهم دينهم وله دينه، لهم طريقهم وله طريقه،
    لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم،
    ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو
    ، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير!
    وإلا فهي البراءة الكاملة، والمفاصلة التامة، والحسم الصريح..
    {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}...
    وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم..
    ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم يجددون الاسلام في بعض الاوساط الجاهلية المنحرفة، وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة، ثم طال عليهم الأمد: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}،
    وأنه ليس هناك أنصاف حلول، ولا التقاء في منتصف الطريق،
    ولا إصلاح عيوب، ولا ترقيع مناهج..
    إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان،.
    والتميز الكامل عن الجاهلية {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}..
    وهذا هو ديني: التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه، وعقيدته وشريعته.. كلها من الله.. .. في كل نواحي الحياة والسلوك. وبغير هذه المفاصلة،
    سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع..
    والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة،
    إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح..
    وهذا هو طريق الدعوة الأول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}

    قال ابن كثير رحمه الله: هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة بالإخلاص فيه، فقوله {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} شمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفارُ قريش. وقيل: إنهم من جهلهم دَعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبد?ن معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية [تفسير ابن كثير (8/507)]

    قال الشيخ السعدي: " {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، ويظهر أهله القائمين به بالسيف والسنان، فأما نفس الدين،
    فهذا الوصف ملازم له في كل وقت،
    فلا يمكن أن يغالبه مغالب، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه وبلسه، وصار له الظهور والقهر،
    وأما المنتسبون إليه، فإنهم إذا قاموا به، واستناروا بنوره، واهتدوا بهديه، في مصالح دينهم ودنياهم، فكذلك لا يقوم لهم أحد، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان،
    وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه، لم ينفعهم ذلك،
    وصار إهمالهم له سبب تسليط الأعداء عليهم،
    ويعرف هذا، من استقرأ الأحوال ونظر في أول المسلمين وآخرهم"
    [تفسير السعدي (1/860)].
    فالقرآن الكريم يصدق بعضه بعضًا، ويفسر بعضه بعضًا،
    فلا تضاد ولا تناقض.
    فلا يمكن أن نقول: أن هناك آيات قالت وصرحت وبينت وقررت بأن الهدف من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام ليظهر هذا الدين على سائر الملل والأديان،

    ثم نأتي ونقول أن هناك آية آخرى أتت لتقر الأديان الأخرى وتتركها.
    بل القرآن أتى ليصدق بعضه بعضًا
    فـ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
    أتت للبراءة من الأديان لا لتقررها،
    و {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}
    أتت لتقرر هذا المعنى أيضًا وتزيده وضوحًا وبيانًا.
    ولقد أتت الأحاديث النبوية الصحيحة بمثل هذه الحقائق القوية عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ
    قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
    «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلامَ، وَذُلاً يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ».
    وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ.
    [رواه أحمد (16344)

    فنحن نطلب من الله تعالى ونكرر في الصلوات الخمس وغيرها من النوافل أن يهدينا إلى صراطه المستقيم ويجنبنا سبل اليهود الذين غضب الله عليهم
    ، والنصارى الذين ضلوا عن الحق، فكيف يمكن لنا إقرار هؤلاء على دين باطل أو محبتهم وموالاتهم.
    وقال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61].
    فكيف الالتقاء مع أعداء الله، الكافرون بآياته، قتلة الأنبياء، أهل الظلم والعدوان.
    {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105].
    يكشف للمسلمين عما تكنه لهم صدور اليهود حولهم من الشر والعداء، وعما تنغل به قلوبهم من الحقد والحسد، بسبب ما اختصهم به الله من الفضل؛ ليحذروا أعداءهم، ويستمسكوا بما يحسدهم هؤلاء الأعداء عليه من الإيمان، ويشكروا فضل الله عليهم ويحفظوه. ويجمع القرآن بين أهل الكتاب والمشركين في الكفر..
    وكلاهما كافر بالرسالة الأخيرة فهما على قدم سواء من هذه الناحية؛ وكلاهما يضمر للمؤمنين الحقد والضغن، ولا يود لهم الخير. وأعظم ما يكرهونه للمؤمنين هو هذا الدين {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]. يوقظ السياق القرآني وعي الجماعة المسلمة ويركزه على مصدر الخطر، ومكمن الدسيسة؛ ويعبىء مشاعر المسليمن تجاه النوايا السيئة والكيد اللئيم والحسد الذميم.
    قال ابن كثير: يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين
    ، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم.
    ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال،
    حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح. {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].
    فهم يعتقدون أن المسلمين في النار، ويملئون الدنيا صراخًا وعويلاً إذا وصفهم أحد من المسلمين بالكفر،
    مع أن الله تعالى حكم بكفرهم في أكثر من موضع في القرآن.
    {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
    هذا هو الثمن الوحيد الذي يمكن أن يرضيهم،
    وأما غير ذلك فلا، إذا فكل دعاوى الوحدة والمحبة والوطنية فباطلة ومزيفة، وكذب،
    فلا يغتر المسلمون، وينزلقون وراء هذه الدعاوى،
    لأن المراد منها في النهاية أن ينسلخ المسلمون من دينهم بالكلية.
    ومصداق ذلك في قوله تعالى: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا
    قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هل كانت سورة الكافرون إقرارًا للكافرين على دينهم؟

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابوسفيان مشاهدة المشاركة
    فـ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
    أتت للبراءة من الأديان لا لتقررها،
    و {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}
    أتت لتقرر هذا المعنى أيضًا وتزيده وضوحًا وبيانًا.
    قال الامام ابن القيم فى بدائع الفوائد
    ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ ، وهل أفاد هذا معنًى زائدًا على ما تقدَّم؟
    فيقال في ذلك من الحكمة
    أنَّ النفي الأوَّلَ أفاد البراءة وأنه لا يُتصوَّر منه ولا ينبغي له أن يعبد معبوديهم،
    وهم أيضًا لا يكونون عابدين لمعبوده،
    وأفاد آخرُ السورة إثباتَ ما تضمَّنه النفيُ من جهتهم من الشرك والكفر الذي هو حظُّهم وقسْمُهم ونصيبهم،
    فجرى ذلك مجرى من اقتسم هو وغيره أرضًا فقال له:
    «لا تدخل في حدِّي ولا أدخل في حدِّك، لك أرضك ولي أرضي».
    فتضمَّنت الآية أنَّ هذه البراءة اقتضت
    أنَّا اقتسمنا خطَّتَنا بيننا فأصابنا التوحيد والإيمان فهو نصيبنا وقسْمُنا الذي نختصُّ به لا تشركونا فيه،
    وأصابكم الشرك بالله والكفر به فهو نصيبكم وقسْمُكم الذي تختصُّون به لا نشرككم به،

    فتبارك من أحيا قلوبَ من شاء من عباده بفهم كلامه
    . وهذه المعاني ونحوُها إذا تجلَّت للقلوب رافلةً في حُلَلِها فإنها تسبي القلوبَ وتأخذ بمجامعها،
    ومن لم يصادف من قلبه حياةً فهي خودٌ تُزَفُّ إلى ضريرٍ مقعدٍ،

