تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: اقتضاء العلم العمل

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,452

    افتراضي اقتضاء العلم العمل

    اقتضاء العلم العمل


    الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر





    لا تخفى مكانة العلم ومنزلته العليَّة في ديننا الحنيف، ومنزلته العظيمة؛ فهو أساسٌ به يُبدأ، ولا يُمكن أن تُقام الشَّريعة وأن تُحقَّق العبوديَّة الَّتي خُلق العبد لأجلها وأُوجد لتحقيقها إلَّا بالعلم؛ فهو المقدَّم كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِي نَ وَالْمُؤْمِنَات ِ}(محمد:19)؛ فبدأ -جلَّ شأنه- بالعلم، وكان من دعاء نبيِّنا صلى الله عليه وسلم الَّذي يُواظب عليه كلَّ يوم إذا أصبح بعد صلاة الصُّبح، كما جاء في مسند الإمام أحمد، وسنن ابن ماجه، وغيرهما من حديث أمِّ سلمة -رضي الله عنها- قالت: كان صلى الله عليه وسلم يقول كلَّ يوم بعد صلاة الصُّبح بعد أن يسلِّم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا»، وفي رواية «وَعَمَلًا صَالِحـًا»؛ فقدَّم -عليه الصَّلاة والسَّلام- في دعائه اليومي العلمَ النَّافع على الرِّزق الطَّيب والعملِ المتقبَّل؛ وذلك أنَّ العبد لا يستطيع أن يَمِيز بين رزقٍ طيِّب وخبيث ولا بين عملٍ صالح وطالح إلَّا بالعلم النَّافع .

    فالعلم النَّافعُ ضياءٌ لصاحبه ونورٌ له يهتدي به ، قال الله -جلَّ وعلا-:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا}(الشو رى:52)؛ فالعلم نورٌ وضياءٌ لصاحبه، ومَثَل العالم في الأمَّة مَثَل أُناس في ظُلمة وبينهم شخصٌ بيده مصباحٌ، يضيء لهم بمصباحه الطَّريق؛ فيسلَمُون منَ العِثار، ويتَّقون الشَّوك والأخطار، ويسيرون في جادَّةٍ سويَّة وصراط مستقيم .

    فضل العلم

    ولهذا تكاثرت النُّصوص والدَّلائل في كتاب الله -جلَّ وعلا- وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم في بيان فضل العلم، وشرف قَدْرِه، وعظيم مكانته، والثَّناء على أهله، وبيان منزلتهم العليَّة، ويكفي أهلَ العلم شرفًا ونُبلًا أنَّ الله -عز وجل- قرَن شهادتهم بشهادته في أعظم مشهود به، وهو توحيده {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَة ُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(آل عمران:18)، ويقول الله -جلَّ وعلا- في شرف وفضل أهل العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}(الز مر:9)، ويقول -جلَّ وعلا-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}(فا طر:28)، ويقول الله -جلَّ وعلا-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}(المجا دلة:11)، قيل في معنى الآية: أي يرفع الله العَالِم المؤمن على المؤمن غير العالم غير الفقيه درجاتٍ، ورفعةُ الدَّرجات تدلُّ على عِظم الفَضْل وعلوِّ المكانة.

    حديث عظيم

    وجاء في الحديث - حديث أبي الدَّرداء في المسند وغيره في بيان فضل العلم ومكانة أهله - قول نبيِّنا -عليه الصَّلاة والسَّلام- في حديثه العظيم الجامع: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الملَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ، وَإِنَّ العَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الحِيتَان فِي المَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ عَلَى سَائِرِ الكَوَاكِبِ، وَإِنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ؛ فَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ؛ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ».

    ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم

    يروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه مرَّ بالسوق والناس يبيعون ويشترون؛ فقال: «يا أهل السُّوق، ما أعجزكم؟ قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟! قال: ذاك ميراث رسول الله يقسم وأنتم ها هنا لا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه، قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد؛ فخرجوا سراعًا إلى المسجد، ووقف أبو هريرة لهم حتَّى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة، فقد أتينا المسجد فدخلنا، فلم نَرَ فيه شيئًا يُقسم! فقال لهم أبو هريرة: أما رأيتم في المسجد أحدًا؟! قالوا: بلى رأينا قومًا يصلُّون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام! فقال لهم أبو هريرة: ويحكم فذاك ميراث محمَّدٍ»، هذا هو ميراث النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- وميراث النَّبيِّين؛ «فَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ»؛ فكلَّما عَظُمَ حظُّ العبد ونصيبُه من العلم عَظُمَ حظُّه من ميراث النُّبوَّة .

    مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا

    وجاء في حديث معاوية في الصَّحيحين أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ»، قال «خيرًا» جاء بها منكَّرة تفخيمًا وتشريفًا وتعليَةً للثِّمار والآثار الَّتي تُجنى ويجنيها من يتفقَّه في دين الله، قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُ فِي الدِّينِ»؛ ولهذا دخول المسلم في سبيل طلب العلم وطريق تحصيله هذا، من علامات وأمارات إرادة الله -سبحانه وتعالى- الخيرَ به، ولكن كما قال ابن القيِّم -رحمه الله تعالى-: «وهذا إذا أريد بالفقه العلم المستلزم للعمل»، بمعنى أن يتفقَّه ويعمل، ويكون مقصوده بتفقُّهه رفع الجهل عن نفسه وتحقيق العبوديَّة لله -سبحانه وتعالى- على بصيرة وعلى نورٍ من الله -تبارك وتعالى-؛ فإذا كان بهذه الصِّفة كان مُوجِبًا لحصول الخير، أما إذا كان مجرد فقهٍ بلا عمل؛ فإنه يكون شرطاً لحصول الخير لا موجباً له.

    العلمُ مقصودٌ للعمل

    والعلمُ مقصودٌ للعمل ويُطلب للعمل ولتحقيق العبوديَّة لله -سبحانه وتعالى-؛ ولهذا كان مقدَّمًا على العمل يُبدأ به ليكون العمل والعبادة والطَّاعة والتَّقرُّب إلى الله -سبحانه وتعالى- على بصيرة، على علمٍ نافع، على أساسٍ صحيح مستمدٍّ من كتاب الله وسنَّة نبيِّه -صلوات الله وسلامه عليه.

    اقتضاء العلم العمل

    واقتضاء العلم العمل، بمعنى أنَّ العلم مقصودُه العمل، وتحقيق العبوديَّة لله والقيام بها على بصيرة؛ فإذا كان لدى العبد عِلْمٌ بلا عمل لَمْ يحقِّق العبوديَّة، وإذا كان عنده عملٌ بلا علمٍ أيضًا لم يحقِّق العبوديَّة، فلا تتحقَّق العبوديَّة لله -سبحانه وتعالى- إلَّا بالأمرين: بالعلم النَّافع، والعمل الصَّالح، كما قال الله -عز وجل-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ}(التوبة :33)، «الهدى»: هو العلم النَّافع، و«دين الحقِّ»: هو العمل الصَّالح المقرِّب إلى الله -عز وجل-؛ فهذا الَّذي بُعث به نبيُّنا -عليه الصَّلاة والسَّلام- وبُعث به النبيون جميعهم.

    الشَّواهد والدَّلائل

    ومن أَجْلِ الوقوف على الشَّواهد والدَّلائل على اقتضاءِ العلمِ العملَ، وأنَّ مقصودَ العلمِ العمل، أَذْكُرُ في هذا الباب نقاطًا عديدة تَجْلِيَةً لهذا الأمر وجمْـعًا لما تيسَّر من شواهده ودلائله؛ فأقول :

    مقصودُ الخلق

    - أولاً: أنَّ اقتضاء العلم العمل واضحٌ؛ من حيث إنَّ كِلَا الأمرين مقصودُ الخلق؛ فالله -عز وجل- خلقَ الخلقَ ليعرفوه، وخلقَهم -جلَّ وعلا- ليعبدوه، دلَّ على الأوَّل : قول الله -سبحانه وتعالى- في آخر آية من سورة الطَّلاق: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)}، قال: {خَلَقَ... لِتَعْلَمُوا}؛ فالعلم مقصودُ الخلقِ، ودلَّ على الثَّاني: قول الله -سبحانه وتعالى- في أواخر الذَّاريات {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) }؛ فالعلم والعبادة كلٌّ منهما مقصودُ الخلق، والعبادةُ لا تكون إلَّا بالعلم النَّافع المقرِّب إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ فمن عَلِمَ وعَملَ، فهو الَّذي حقَّق مقصودَ الخَلْقِ؛ ولهذا قال أهل العلم: التَّوحيد الَّذي خُلقنا لأجله وأُوجدنا لتحقيقه له جانبان: جانبٌ علميٌّ، وجانب عمليٌّ، توحيدٌ في المعرفة والإثبات، وتوحيدٌ في الإرادة والطَّلب؛ فلابدَّ مِنَ هذا ولابد من ذاك، لابد من الأمرين لتتحقَّق العبوديَّة، وليكون العبدُ مِنْ عباد الله حقًّا، المطيعين له -سبحانه وتعالى- صِدقًا.

    مقصودَ العلم

    ومَنْ كان ذا عِلْمٍ بلا عمل فهو مغضوبٌ عليه، يبوء بغضب الله؛ لأنَّه لم يحقِّق مقصودَ العلم، ومن كان صاحبَ عملٍ وجدٍّ واجتهادٍ في العبادة بلا علم؛ فهو ضالٌّ عن سبيل الله وصراطه المستقيم؛ ولهذا شُرع لنا أن نقرأ في سورة الفاتحة تلك الدَّعوة العظيمة الَّتي هي أهمُّ الدَّعوات وأعظمها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7)}؛ فالمنْعَمُ عَليهم: هم أهلُ العلم والعمل، والمغضوبُ عليهم: هم أهل العلم بلا عمل، والضَّالُّون: هم أهل العمل بلا علم؛ ولهذا قال سفيان بن عُيينة -رحمه الله تعالى-: «من فسَد من علمائنا ففيه شَبَهٌ من اليهود، ومن فسَد من عبَّادنا ففيه شَبَهٌ من النَّصارى»؛ لأنَّ اليهود عندهم عِلْمٌ لا يعملون به، كما قال الله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ}(الجم عة:5)، {لَمْ يَحْمِلُوهَا}: لم يعملوا بها، حفظوها وفهموا ما دلَّت عليه، ولكنَّهم لم يعمَلوا بها، ومَنْ فسد من عبَّادنا ففيه شبه من النَّصارى؛ لأنَّ النَّصارى أهل بدع وإحداث وعبادات ما أنزل الله -سبحانه وتعالى- بها من سلطان، ولم يشرعها -جلَّ وعلا- لعباده، ولم يأذن -سبحانه وتعالى- لعباده بها؛ فهذه النقطة الأولى من النقاط التي يتبين بها اقتضاء العلم العمل .

    ماذا عملوا به ؟


    - الأمر الثاني: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر بأنَّ النَّاس يوم القيامة يُسألون عن العلم الَّذي حصَّلوه، ماذا عملوا به؟ كما جاء في حديث أبي بَرْزَةَ الأسْلَمي رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ - وذكر منها -عليه الصَّلاة والسَّلام-: عَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ بِهِ»؛ ولهذا جاء عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنَّه قال: «إنَّما أخشى يوم القيامة أن يُنَادِينِي ربِّي على رؤوس الخلائق؛ فيقول: يا عُوَيْمِر، ماذا عملت فيما علِمت؟»؛ وهذا خَطْبٌ جسيم، وهَوْلٌ عظيم، ومقامٌ خطير؛ فكلُّ عِلْمٍ حصَّله العبدُ يُسْأَل عنه يوم القيامة: ماذا عملت فيما علمت؟؛ لأنَّ مقصودَ العلمِ العملُ؛ ولهذا يُسأل كلُّ إنسان عن علمه الَّذي تعلَّمه.

    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,452

    افتراضي رد: اقتضاء العلم العمل


    اقتضاء العلم العمل (2)


    الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر


    استكمالاً لما بدأنا الحديث عنه عن مكانة العلم ومنزلته العليَّة في ديننا الحنيف، ومنزلته العظيمة؛ حيث ذكرنا أنه أساسٌ، به يُبدأ؛ حيث لا يُمكن أن تُقام الشَّريعة وأن تُحقَّق العبوديَّة الَّتي خُلق العبد لأجلها وأُوجد لتحقيقها إلَّا بالعلم، وذكرنا بعض النقاط التي يتبين بها اقتضاء العلم العمل، الأولى أنَّ اقتضاء العلم العمل واضحٌ؛ من حيث إنَّ كِلَا الأمرين مقصودُ الخلق، والأمر الثاني أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر بأنَّ النَّاس يوم القيامة، يُسألون عن العلم الَّذي حصَّلوه، ماذا عملوا به؟ واليوم نستكمل هذه النقاط.


    تهديدٌ ووعيدٌ
    الأمر الثالث: أنَّ القرآنَ والسُّنَّةَ جاء فيهما تهديدٌ ووعيدٌ لمن لا يعمل بالعلم الَّذي تعلَّمه، يتعلَّم ويتفقَّه، وربَّما أيضًا يدعُو إلى هذا العلم ولا يعمل به! قال الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(الص ف: 2-3)، وقال -جلَّ وعلا-: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ – أي بالعمل به - وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(الب قرة:44)، وقال -جلَّ وعلا- عن نبيِّه شعيب -عليه السلام-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}(هود: 88}؛ فهذه ثلاث آيات في القرآن العظيم في هذا الباب.
    حديث أسامة رضي الله عنه
    وقد جاء في الحديث -حديث أسامة رضي الله عنه في الصَّحيحين وغيرهما- عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «يُجَاءُ بِرَجُلٍ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقَ أَقْتَابُهُ - أَي تخرُج أمعاؤه - وَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِالرَّحَى؛ فَيَأْتِيهِ أَهْلُ النَّارِ وَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانٌ، مَا شَأْنُكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟! قَالَ: بَلَى؛ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المنْكَرِ وَآتِيهِ».
    حديث أنس رضي الله عنه
    وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه : «أنَّ النَّبيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- رَأَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ قَوْمًا تُقَرَّضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ؛ فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟! قَالُوا: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ»؛ فالشرع ودلائل الكتاب والسُّنَّة جاء فيهما وعيدٌ لمن لا يعمل بعلمه، ومن يدعو ولا يعمل، ويكون حظُّ النَّاس من علمه أكثر من حظِّه هو مِنْ علمه؛ ولهذا كان بعض السلف يقول في دعائه: «اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك أن يكون أحدٌ أَسْعَد بما علَّمتني منِّي، وأعوذ بك أن أكون عبرةً لغيري» ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «وهو من أحسن الدُّعاء»، وهو دعاء كان يدعو به مطرِّف ابن عبد الله بن الشّخِّير، كما في الزهد للإمام أحمد وغيره، وهي دعوة عظيمة «اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك أن يكون أحدٌ أَسْعَد بما علَّمتني منِّي»، وغير الإنسان يكون أسعد بعلمه منه إذا كان يضيء للنَّاس الطَّريق ويحرق نفسه، فلا يعمل بما تعلَّمه، ولا يعمل بما يدعو الناس إليه.
    الأعمال المقرِّبة إلى الله -تعالى
    الأمر الرابع: أنَّ دلائل الشَّرع جاء فيها أنَّ الأعمال المقرِّبة إلى الله -سبحانه وتعالى- ذخيرة للعبد يوم القيامة يفوز بسببها برضا الله -جلَّ وعلا- وجنَّته؛ ولهذا في القرآن ما يقرُب منَ الخمسين آية، يُجمع فيها في مقام ذكر الثَّواب والأجر بين الإيمان والعمل، مع أنَّ العمل داخلٌ في مسمَّى الإيمان! لكن تَعْلِيَةً لمقام العمل وبيانًا لعظيم شأنه، ورَفيع ذكره، يُخصُّ بعد عموم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}(ا لبقرة:277)، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(الن حل: 97)، {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف:43)، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(الن حل: 32)، والآيات في هذا المعنى عديدة؛ فالعملُ سببٌ لدخول الجنَّة.
    لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ
    وقول -نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام-: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ». أي على سبيل المعَاوَضَة والمقابلة، وإلَّا فإنَّ العمل سببٌ من أسباب دخول الجنَّة، ودخول الجنَّة برحمة الله -سبحانه وتعالى-، قال: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَال: «لَا، وَلاَ أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»؛ فليست الأعمال في مقامٍ يكون دخولُ العبد الجنَّة عِوَضًا أو مقابلًا لذلك، بل الأعمال سببٌ، وإلَّا فإنَّ دخول الجنَّة إنَّما هو برحمة الله وفضله، الأعمال ذاتُها الَّتي يقوم بها العبد هي رحمة الله به وفضله عليه {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}(النور:21) .
    حال السَّلف
    الأمر الخامس مما يبيِّن هذا المقام، حال السَّلف -رحمهم الله- العجيبة في المبادرة للأعمال والمسارعة إليها والمواظبة على فعلها، والإتيان بها فَوْرَ سماعِها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفورَ سماعهم لحديثه -عليه الصَّلاة والسَّلام-، يُبادرون مبادرةً عجيبة، ويسارعون مسارعةً عظيمة للعمل بما يأمرهم به -صلوات الله وسلامه عليه-، ويواظبون على ذلك، وفي هذا المعنى يُنقل عنهم نقولٌ كثيرة جدًّا، تدلُّ على شدَّة عنايتهم وعظيم رعايتهم لهذا الأمر، ومن ذلكم: ما جاء في الصَّحيحين وغيرهما من حديث عليٍّ رضي الله عنه ، في قصَّة فاطمة -رضي الله عنها- بنت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عندما جاءت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تطلب خادمًا؛ فقال لها -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «أَوَلَا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْ خَادِمٍ، إِذَا أَوَيْتِ إِلَى الفِرَاشِ تُسَبِّحِينَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدِينَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرِينَه ُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ»، قال عليّ رضي الله عنه: «فما تركتها – هذا موضع الشاهد - منذ سمعتُها من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم »؛ فاختارَ أحدُ الحاضرين ليلةً عصيبةً، قد يُذهل في مثلها الإنسان، قال: ولا ليلة صفِّين؟! - وهي اللَّيلة الَّتي دارت فيها الحرب المعروفة والمعركة المشهورة- قال: «ولا ليلةَ صفِّين».
    حديث أم حبيبة -رضي الله عنها
    وجاء في صحيح مسلم من حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- هذا الحديث، يرويه النُّعْمَانِ بنِ سالم، عن عَمْرو ابنِ أَوْس، عن عَنْبَسَةُ بن أبي سفيان، عن أمَّ حبيبة -رضي الله عنها- قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الجَنَّةِ»، قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ -رضي الله عنها-: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقَالَ عَنْبَسَةُ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، وقَالَ عَمْرُو ابنُ أَوْسٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَنْبَسَةَ، وَقَالَ النُّعْمَانُ بنُ سَالِمٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَمْرِو ابنِ أَوْسٍ، والحديث بهذا السياق في صحيح مسلم؛ فهذه همَّة عالية جدًّا في المسارعة والمواظبة معًا، المسارعة إلى العمل، والمبادرة إلى القيام به، والمواظبة عليه.
    حديث أبي هريرة رضي الله عنه
    وجاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ – هذا موضع الشاهد - : صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، ونَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ»، ومثله تمامًا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي الدَّرداء رضي اللهه عنه قال: «أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاثٍ لن أدعَهُنَّ ما عشتُ» وذكر هذه الثَّلاث.
    يا غُلام: سَمِّ اللهَ
    ومثال آخر لأحد صغار الصَّحابة - وهو عُمر بن أبي سَلَمَة رضي الله عنه قال: كنت غُلامًا في حجْر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت يدي تطيش في الصَّحْفَة؛ فقال لي: «يا غُلام! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» أخرّجه البخاري ومسلم، زاد البخاري عنه رضي الله عنه أنَّه قال: «فما زالت تلك طِعْمَتي بعدُ»، يعني منذ أن كان غلامًا صغيرًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فسمعه يقول هذه الكلمات قال: «فما زالت تلك طِعْمتي بعدُ»، ونلاحظ كثيرًا ما يُزجَر الصِّغار ويُنهون ويُنبَّهون مرَّة وثانية وثالثة، وهذا غلامٌ من صغار الصَّحابة من مرَّة واحدة قال: «فما زالت تلك طِعمتي بعد»؛ فهذا يدلُّ على المسارعة من جهة، والمواظبة على ذلك إلى الممات من جهة أخرى، هذا جانب .
    السَّلف بعد الصَّحابة

    أيضا إذا نظرنا في سير السَّلف الصَّالح بعد الصَّحابة، يُنقل عنهم في هذا المعنى نقولٌ عظيمة جدًّا، مثل قول سفيان الثَّوري -رحمه الله-: «ما بلغني حديثٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا عملتُ به»، وقال عمرو بن قيس الملَّائي -رحمه الله-: «إذا بلغَك الحديثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعمل به ولو مرَّةً تَكُنْ من أهله»، وقوله: «فاعمل به ولو مرَّة»، هذا في السُّنن والرَّغائب، أمَّا الواجبات والفرائض، فلا يكفي ليكون من أهله أن يعمل به مرَّة .

    ونقل ابن القيِّم -رحمه الله تعالى- عن شيخه - شيخ الإسلام ابن تيمية – لمـَّـا ذكر ابن القيِّم حديث أبي أمامة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ»، قال ابن القيِّم: «بلغني عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّه قال: ما تركتها عُقَيْبَ كلِّ صلاة» .
    وجاء عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنَّه قال: «ما كتبتُ حديثًا - وقد كتب المسند ومعروف حجمه وكثرة الأحاديث الَّتي فيه - قال: ما كتبت حديثًا إلَّا عملتُ به، حتَّى إنَّني سمعتُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحاجم دينارًا؛ فاحتجمتُ وأعطيتُ الحاجم دينارًا» ؛ فهذه طريقة السَّلف في حرصهم ومواظبتهم ودأبهم وعظيم عنايتهم بالعلم، مسارعةً إلى فعلِه ومواظبةً عليه .



    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    40,452

    افتراضي رد: اقتضاء العلم العمل


    اقتضاء العلم العمل (3)


    الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر



    استكمالاً لما بدأنا الحديث عنه عن مكانة العلم ومنزلته العليَّة في ديننا الحنيف، ومنزلته العظيمة؛ حيث ذكرنا أنه أساسٌ به يُبدأ؛ حيث لا يُمكن أن تُقام الشَّريعة وأن تُحقَّق العبوديَّة الَّتي خُلق العبد لأجلها وأُوجد لتحقيقها إلَّا بالعلم، وذكرنا بعض النقاط التي يتبين بها اقتضاء العلم العمل، واليوم نستكمل هذه النقاط.

    جانب المنهيَّات

    الأمر السادس: في جانب المنهيَّات، ما جاء النهي عنه والزجر عن فعله - أيضًا - كانوا أهل مسارعة ومواظبة ومبادرة عجيبة في هذا الباب؛ ولهذا جاء في الصَّحيحين عن عمر رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ عَنْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»، وقد سمعَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم- كما جاء في بعض الرِّوايات - يحلف بأبيه؛ ولنلاحظ هنا أنَّ هذا أمر اعتادوا عليه في جاهليَّتهم قبل الإسلام ، اعتادوا على الحلف بالآباء ودَرَجَ اللِّسان على ذلك ، يقول عمر : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ عَنْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»، قال عمر: «فَوَالله مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا»، يعني: لا من قولي، ولا أيضًا حاكيًا لقول غيري.

    همَّة السَّلف

    من الطَّرائف الَّتي تُنقل في هذا الباب - وهذا أذكره فقط للمقارنة؛ ولندرك أيضًا همَّة السَّلف وعظيم عنايتهم في هذا الباب - يُذكر أنَّ شخصًا سمع رجلًا يحلف بالنَّبيِّ؛ فناصحه وأخذ يشرح له الأدلَّة حتَّى اقتنع وعَزَمَ على ألَّا يحلف؛ فمن باب التَّأكيد لمن يعظه قال له: «والنَّبيِّ! لن أحلف بالنَّبيِّ بعد اليوم!» نلاحظ هنا اللِّسان دَرَجَ على شيء من الصُّعوبة بمكان أن يَنْفَلِتَ منه الإنسان ويواظب دون أن يقع منه ولا مجرَّد فَلْتَةِ لسانٍ؛ فعُمر رضي الله عنه يحلف: «والله! ما حلفت بها بعد لا ذاكرًا ولا آثرًا»؛ فهذا ممَّا يبيِّن لنا عظيم عناية السَّلف ورعايتهم للعلم، ما أن يسمع الحديثَ - سواءً في باب الأمر أم في باب الزَّجر - إلَّا يواظب عليه مواظبةً عجيبةً حتَّى فيما أَلِفَتْهُ النَّفسُ واعتادت عليه .

    حديث أنس رضي الله عنه

    ومن هذا الباب: ما جاء في حديث أنس في الصَّحيحين، وقد كان صلى الله عليه وسلم خادمًا عند أبي طَلْحة، وكان يومًا يسقيهم الخمر قبل التَّحريم، وبَيْنَا هو كذلك يسقيهم الخمر؛ إذ أتى آتٍ وقال: حُرِّمت الخمر؛ فأمروا فورًا بإراقتها مع تعلُّق النُّفوس واعتيادهم على ذلك؛ فأراقوها فورًا في اللَّحظة نفسها، وكان ذلك آخر عهدهم بها.

    حديث ابن عبَّاس -رضي الله عنه

    كذلك ما جاء في حديث ابن عبَّاس في صحيح مسلم: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ؛ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ»؛ فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ - يعني: تبيعه، تتركه لأهلك، هذه وجوه مباحة - قَالَ: لَا وَالله! لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم »، حتى نفسه زهدت في هذا المباح مِن شدَّة العناية والالتزام بما جاء عن النَّبيِّ -صلوات الله وسلامه عليه.

    ثبات العلم ورسوخه

    الأمر السابع في هذا الباب: أنَّ العناية بالعمل سببٌ لثبات العلم ورسوخه وقوَّته، وإذا تُرك العمل ذهب العلم، كما جاء عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّه قال: «هتف بالعلم العمل؛ فإنْ أجابه وإلَّا ارْتحل» يعني لا يبقى؛ فالعمل بالعلم سببٌ لثباته؛ ولهذا جاء عن الشَّعبيّ -رحمه الله- أنَّه قال: «كنَّا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به» ، وجاء عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنَّه قال : «إنَّك لن تكون عالماً حتَّى تكون متعلِّمًا، ولن تكون متعلِّمًا حتَّى تكون عاملًا بما تعلَّمتَ»، وفي هذا المعنى العظيم يُنقل عن السَّلف -رحمهم الله- نصوصٌ كثيرة، وإذا نظر أيضًا المسلم إلى الواقع العملي في حياة السَّلف، يجد ذلك واضحًا جليًّا في سِيَرِهم العطرة وأخبارهم المباركة -رضي الله عنهم ورحمهم- وألحقنا جميعًا بالصَّالحين من عباده .

    العمل بالعلم أبلغ في الدَّعوة

    الأمر الثامن: أنَّ العمل بالعلم أبلغ في الدَّعوة من القول بلا عمل، قد مرَّ معنا قول الله -سبحانه وتعالى- عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}(هود:88)، جاء عن مالك بن دينار أنَّه قال: «إنَّ العالِم إذا لم يعمل زلَّت موعظتُه عن القلوب»، وجاء عن المأمون أنَّه قال: «نحنُ إلى أن نوعَظَ بالأعمال أحوجُ من أن نوعَظَ بالأقوال»؛ لأنَّ الَّذي يعمل ويواظب؛ فعمله ومواظبته على العمل هي بحدِّ ذاتها دعوة، ويكون بذلك للنَّاس أسوةً وقدوةً، ويكون فعلًا إمامًا، قال -تعالى-: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}(الفرقا ن:74)، لا يكون الإنسان بهذه المنزلة إمامًا، إلَّا إذا اجتمعت فيه صفات الخير؛ بحيث يكون قدوة للنَّاس في صفات الخير، أمَّا أن يستكثر من العلوم، ولا يكون من أهل العمل؛ فهذا كما أنَّه لم ينتفِع، لا يُنتفعُ بعلمه.

    مواقف مؤثِّرة

    وأَذكر من المواقف المؤثِّرة: أنَّني مرَّة زُرْتُ أحدَ المسنِّين من العبَّاد في المسجد الَّذي يصلِّي فيه، وكان صاحبَ عبادةٍ ويجلس في المسجد - انتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة - فسلَّمت عليه وتحدَّثت معه وقلت له: ما شاء الله في حيِّكم هذا مجموعة من طلبة العلم، قال: حيُّنا هذا! قلت: إيْ نَعَم، في حيِّكم مجموعة - ما شاء الله - من طلبة العلم، قال: حيّنا هذا! - يُعِيدُهَا عليَّ، استفهام إنكاري! - قال: حيّنا هذا؟! قلت: نعم، قال: يا وَلَدِي! الَّذي لا يحافظ على الصَّلاة ما هو طالب علم .

    أين أثر العلم؟

    ولهذا أحيانًا بعض النَّاس قد يستكثر من العلوم والحفظ والمذاكرة، لكن تفقده - خاصَّة في صلاة الفجر -، إذا كانت الفريضة العظيمة - الَّتي أعظم أركان الإسلام بعد الشَّهادتين، وأوَّل ما يُسأل عنه يوم القيامة - إذا كان مضيعاً لها؛ فأين أثر العلم؟! يُفتقد في صلاة الفجر والصَّحابة -رضي الله عنهم- كما جاء عن ابن عمر: «كنَّا إذا فقَدنا الرَّجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظَّنَّ»، وفي الحديث: «إنَّ أثقل صلاة على المنافقين صلاةُ الفجر وصلاةُ العشاء»، وفي زماننا هذا - زمن السَّهر باللَّيل - كثيرًا ما تُضيَّع صلاة الفجر، وكثيرًا ما يُفرَّط فيها، وربَّما بعضهم يسهر اللَّيل في مناقشات علميَّة في بعض المسائل، أو في بعض الموضوعات، ثمَّ ينام عن صلاة الفجر، لو كان يَسهر باللَّيل على القرآن حفظًا له وقراءةً له، إذا كان على حساب صلاة الفجر؛ فإنَّ سهره محرَّم ولا يحلُّ له، ويَأثَم على ذلك السَّهر، وأكثر صلاةٍ تُضيَّع في هذا الزَّمان، هي أفضل الصَّلوات على الإطلاق أتدرون ما هي؟ جاء في الحديث وقد حسّنه الألباني -رحمه الله- في بعض كتبه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ عند الله صَلَاةُ الصُّبْح يَوْمَ الجُمُعَةِ في جَمَاعَةِ» حسنه الألباني بهذا اللفظ، وصلاة الصُّبح يوم الجمعة في جماعة هي أكثر صلاة تُضيَّع الآن!

    اللَّهمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ عِلمًا نَافِعًا

    الأمر التاسع -وقد مرَّ معنا-: أنَّ النَّبيَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- كان كلَّ يوم - كما قدَّمت من حديث أمِّ سلمة -رضي الله عنها- يُواظب على الدُّعاء بــ: «اللَّهمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ عِلمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا»، وكنت أريد أن أقف وقفة موسَّعة بعض الشيء مع هذه الدعوة، لكن أشير باختصار أن هذه الدَّعوة مناسبة غاية المناسبة في صَدْر اليوم وبدايته؛ لأنَّ اليوم هو ميدان الأعمال، وأهداف المسلم في يومه هذه الأمور الثَّلاثة لا رابع لها: علمٌ نافع، وعملٌ متقبَّل، ورزق طيِّب؛ ولهذا من المناسب أن تبدأ يومك بعد أن تصلِّيَ الفجر بهذه الدَّعوة: «اللَّهمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا» ثمَّ تنطلق في يومك وقد استعنتَ بالله وطلبتَ مدَّه وعونَه في طلب العلم، والاجتهاد في العمل، وتحصيل الرِّزق .

    ذمُّ مَنْ لا يشتغل بالعمل

    الأمر الأخير: أنَّ السَّلف -رحمهم الله- وَرَدَ عنهم نقولٌ كثيرة جدًّا في ذمِّ مَنْ لا يشتغل بالعمل ولا يعتني بالعمل، يُنقل عنهم نقول عديدة لعلها تُراجع في كتاب (اقتضاء العلم العمل)، قد جمع الخطيب -رحمه الله تعالى- فيه نقولاً عظيمة، ومن جميل ما يُنقل في هذا الباب: أنَّ سفيان -رحمه الله تعالى- سُئِل، قيل له: طلب العلم أحبُّ إليك أو العمل؟ فقال: «إنَّما يُراد العلم للعمل، فلا تَدَع طلب العلم للعمل، ولا تدَع العمل لطلب العلم» كلمة عظيمة جداً .

    وصيَّة عظيمة

    وهذه وصيَّة عظيمة وبليغة ونافعة ومؤثِّرة للخطيب البغدادي -رحمه الله- في كتابه «اقتضاء العلم العمل»، يقول -رحمه الله-: «إنِّي موصيك - يا طالبَ العلم - بإخلاص النِّيَّة في طلبه، وإجهاد النَّفس على العمل بموجَبه؛ فإنَّ العِلمَ شجرةٌ، والعَمَلَ ثمرةٌ ، وليس يُعدُّ عالمـًا مَنْ لم يَكُن بعلْمِه عاملًا ، فلا تَأْنَس بالعمل ما دُمْتَ مستوحشًا من العلم، ولا تَأْنَسْ بالعلم ما كنتَ مقصِّرًا في العمل ، ولكن اجْمَع بينهما وإن قلَّ نصيبُك منهما ، وما شيءٌ أضعف مِنْ عالمٍ تَرَكَ النَّاس عِلْمَه لفساد طريقتِه، وجاهلٌ أخذ النَّاسُ بجهله لنَظَرِهم إلى عبادته، والقليلُ مِنْ هذا مع القليل مِنْ هذَا أنجى في العاقبة، إذا تفضَّل الله بالرَّحمة وتمَّم على عبدِه النِّعمة؛ فأمَّا المدافعة والإهمال، وحبُّ الهُوَيْنَا والاسترسال، وإيثارُ الخفض والدَّعة، والميلُ مع الرَّاحة والسَّعة؛ فإنَّ خواتيم هذه الخصال ذميمةٌ، وعُقباها كريهةٌ وخيمةٌ ، والعلم يُراد للعمل، كما العمل يُراد للنَّجاة؛ فإذا كان العمل قاصرًا عن العلم، كان العلم كَلًّا على العالِم، ونعوذ بالله من علمٍ عاد كلًّا، وأورث ذلًّا، وصار في رقبة صاحبِه غلًّا » انتهى كلامه -رحمه الله.





    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •