حسد قتل صاحبه


قصةٌ كثيرًا ما تتكرَّر في أوساط المسلمين المتديِّنين حاملي لواء الدعوة، والعاملين ضمْن جماعاتٍ أسمَى أهدافِها نَشْرُ الدِّين، ودعوةُ الناس إلى الهداية والتوبة، وأرقَى أساليبِها النُّصْحُ والحِكمة، والموعظة الحسَنة.

إذ يجدُر أن يُرافق هذا الداعيَ وتلك الداعيةَ - إنْ صحَّتِ التسميةُ - مواصفاتٌ مِن شأنها أن تَرْقَى بهذا الإنسان، فيَعْلُوَ عن أخلاقٍ سيئةٍ كان يتَّصف بها، ويتحلَّى بغيرها مِن الصفات الأخلاقية الكريمة مِن تأدُّبٍ، وعطفٍ، وسَعة صدرٍ، وتضحيةٍ، وبذْل للآخر.

وليس القصد بالداعية العالِم، وإنما العامِل في صفوف الدعوة إلى الله، لا سيما في صفوف العمَل الجماعي المنظَّم.

فهل أساس بُنيان الدعوة إلا منهجٌ واضح، واتِّباعٌ حقيقيٌّ لِسُنَّة الله ورسوله، وتضحية لرفع راية الحق، ودهس رايات الباطل التي عمَّتْ وعُمِّمتْ وانتشرتْ؟!

التضحية والبَذْل وحُبُّ الآخر مِن أسمى معاني الدعوة؛ فالدعوة إلى الله حُبٌّ؛ حُبٌّ لِخَلْق اللهِ، وخوف عليهم مِن الانزلاق في مَزالق الباطل - وما أكثرَها! - حُبُّ الجَنَّة لهم، وبُغض النار أن تُحيط بهم، حُبُّ الخير لهم، وكُره الشرِّ نحوهم.

ولا يَخفَى علينا ما يحمله الداعيةُ في قلبه مِن رغبةٍ جامحةٍ في أن يُكسِب دعوتَه مَن يحمل همَّ الإسلام والمسلمين، ودحض الممارسات الخاطئة له مِن أهله، وإعادة الثقة للمسلمين بدينهم، وأن يتحقَّق على يديه التغيير؛ فالدمُ الجديد في صفوف الدعوة مطلوب، والحثُّ عليه والسعي إليه أساسٌ لاستمرارها، وهذا العامِل في أحد ميادينها الواسعة في يده كنوزٌ نفيسة عظيمة يرعاها ويحتضنها، ويُسأل عنها، طاقاتٌ كامنة للمستقبل، ومواهبُ لم تَتفجَّرْ بعدُ، وطموحاتٌ لم تُترجَم لواقع، طاقاتٌ لا تنحصر بعُمر، أو مهنة، أو حالة اجتماعية؛ فكلٌّ يستطيع خدمةَ ديننا بحسب طاقته، ومجاله، وعلمه.

لكن، في ظلِّ تلك المشاعرِ التي تنتاب الداعيةَ مِن سعيٍ دؤوب لكسْب الطاقات، وشحذِ الهمم، وجمعِ المواهب الحيَّة - تبرز مشكلةٌ مِن أعظم المشكلات وأخطرها على الإسلام وأهله، وبين صفوف الجماعة الواحدة، وهي أُولى الشدائد التي يتعرَّض لها الخادمُ لِدِينِ الله.

فأيُّ إيمان يَعْمُر القلبَ بعدُ، وقد تملَّك الحسَدُ قلوبَ هؤلاء، واستحوذتِ الغَيْرة والأنانية وحُبُّ الظهور على قلب العامِل لِدِين الله، حتى بقيَ لِحُبِّ الدِّين والخير والبذْلِ النَّصِيبُ الضَّحل؟!

لكنَّ إيمان المؤمن لا يحتاج إلى ادِّعاء؛ لأنَّ سلوكه يُصَدِّق ذلك الإيمانَ أو يُكَذِّبه، ولا بدَّ للداعية حينها أن يراجع حساباتِه مع الله، أن يُعيد النظر في نيَّته وإخلاصه له - سبحانه.

فكيف بالداعية الحاسد أن يُدرِّب غيرَه مِن المُنخَرطين في صفوف الدعوة الجُدُد، على ما اكتسَبه مِن خبراتٍ دعويَّة، وهو يَشعر في نفسه أنه أحقُّ مِن هذا الراكبِ الجديد بالاهتمام والرعاية، والتقدير والتحفيز، وقد سَبَقه بسنواتٍ طِوال، وحُملت الدعوة على أكتافه وأكتاف غيره؟!

وكيف بدعوةٍ تَكْبُر وتَنتشر، وبدِين يَحْكم ويَنتصر، وقد بخِل بعضُ العاملين لخدمة دِين الله، مِن خدمة عباده؟! كيف بهم يُحبِطون عزائم مَن ركبوا في مركب الدعوة في حماسٍ وحبٍّ وحُرقةٍ للإسلام، وما يتعرَّض له مِن عداءٍ يَقْوَى عَضُدُه، ويشتدُّ ساعِدُه يومًا بَعد يوم؛ حتى تَفتُر هِمَّة الأخ الجديد أو الأخت الجديدة، ويصطدم بواقعٍ رسَمَه بعضُ الغيورين الحاسدين مِن العاملين في جماعات الدعوة؟!

ليس المقصود هنا التعميم؛ فمِن الدُّعاة مَن جعَل نفسَه جسرًا يَعبُر عليه غيرُه، وسُلَّمًا يَصْعد به كلُّ شَغُوف للدعوة، مُحِبٍّ للإسلام، فلا يَكتم علمَه وخبرته عنهم؛ بل يترصَّد الفُرَص لِبَثِّ هذا العلمِ والخبرة فيهم.

لكن الحسَد آفةٌ حذَّر منها نبيُّنا - صلى الله عليه وسلَّم – وأقرَّ وجودَها وحدَّث عنها؛ إذ إنها أول طريق الفشَل، يَهوي بها صاحبُها إلى التَّهلُكة، فيُحبَط عملُه، ويُرَدُّ في وجهه، وإن بعضَ الداعيات للإسلام يَلْمَسْنَ هذا الواقع، ويَصْطدمْنَ به، ويُعَانِينَه.

فواللهِ، خاسرٌ خاسرٌ مَن أفنَى روحَه ونفسَه وجسَده لِخدمة دِين الله، ثم أَحبَط عملَه بيده، ولم يُخلِص نيَّته، ولم يُحسِن لِدعوتِه وإخوانِه، ولم يمتلك الحكمةَ والحُبَّ لِيُقَرِّب غيرَهُ لأشرف مهنة في الأرض؛ بل هاجمَه وصَدَّه، واستحكَم بحداثة عهدِهِ في الدعوة؛ لأنَّ الشيطان قد زيَّن له عملَه، فساءتْ أعمالُه وأقواله، وأعمَى الشيطانُ عينيه عن إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولا يخفى ما قد يُسيء هذا الإنسانُ للجماعة المسلمة بأسْرها، ويُفقِدها بعضَ الطاقات المهمَّة والمهتمَّة.

إذا تحقَّق ذلك، فقد قتَل الحسَدُ صاحبَه.
فليُخاطِب كلُّنا نفسَه بهذه الآفة الخطيرة؛ لِنُطهِّر قلوبَنا منها.

عصَمَنا اللهُ مِن الحسَد وحُبِّ الأنا وأهلِه، وثبَّتنا على التضحية والبذل والوفاء.
______________________________ _________________________
الكاتب: ريما حلواني