    فالحمد لله على مواهبه التي لا منتهى لها ونسأله إتمامَ نعمته.
    المسألة العاشرة: وهي تقديم قسْمِهم ونصيبهم على قسْمِه ونصيبه وفي أوَّل السورة قدَّم ما يختصُّ به على ما يختصُّ بهم،
    فهذا من أسرار الكلام وبديع الخطاب الذي لا يدركه إلَّا فحول البلاغة وفرسانها،
    فإنَّ السورة لمَّا اقتضت البراءةَ واقتسامَ دينَيِ التوحيد والشرك بينه وبينهم ورضي كلٌّ بقسْمِه وكان المحقُّ هو صاحبَ القسمة،
    وقد برَّز النصيبين وميَّز القسمين، وعلم أنهم راضون بقسْمِهم الدون الذي لا أردى منه،
    وأنه هو قد استولى على القسم الأشرف والحظِّ الأعظم
    ، بمنزلة من اقتسم هو وغيره سمًّا وشفاءً فرضي مقاسمُه بالسمِّ،
    فإنه يقول له: «لا تشاركني في قسْمِي ولا أشاركك في قسْمِك،
    لك قسْمُك ولي قسْمِي»،
    فتقديم ذكر قسْمِه ههنا أحسن وأبلغ
    كأنه يقول: هذا هو قسْمُك الذي آثرته بالتقديم وزعمتَ أنه أشرف القسمين وأحقُّهما بالتقديم.
    فكان في تقديم ذكر قسْمِه من التهكُّم به، والنداءِ على سوء اختياره، وقبحِ ما رَضِيَه لنفسه، من الحسن والبيان ما لا يوجد في ذكر تقديم قسْمِ نفسه، والحاكم في هذا هو الذوق، والفَطِنُ يكتفي بأدنى إشارةٍ،
    وأمَّا غليظ الفهم فلا ينجع فيه كثرة البيان.
    ووجهٌ ثانٍ: وهو أنَّ مقصودَ السورة براءتُه صلَّى الله عليه وسلَّم من دينهم ومعبودهم،
    هذا هو لبُّها ومغزاها، وجاء ذكرُ براءتهم من دينه ومعبوده بالقصد الثاني مكمِّلًا لبراءته، ومحقِّقًا لها،
    فلمَّا كان المقصود براءتَه من دينهم بدأ به في أوَّل السورة
    ثمَّ جاء قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ﴾ [الكافرون: ٦] مطابقًا لهذا المعنى أي: لا أشارككم في دينكم ولا أوافقكم عليه،
    بل هو دينٌ تختصُّون أنتم به لا أشرككم فيه أبدًا. فطابق آخر السورة أوَّلَها فتأمَّلْه.

    [«بدائع الفوائد» لابن القيِّم (٢/ ١١٢)]

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هل كانت سورة الكافرون إقرارًا للكافرين على دينهم؟

    قال الامام ابن القيم
    أما المسألة الثامنة وهي إثباته هنا بلفظ يا أيها الكافرون دون يا أيها الذين كفروا
    فسِرُّه والله أعلم إرادة الدلالة على أن من كان الكفر وصفا ثابتا لا لازما لا يفارقه فهو حقيق أن يتبرأالله منه
    ويكون هو أيضا بريئا من الله فحقيق بالموحد البراءة منه
    فكان في معرض البراءة التي هي غاية البعد والمجانبة بحقيقة حاله التي هي غاية الكفر
    وهو الكفر الثابت اللازم في غاية المناسبة
    فكأنه يقول كما أن الكفر لازم لكم ثابت لا تنتقلون عنه
    فمجانبتكم والبراءة منكم ثابتة دائما أبدا
    ولهذا أتى فيها بالنفي الدال على الإستمرار
    مقابلة الكفر الثابت المستمر وهذا واضح

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: هل كانت سورة الكافرون إقرارًا للكافرين على دينهم؟

    قال ابن القيم - فهذا ما فتح الله العظيم به من هذه الكلمات اليسيرة والنبذة المشيرة إلى عظمة هذه السورة وجلالتها ومقصودها وبديع نظمها من غير استعانة بتفسير ولا تتبع لهذه الكلمات من مظان توجد فيه بل هي استملاء مما علمه الله وألهمه بفضله وكرمه
    والله يعلم أني لو وجدتها في كتاب لأضفتها إلى قائلها ولبالغت في استحسانها وعسى الله المان بفضله الواسع العطاء الذي عطاؤه على غير قياس المخلوقين أن يعين على تعليق تفسير هذا النمط وهذا الأسلوب وقد كتبت على مواضع متفرقة من القرآن بحسب ما يسنح من هذا النمط وقت مقامي بمكة وبالبيت المقدس والله المرجو إتمام نعمته
    بدائع الفوائد -ابن القيم

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •