تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: كيف ينال المؤمن درجة ومرتبة الصديقية؟

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    11,596

    افتراضي كيف ينال المؤمن درجة ومرتبة الصديقية؟

    كيف ينال المؤمن درجة ومرتبة الصديقية؟


    د. محمود عبدالعزيز يوسف

    كيف ينال المؤمن درجة ومرتبة الصِّدِّيقيَّة؟

    هل درجة الصِّدِّيقيَّة خاصَّةٌ بالصحابة، وقد انتهت؟ أم من الممكن أن ينالها الناسُ إلى قيام الساعة؟دلَّ القرآنُ والسنةُ على أن من المؤمنين "الصدِّيقين والشهداء والصالحين"، وأنهم في الفَضْل والمنزِلة على هذا الترتيب، فأفضَلُ المؤمنين هم الأنبياء، ثم الصِّدِّيقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون، فأعلى مرتبة يصل إليها أتباعُ الأنبياء أن يكونوا صِدِّيقِينَ. قال ابن القيم رحمه الله: "فالصِّدِّيقُ هو الذي صَدَقَ في قوله وفِعْلِه، وصَدَّقَ الحقَّ بقولِه وعَمَلِه، فقد انجذَبَتْ قواهُ كُلُّها للانقياد لله ولرسوله"، ودرجاتُ الصِّدِّيقينَ تتفاوَتُ؛ لأنَّ الإيمان ليس له حَدٌّ ينتهي إليه؛ بل إنه يَزيدُ بالطاعة، وينقُص بالمعصية، وهذا مُعتقَدُ أهل السنة والجماعة، فمن ظنَّ أن هناك درجاتٍ إيمانيةً يقِفُ عندها المؤمن صِدِّيقًا كان أو صالحًا، فقد أخطأ؛ قال تعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾ [المدثر: 37]. قال ابن القيم: "فإن لم يكن في تقدُّم، فهو في تأخُّرٍ ولا بُدَّ، فالعَبْدُ سائرٌ لا واقِفٌ، فإمَّا إلى فوق وإمَّا إلى أسفل، إمَّا إلى أمام وإمَّا إلى وراء، وليس في الشريعة أو الطبيعة وقوفٌ البتة". ما هي أعلى درجة يمكن أن يصل إليها المؤمن؟أعلى مرتبة يُمكن أن يصلَ إليها المؤمنُ الذي ليس من الأنبياء، ولا من الصحابة، ولا من السَّلَف، هي درجة الصِّدِّيقيَّة. لصِّدِّيقيَّة أعلى المراتب بعد النبوَّة:مدَح اللهُ سبحانه الصِّدِّيقِينَ في كتابه؛ فقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 41]، وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 56]. والصِّدِّيق: هو الذي يثبُت صِدْقُ إيمانه في جميع المواقف الصعبة، والناس يتفاوتُونَ في التعامُل مع هذا البلاء: فبعضُهم قد يشُكُّ في حِكْمة الله، وبعضُهم قد يُسيء الظَّنَّ به سبحانه، وبعضُهم يتعجَّبُ، إلَّا أن القليل الذي يُسلِّم أمره لله تعالى، فيكون صادقًا في إيمانه، فالصِّدْق يظهَر في المواقف الصعبة؛ قال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2]، ولكي نكون صِدِّيقِينَ، فعلينا أن نصدُق في إيماننا في جميع المواقف؛ وإلَّا فلو كان الصِّدْق في بعض المواقف دون البعض، فهذا نزول عن درجة الصِّدِّيقين، ولننظُر في رحلة إسراء نبيِّنا محمدٍ، كذَّب المشركون، وسكَتَ بعضُ المسلمين مُتعجِّبِينَ من هذه الرحلة ولم يُكذِّبُوا.. بل مجرد تفكير. وسعى رجلٌ من المشركين إلى أبي بكر؛ فقال: هذا صاحِبُكَ يزعُم أنه قد أُسرِيَ به الليلةَ إلى بيت المقْدِس، ثم رجع من ليلته! فقال أبو بكر: أوَقال ذلك؟ قالوا: نَعَم، فقال أبو بكر: فإني أشهدُ إن كان قال ذلك، لقد صَدَقَ، وهذا موقفٌ صَعْبٌ؛ لأنَّ في ذلك الزمان لم تكن عندهم مواصلات مثل أيامنا هذه؛ لكن لاحِظْ أبا بكر صَدَّق مباشرةً دون تفكيرٍ؛ فسُمِّي الصِّدِّيق. فلنَكُنْ صِدِّيقِينَ، يظهَر صِدْقُنا في إيماننا بالله ورسوله في كلِّ موقفٍ وفي كل حين، لا نُقَدِّم الحياةَ الدنيا على الدِّين؛ بل نتَّخِذ الدنيا زادًا للآخرة التي نحن بها مُوقِنون. فما هي الصِّدِّيقية، وتعريفها، وأهميتها، وحقيقتها، ومراتبها وأنواعها وأحوالها ودرجاتها؟تعريف درجة الصِّدِّيقية: هي كمال الإخلاص، والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرًا وباطنًا.من هم الصِّدِّيقون؟قا ل الخازِنُ رحمه الله: "الصِّدِّيق: الكثير الصِّدْق، والصِّدِّيقون هم أتباعُ الرُّسُل الذين اتَّبعُوهم على مناهجهم بعدهم، حتى لحقوا بهم، وقيل: الصِّدِّيق هو الذي صَدَّق بكُلِّ الدِّين، حتى لا يُخالِطَه فيه شَكٌّ". وقال القرطبي رحمه الله: "الصِّدِّيقُ: فِعِّيلٌ، الْمُبالِغُ فِي الصِّدْقِ أو في التَّصْدِيقِ، وَالصِّدِّيقُ هو الذي يُحَقِّقُ بِفِعْلِهِ مَا يَقُولُ بِلِسانِهِ، وقِيلَ: هُم فُضَلاءُ أتْباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق؛ كأبي بكر الصديق"، وقال السعدي رحمه الله: "الصِّدِّيقون: هم الذين كملوا مراتبَ الإيمان والعمل الصالح، والعلم النافع، واليقين الصادق". وقال ابن القيم رحمه الله: "أعلى مراتبِ الصِّدْقِ: مرتبةُ الصِّدِّيقِيَّة ِ، وهي كَمالُ الانقِيادِ للرسول صلى الله عليه وسلم مع كَمالِ الإخلاصِ لِلْمُرْسِلِ"، فمن اتَّبع الصدِّيقِين على ما هم عليه من الصِّدْق والتصديق، والتقوى والصلاح: كان منهم، وحُشِر معهم؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69]. فمن أراد تَحرِّي هذه المنزلة، وأن يَمُنَّ اللهُ بها عليه، ويكون من أهلها: فعليه بالصِّدْق التامِّ في القول والفعل، وبتقوى الله في السِّرِّ والعَلَن. والصِّدِّيق مأخوذة من الصِّدْق، كثير التَّصْديق أو دائم التَّصْديق لله تعالى وللرُّسُل، والمفسِّرون فسَّرُوا الصِّدِّيق والصِّدِّيقة التي وردَتْ في القرآن الكريم بهذا المعنى؛ قال تعالى: ﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ... ﴾ [المائدة: 75]، وقال تعالى: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا... ﴾ [يوسف: 46]، وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 56]، وقال تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ [النساء: 69]. فالقول الأول: أنَّ معنى الصِّدِّيق في هذه الآيات هو أنه كثيرُ الصِّدْق ودائمُ التصديق، وقد سُمِّي أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالصِّدِّيق؛ لأنه صَدَّق بالرسول صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كذَّبَتْ به قريش، وصدَّق به قبل كلِّ الناس. والقول الثاني: أن الصِّدِّيقِينَ مُشتقَّةٌ من العُلُوِّ والرِّفْعة، وقد وُصِفَ بها بعضُ الأنبياء؛ كإبراهيم وإدريس ويُوسُف، وممَّا يُؤيِّد هذا القول أن هؤلاء الأنبياء لما وُصِفُوا بالصِّدِّيقِينَ لم يكونوا مصدقِينَ.فالصِّ ِّيق مرتبة يمكن أن تكون للأنبياء، ويُمكن أن ينالها أتباعُ الأنبياء؛ كأبي بكر الصِّدِّيق وغيره. والصدِّيقون كثيرون، والصحيح أن الصِّدِّيقين هم من غير حَصْرٍ، وهم مَنْ أطاع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتَّبَع هُداهما، فالصِّدِّيقون قد يكونون من الأنبياء، وقد يكونون من الناس أتباع الأنبياء، والصحابة، والتُّجَّار، والعلماء، والصالحين، وفي الحديث: "التاجِرُ الأمينُ الصَّدُوق مع النبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداء يوم القيامة"؛ (رواه الترمذي والدارمي والحاكم). والناس مراتب، وأعلى المراتب مرتبةُ الرسل، ثم الأنبياء، ثم الصِّدِّيقِينَ، ثم الشهداء، ثم الصالحين. الصالح يُوصَف به جميعُ المؤمنين بالله من الأنبياء وغير الأنبياء عند الإطلاق؛ ولكن إذا ضُمُّوا إلى الرسل، فإن الصالحين هم أصحاب المرتبة الرابعة، وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾ [الحديد: 19]؛ يقول الطبري: "والذين أقرُّوا بوحدانية الله وإرساله رُسُلِه، فصَدَّقُوا الرسل، وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربِّهم أولئك هم الصِّدِّيقون". ودرجة الصِّدِّيقيَّة: باقية وليست قاصرة على طبقة الصحابة والسَّلَف الصالح، وإن كانوا هم بلا ريبٍ رؤوس الصِّدِّيقين وأكابرهم، لكن مَن عمِل بعملهم وسارَ على طريقهم، واتَّبَع سُنَّتَهم كان منهم. وممَّا يدُلُّ على ذلك أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني شهِدتُ أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصلَّيْتُ الصلوات الخمس، وصُمْتُ رمضان وقُمْتُه، وآتيْتُ الزكاة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ ماتَ على هذا كان من الصِّدِّيقين والشهداء))؛ قال المنذري: رواه البزَّار بإسناد حسن، وابن خزيمة في صحيحه، وابن حِبَّان، وصحَّحه الألباني. وروى الترمذي وحسَّنه من حديث أبي سعيد مرفوعًا: ((التاجِرُ الصَّدُوق الأمين مع النبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداء)).وه ا هو مذهب جمهور أهل العلم من المفسِّرين وغيرهم، أن ذلك عامٌّ في كل من هذه صِفَته.قال ابن الجوزي: الجمهور على أن النبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداء والصالحين عامٌّ في جميع من هذه صفته.وقال عكرمة: المراد بالنبيِّين ها هنا: محمد، والصِّدِّيقينَ: أبو بكر، وبالشهداء: عمر، وعثمان، وعلي، وبالصالحين: سائر الصحابة. قال التستري العلماء ثلاثة: عالم بالله لا بأمر الله ولا بأيام الله، وهو عامَّة المؤمنين، وعالم بالله وبأمر الله لا بأيام الله، وهم العلماء، وعالم بالله وبأمر الله وبأيام الله وهم النبيُّون والصِّدِّيقون.و يل: الصِّدِّيقون هم العلماء العاملون. قال ابن القيم: "أولو العلم الذين قاموا بما جاء به صلى الله عليه وسلم علمًا وعملًا وهدايةً وإرشادًا، وصبرًا وجِهادًا، وهؤلاء هم الصِّدِّيقون، وهم أفضل أتباع الأنبياء، ورأسُهم وإمامُهم الصِّدِّيق الأكبر أبو بكر. والصِّدِّيقيَّة : هي كمال الإيمان بما جاء به الرسول علمًا وتصديقًا وقيامًا، فهي راجعة إلى نفس العلم، فكلُّ مَنْ كان أعلمَ بما جاء به الرسولُ، وأكمَلَ تصديقًا له كان أتمَّ صِدِّيقِيَّة. والتحقيق أنَّ مَنْ يُصَدَّقُ عليه وَصْفُ الصِّدِّيقِيَّة من أهل العلم هم طائفةٌ مخصوصةٌ منهم، وهم من وفَّى العِلْمَ حقَّه من الطَّلَب والعمل والدعوة. قال ابن القيم: بعد أن ذكر حديث الحَسَن مرفوعًا: من جاءه الموت وهو يطلُب العلم ليُحيي به الإسلام، فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجة النبوَّة، قال: وهذا وإن كان لا يثبُتُ إسنادُه فلا يبعُد معناه من الصِّحَّة، فإن أفضل الدرجات النبوَّة، وبعدها الصِّدِّيقيَّة، وبعدها الشهادة، وبعدها الصلاح، فمن طَلَبَ العِلْمَ ليُحيي به الإسلام فهو من الصِّدِّيقين، ودرجتُه بعد درجة النبوَّة. المفاضلة بين العلماء والشهداء: فقد حقَّقَها ابنُ القيِّم بكلام متينٍ، خلاصتُه أن الفضيلة فيهما تابعةٌ لتحقيق صفة الصِّدِّيقيَّة، فمن تحقَّق بها من العلماء، أو الشُّهَداء فهو الفاضل، وختَم كلامَه بقوله: فإن جرى قَلَمُ العالم بالصِّدِّيقيَّة ، وسال مِدادُه بها، كان أفضلَ من دَمِ الشهيد الذي لم يَلْحَقْه في رُتبة الصِّدِّيقية، وإن سال دمُ الشهيد بالصِّدِّيقية وقطر عليها، كان أفضل من مِدادِ العالم الذي قصر عنها، فأفضلُهما صديقهما، فإن استوَيَا في الصِّدِّيقيَّة استويا في المرتبة. الصالحون هم أهل طاعة الله تعالى ممَّن لم يَصِلْ إلى درجة الصِّدِّيقيَّة والشهادة، فهي لعامَّة المؤمنين؛ قال ابن الجوزي: وأمَّا الصالحون فهم اسم لكُلِّ من صَلَحَتْ سَريرتُه وعَلانيتُه.الله احشُرْنا في زُمْرة أولئك الذين أنعمت عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهَداء، وحَسُن أولئك رفيقًا. الصِّدِّيقيَّة أرفع درجة ومرتبة يبلغها المؤمن:مفتاح الصِّدِّيقية:في الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الصِّدْقَ يهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنة، وإنَّ الرَّجُل ليصدق حتى يُكتَبَ عند الله صِدِّيقًا)). فجعل الصدق مفتاح الصِّدِّيقيَّة ومبدأها، وهي غايته، فلا ينال درجتَها كاذبٌ البتة، لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله، ولا سيَّما كاذب على الله في أسمائه وصفاته، ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه، فليس في هؤلاء صِدِّيق أبدًا، وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرَّمَه وتحريم ما لم يُحرِّمْه، وإسقاط ما أوجبَه وإيجاب ما لم يُوجِبْه، وكراهة ما أحَبَّه واستحباب ما لم يُحِبَّه، كلُّ ذلك مُنافٍ للصِّدِّيقيَّة. الصِّدِّيقيَّة أعلى مراتب الصِّدْق: قال ابن القيم: "فأعلى مراتب الصِّدْق: مرتبة الصِّدِّيقيَّة، وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسِل".أنواع الصِّدِّيقية:1- الصدق في الأقوال.2- الصدق في الأعمال.3- الصدق في الأحوال:استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوُسْع، وبَذْل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاؤوا بالصِّدْق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صِدِّيقيَّتُه؛ ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ذِروة سَنام الصِّدِّيقية، سُمِّي الصِّدِّيق على الإطلاق، والصِّدِّيق أبلغ من الصَّدُوق، والصَّدُوق أبلَغُ من الصَّادِق. كيف يبلغ الإنسان درجة الصِّدِّيقين؟عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصِّدْقَ، حتى يُكتَبَ عند الله صِدِّيقًا))، ومن حديث عمرو بن مُرَّة الجهني، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيْتَ إن شهدتُ أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصَلَّيْتُ الصلوات الخمس، وأدَّيْتُ الزكاة، وصُمْتُ رمضانَ، وقُمْتُه، فمَنْ أنا؟ قال: ((من الصِّدِّيقين والشهداء))؛ أخرجه ابنُ حِبَّان في صحيحه، وفي رواية ابن خزيمة: ((مَنْ ماتَ على هذا كان من الصِّدِّيقينَ والشُّهَداء)). فكيف تصل إلى مرتبة الصِّدِّيقين؟الصِّدِّيق في المرتبة الثانية من مراتب المؤمنين بعد مرتبة النبوَّة، وتلك هي مراتب أولياء الله الذين أنعَمَ الله عليهم بالعلم النافع والعمل الصالح؛ كما قال الله سبحانه: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ [النساء: 69].فالرجل الذي يتحرَّى الصدق يُكتَبُ عند الله صِدِّيقًا، ومعلومٌ أنَّ الصِّدِّيقية درجةٌ عظيمةٌ، لا ينالها إلا أفذاذٌ من الناس. فالصدق هو أن يكون المسلمُ صادقًا مع الله في فعل ما أمَرَ اللهُ به، والبُعْد عمَّا نهى اللهُ عنه، وصادقًا مع الناس في فِعْله وقولِه وتَعامُلِه، فمن لم يصدُقْ مع الله لن يصدُقَ مع الناس، والصدق حَسَنة تُثمِر حَسَنةً أكبرَ، وهي البِرُّ، والصدق يرتقي بالمؤمن حتى يتربَّعَ على عَرْشِ الصِّدِّيقيِّين في أعلى علِّيِّين، ولا يمكن أبدًا أن يستقيم المسلمُ على دين الله وطاعته إلا بالصدق، وأن يكون صادقًا في كل شيء، وصادقًا في كل أحواله وأقواله وأفعاله وأعماله، أن يكون صادقًا ظاهرًا وباطنًا، سرًّا وعَلَنًا، وتأمَّلْ وتدبَّر الأفعال: (يهدي - يزال - يتحرَّى) في شطر الحديث الأول "الصدق" فهي سُلَّمٌ إلى مرتبة الصِّدِّيقيَّة، وأن مجاهدة النفس على تحرِّي الصِّدْق تُوصِلُها إلى مرتبة الصِّدِّيقيَّة. وقال ابن القيم: "فمن تعبَّد الله بمراغمة عدوِّه (الشيطان)، فقد أخذ من الصِّدِّيقيَّة بسَهْمٍ وافر، وعلى قَدْرِ محبَّةِ العَبْد لربِّه وموالاته ومُعاداته لعدوِّه يكون نصيبه من هذه المراغمة، ولأجل هذه المراغمة حُمِد التبختُر بين الصَّفَّين، والخُيلاء والتبختُر عند صَدَقةِ السِّرِّ؛ حيث لا يراه إلَّا الله، لما في ذلك من إرغام العدوِّ، وبَذْل محبوبه من نفسِه ومالِه لله عز وجل، وهذا بابٌ من العبوديَّة لا يعرِفُه إلَّا القليلُ من الناس، وصاحب هذا المقام إذا نظر إلى الشيطان، ولاحظه في الذَّنْب راغمَه بالتوبة النصوح، فأحدثَتْ له هذه المراغمة عبوديَّةً أخرى". أحوال مرتبة الصِّدِّيقيَّة:وقد أمر الله تعالى رسولَه أن يسألَه أن يجعلَ مدخلَه ومخرجَه على الصِّدْق؛ فقال: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 80]، وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهِبَ له لسانَ صِدْقٍ في الآخرين؛ فقال: ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84]. وبشَّر عبادَه بأنَّ لهم عنده قَدَمَ صِدْقٍ، ومقعد صِدْقٍ؛ فقال تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ [يونس: 2]، وقال: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾ [القمر: 54، 55]، فهذه خمسة أشياء: مدخل الصِّدْق ومخرج الصِّدْق: فمدخل الصِّدْق ومخرج الصِّدْق: أن يكون دخولُه وخروجُه حقًّا ثابتًا بالله، وفي مرضاته بالظَّفَر بالبُغية، وحصول المطلوب، ضد مخرج الكَذِبِ ومدخلِه الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساقٌ ثابتةٌ يقُوم عليها. ولسان الصِّدْق: فهو الثناء الحَسَن عليه من سائر الأُمَم بالصِّدْق ليس ثناء بالكَذِب؛ كما قال عن إبراهيم وذُريَّته من الأنبياء والرُّسُل عليهم صلوات الله وسلامه: ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴾ [مريم: 50]، والمراد باللسان ها هنا: الثناء الحَسَن، فلما كان الصِّدْق باللسان، وهو محلُّه أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاءً وِفاقًا وعبَّرَ به عنه. وقدم الصِّدْق: وأما قدَمُ الصِّدْق: ففُسِّر بالجنة، وفُسِّر بالأعمال الصالحة، وحقيقة القَدَم ما قدَّمُوه وما يقدمُون عليه يوم القيامة، وهم قدَّمُوا الأعمال والإيمان بمحمد، ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك. ومقعد الصدق: الجنة، وحقيقة الصدق في هذه الأشياء هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل لرضوانه. أعلى درجة الصِّدِّيقية وأكمل الناس فيها: التسليم لله وللرسول من أجل مقامات الإيمان وأعلى طرق الخاصة، وأن التسليم هو مَحضُ الصِّدِّيقية التي هي بعد درجة النبوَّة، وأن أكمل الناس تسليمًا أكملهم صِدِّيقية. الصِّدِّيقية أعظم درجة من جميع الطاعات: كالصيام والقيام... وغير ذلك؛ فما سَبَق الصِّدِّيقُ الصحابةَ بكثرةِ عَمَلٍ، وقد كان فيهم من هو أكثر صيامًا وحجًّا وقراءةً وصلاةً منه؛ ولكن بأمر آخر قام بقلبه حتى إن أفضل الصحابة كان يُسابِقُه ولا يراه إلَّا أمامه؛ ولكن عبودية مجاهد نفسه على لذة الذنب والشهوة قد تكون أشَقَّ، ولا يلزم من مشقَّتِها تفضيلها في الدرجة؛ فأفضل الأعمال الإيمان بالله، والجهادُ أشَقُّ منه، وهو تاليه في الدرجة، ودرجة الصِّدِّيقين أعلى من درجة المجاهدين والشهداء. الصِّدِّيقون أكمل الناس أدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر إلى أدب الصِّدِّيق رضي الله عنه مع النبي في الصلاة بين يدي النبي؛ فقال: "ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدَّمَ بين يدي رسول الله"، كيف أورثَه مقامَه والإمامةَ بالأُمَّة بعده، فكان ذلك أن تأخَّر إلى الخَلْف وقد أومأ إليه ((أنِ اثبُتْ مكانَكَ)).
    الصِّدِّيقون أكثر الناس فِراسة: "كان الصِّدِّيق رضي الله عنه أعظمَ الأمَّة فِراسةً، وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووقائع فِراسته مشهورةٌ؛ فإنه ما قال لشيء: أظنُّه كذا إلَّا كان كما قال، ويكفي في فِراستِه: موافقته ربَّه في المواضع المعروفة". قال ابن القيم رحمه الله: "فأما مراتب الكمال فأربع: النبوة، والصِّدِّيقيَّة ، والشهادة، والولاية، وقد ذكرها الله سبحانه في قوله: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 69، 70]،وذكر تعالى في سورة الحديد الإيمان به وبرسوله؛ فقال: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ﴾ [الحديد: 19]، والمقصود أنه ذكر فيها المراتب الأربعة: الرسالة، والصِّدِّيقيَّة ، والشهادة، والولاية، فأعلى هذه المراتب: النبوَّة والرسالة، ويليها الصِّدِّيقية؛ فالصِّدِّيقُون هم أئمة أتْباع الرسل، ودرجتهم أعلى الدرجات بعد النبوة، والصِّدِّيقيَّة هي أعلى المراتب بعد النبوَّة فهي أعلى ما يمكن أن يصل إليه المؤمنُ من الصحابة أو غيرهم". وقال ابن القيم في موضع آخر: "عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأس الصِّدِّيقين... "؛ ا هـ.ولما انطوى بِساط النبوَّة من الأرض بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَبْقَ على وَجْه الأرض أكمل من درجة الصِّدِّيقيَّة، وأبو بكر رأس الصِّدِّيقين. قال ابن القيم: "أبو بكر سيد الصِّدِّيقين، وعمر وعثمان بعده مباشرة؛ فهما أعلم الناس بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأشدهما تصديقًا له وعملًا به؛ لأن الصِّدِّيقيَّة هي كمال الإيمان بما جاء به الرسول علمًا وتصديقًا وقيامًا به، فكل من كان أعلمَ بما جاء به الرسول، وأكملَ تصديقًا له كان أتمَّ صِدِّيقيَّة"، وقد نالها مَنْ هم دون عمر وعثمان؛ لحديث عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن شهدتُ أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصلَّيْتُ الصلوات الخمس، وأدَّيْتُ الزكاة، وصُمْتُ رمضان وقُمْتُهُ، فممَّن أنا، قال: ((من الصِّدِّيقين والشُّهَداء))؛ رواه البزَّار وابن خزيمة وابنُ حِبَّان في صحيحيهما، وصحَّحه الألباني. والصِّدِّيق وَصْفٌ لمن كثُر منه الصِّدْقُ، وهم ثمانية نفَر من هذه الأُمَّة، سبقُوا أهلَ الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ألحَقَه اللهُ بهم، وإنْ تمَّ به الأربعون لما عرف من صدق نيَّته؛ ا هـ. ومريم عليها السلام صِدِّيقة، وليسَتْ نبيَّةً، وهذه كانت حِكْمة إلهية لكي يخرج الله النصارى من هذا الموضوع فلا يعبدونها ولا يؤلِّهونها، فهي صِدِّيقةٌ؛ لأن الله قال في شأنها: ﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ [المائدة: 75] يأكلون مثلكم؛ يعني: عبيد فلا تزيدوهم عن مقام العبودية؛ ولكن لا تنكروا الخصوصية التي أعطاها لهم ربُّ البريَّة عزَّ شأنه؛ ولذلك فأعظم مقام بعد مقام النبوَّة هو مقام الصِّدِّيقية. وقال ربُّنا عنها: ﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ﴾ [التحريم: 12]، وهذه الآية لا يُفهَم منها مجرَّد الإيمان؛ بل وصلت إلى درجة التصديق (الصِّدِّيقية) بما تكلَّم الله به، وبما أُنزِل في كُتُبِه دون توقَّف أو تردُّد. لا حرج على المسلم أن يدعوَ الله أن يكون من الصِّدِّيقين:علوُّ الهمَّة، وطلب معالي الأمور، والرغبة في مزيد التقرُّب إلى الله بفعل الصالحات وتَرْكِ المنكرات - من الأمور المشروعة المستحبَّة. وأولياء الله تعالى هم الأتقياء من خلقه، فكُلُّ من كان تقيًّا كان لله وليًّا، وتَتَفاوَتُ الولاية بحسب إيمان العبد وتقواه، وأعلى درجاتها بعد منزلة النبوة: منزلة الصِّدِّيقيَّة، وأصحابها هم الصِّدِّيقُونَ. عملٌ إذا عمِله المسلم يكون مع الصِّدِّيقين يوم القيامة:ذلك العمل هو: الصدق والأمانة في التجارة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((التاجِرُ الأمين الصَّدُوق المسلم مع النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداء يوم القيامة))؛ صحَّحه الألباني، فكُلُّ صِدِّيق صالحٌ، وليس كُلُّ صالحٍ صِدِّيقًا. ثبوت لقب الصِّدِّيق لبعض الصحابة بروايات صحيحة:روى البخاري عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدَّثهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أُحَدًا، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم، فقال: ((اثْبُتْ أُحُد؛ فإنما عليكَ نبيٌّ، وصِدِّيق، وشهيدان)). فالشهيدان المقصودان في هذا الحديث هما: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والصِّدِّيق هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه. قال ابن المنير: قيل: الحكمة في ذلك: أنه لما أرجف أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبيِّن أن هذه الرجفة ليست من جنس رجفة الجبل بقوم موسى عليه السلام لما حرَّفُوا الكلم، وأن تلك رجفة الغضب؛ ولهذا نصَّ على مقام النبوَّة والصِّدِّيقية والشهادة التي تُوجِب سُرُور ما اتَّصَلَتْ به لا رجفانه، فأقرَّ الجبل بذلك، فاستقرَّ. قال العلماء في تعليل ذلك: أن الجبل رجف فَرَحًا بمن رَقاهُ مِن الشُّرفاء، ولا رَيْبَ أن النبي صلى الله عليه وسلم أشْرَفُ الخَلْق، وأصحابه أشرف الناس بعد الأنبياء والمرسلين، فالجبل فَرِحَ، فسَكَّنَهُ النبي صلى الله عليه وسلم بقَدَمِه، وقال: ((اثْبُتْ أُحُد)) وأُحُد: جَبَلٌ مُباركٌ، قال فيه صلى الله عليه وسلم: ((أُحُدٌ جَبَلٌ يُحبُّنا ونُحبُّه)) وقد كان عمر يقول قبل أن يُقتَل: اللهمَّ إني أسألُكَ شهادةً في سبيلِكَ، وميتةً في بلد رسولِكَ. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ على حِراءٍ هو وأبو بكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمانُ، وعَلِيٌّ، وطَلْحةُ، والزُّبَيْرُ، فتَحَرَّكَتِ الصَّخْرةُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اهْدَأْ فما عليكَ إلَّا نَبِيٌّ، أو صِدِّيقٌ، أو شَهِيدٌ)). وفي رواية عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على جبل حِراء، فَتَحَرَّكَ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اسْكُنْ حِرَاءُ، فَمَا عَلَيْكَ إلَّا نَبِيٌّ، أَوْ صِدِّيقٌ، أَوْ شَهِيدٌ))، وعليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمانُ، وعَلِيٌّ، وطَلْحةُ، والزُّبَيْرُ، وسَعْدُ بْنُ أبي وَقَّاصٍ رضي الله عنهم. وهذا الحديث مِن الغيب الذي كشَفَه الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم في قوله: ((اثْبُتْ أُحُد؛ فإنما عليك نبيٌّ، وصِدِّيقٌ وشهيدان))، وقد تحقَّق ما قاله صلى الله عليه وسلم؛ فقد قُتِل عمر في محراب رسول الله شَهيدًا، وقُتِل عثمانُ ويده على المصحف الشريف شهيدًا، رضوان الله عليهم أجمعين، وفي الحديث: فضل جبل أحد، وبيان معجزاته صلى الله عليه وسلم المتضمنة: تكليمه للجمادات؛ كما حَنَّ الجِذْعُ إليه، وسلَّم الحَجَرُ عليه، بأبي هو وأُمِّي، صلوات الله عليه. كيف أكون صِدِّيقًا مع ربي؟إنَّ الصدق مع الله تعالى لا يتحقَّق إلَّا بلزوم تقواه، والاستقامة على ما يُحبُّه ويرضاه، بحيث تكون هِمَّةُ العَبْد متعلِّقةً بربِّه ومولاه؛ فقد ذكر الله تعالى آيةً مشتملةً كما يقول ابن كثير على جُمَلٍ عظيمة، وقواعِدَ عميمةٍ، وعقيدةٍ مستقيمةٍ، وهي قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ [البقرة: 177]، ثم قال سبحانه بعد هذه الأوصاف كلها: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177]. قال السعدي: أي: المتصِفُون بما ذُكِر من العقائد الحسنة، والأعمال التي هي آثار الإيمان وبرهانه ونوره، والأخلاق التي هي جمال الإنسان وحقيقة الإنسانية، فأولئك هم الذين صَدَقُوا في إيمانهم؛ لأن أعمالهم صدقت إيمانهم؛ ا هـ. والمقصود أن الصدق مع الله مرتبة عالية لا يصل إليها الإنسان إلَّا ببَذْل نفسه لله، بحيث يكون أمره تبعًا لأمر الله، يُحبُّ ما يُحِبُّ، ويكره ما يكره، ويفعل ما يأمُرُ؛ ولذلك اشتُقَّ من هذه الصفة الجليلة أعلى مراتب العبودية على الإطلاق بعد مرتبة النبوَّة، وهي مرتبة الصِّدِّيقية. فلا بُدَّ لمن أراد الصدق مع الله أن ينظُر في هذه الآية وما فيها من شرائع وشعائر، فيتمثَّلها واقِعًا عمليًّا في حياته.ولا بُدَّ من توطين النفس على الالتزام والطاعة المطلقة لأمر الله، وإنْ كَلَّفَه ذلك الغالي والنفيس، ابتغاء مرضاته تعالى، بحيث يدخُل العبد في السِّلْم كافَّة، ولا يتَّبِع خُطوات الشيطان. فإن الله عز وجل إنما وَصَفَ بالصِّدْق مَنْ وفَّى العبوديَّةَ حَقَّها؛ كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحجرات: 15]، وقال: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8]. فإذا فعل العبد ذلك فليُبشِر بكُلِّ خيرٍ؛ كما قال تعالى: ﴿ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ﴾ [محمد: 21]، فإن الجزاء من جنس العمل، كما رُوي عن شدَّاد الليثي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن تصدق الله يصدقك...))؛ قال الألباني: إسناده صحيح، رجاله كُلُّهم على شرط مسلم، أحكام الجنائز، برقم: (80). وعن أنس بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أراد أن يعلم ما لَه عند الله جَلَّ ذِكْرُه، فلينظُر ما لله عز وجل عنده))؛ قال الألباني في السلسلة الصحيحة حَسَنٌ لشواهده. قال المناوي: زاد الحاكم في روايته: فإن الله يُنزِلُ العبد منه حيث أنزله من نفسه، فمنزلة الله عند العبد في قلبه على قدر معرفته إيَّاه، وعلمه به وإجلاله وتعظيمه والحياء والخوف منه، وإقامة الحرمة لأمره ونهيه، والوقوف عند أحكامه، بِقَلْبٍ سليم ونَفْسٍ مُطمئنةٍ، والتسليم له بَدَنًا ورُوحًا وقَلْبًا، ومراقبة تدبيره في أموره، ولزوم ذكره والنهوض بأثقال نِعَمِه ومِنَنِه، وترك مشيئته لمشيئته، وحُسْن الظنِّ به، والناس في ذلك درجاتٌ، وحظوظهم بِقَدْر حظوظهم من هذه الأشياء، فأوفرهم حظًّا منها أعظمهم درجةً عنده، وعكسه بعكسه. إيثار العبد لله على كل ما سواه هي درجة الصِّدِّيقية، وهي أكمل صور الولاية لله التي يبلغها المؤمن حين يبلغ مرتبةَ الإحسان في الدين، التي تلي درجة النبوَّة، كما قال أبو بكر الصديق حين جاء بصَدَقَتِه وبماله كله، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما تركْتَ لأهلِكَ؟))، قال: الله ورسوله، بينما جاء عمر بنِصْفِ مالِه ليُنفِقَه في سبيل الله ظنًّا منه أن يَسْبِقَ أبا بكر الصِّدِّيق! فقد بلغ أبو بكر درجةَ الصِّدِّيقيَّة بهذا الإيثار لمرضاة الله على كلِّ ما سُواه، حين استغنى بالله ورسوله، وآثَرَهما على كلِّ ما سواهما؛ ولهذا قال الحسن البصري: "لم يسبقْهم أبو بكر بكثيرِ صومٍ ولا صلاة؛ وإنما بشيء وقَرَ في قلبه"، ولا تتمُّ الصِّدِّيقيَّة إلَّا بكمال المراقبة لله، وكمال العبوديَّة له، كما في الصحيح: ((قال أخبرني عن الإحسان؟ قال أن تعبُدَ اللهَ كأنَّكَ تراهُ، فإنْ لم تكُنْ تراهُ، فإنَّه يراكَ))، وكما في الصحيح: ((مَنْ عادى لي وليًّا، فقد آذنْتُه بالحرب، وما تقرَّبَ إليَّ عَبْدي بشيءٍ أحَبَّ إليَّ ممَّا افترضْتُه عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحْبَبْتُه كنتُ سَمْعَه الذي يسمَعُ به، وبَصَرَه الذي يُبصِرُ به))، فلا تتحقَّق درجةُ الولاية الإحسانية - التي هي أعلى من درجة الولاية الإيمانية - إلَّا بإيثار المؤمن اللهَ على نفسِه وهواه حتى فيما أباحَه اللهُ، وبإخلاص الدين لله، وقد جعل الله درجة الصِّدِّيقيَّة فوق درجة الشهادة؛ كما قال تعالى: ﴿ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ [النساء: 69]، وهذا معنى قول الفضيل: "إيثارُ اللهِ أفضلُ من القتل في سبيله"، فالشهادة أدنى من درجة الصِّدِّيقيَّة، ودرجة الصِّدِّيقيَّة لا تتحقَّق إلَّا بمجاهدة النفس والارتقاء بها علمًا وعملًا وإيماًنا وتقوى ومُراقبةً وعبوديَّةً، ولا يكاد ينالُ شَرَفَها إلَّا من خَصَّه اللهُ بعظيم كرامته من خاصَّةِ أوليائه.




    رابط الموضوع:
    https://www.alukah.net/sharia/0/128576/#ixzz79BKMgrxB

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    11,596

    افتراضي رد: كيف ينال المؤمن درجة ومرتبة الصديقية؟

    من هم الصِّدِّيقون ؟ وما هي صفاتهم ؟

    216829




    السؤال

    من هم الصِدِّيقون وفقاً للقرآن والسنة ؟ وما صفاتهم وفضائلهم ؟ وكيف يمكن للمرء أن يصير واحداً منهم ؟
    الجواب



    الحمد لله.

    أولا :
    علو الهمة ، وطلب معالي الأمور ، والرغبة في مزيد الترقي والتقرب إلى الله بفعل الصالحات وترك المنكرات : من الأمور المشروعة المستحبة ، روى البخاري (7423) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ( إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ ) .
    ولا حرج على المسلم أن يدعو الله أن يكون من الأولياء الصالحين ، أو الصديقين المخلصين .
    انظر جواب السؤال رقم : (145689) .ثانيا :
    أولياء الله تعالى هم الأتقياء من خلقه ، فكل من كان تقيا كان لله وليا ، وتتفاوت الولاية بحسب إيمان العبد وتقواه ، وأعلى درجاتها بعد منزلة النبوة : منزلة الصديقية ، وأصحابها هم الصِّدِّيقُونَ ؛ قال الله تعالى : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء/ 69 .
    وقال تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) الحديد/ 19.
    قال الخازن رحمه الله :
    " الصدّيق : الكثير الصدق ... والصديقون هم أتباع الرسل الذين اتبعوهم على مناهجهم بعدهم ، حتى لحقوا بهم ، وقيل الصديق هو الذي صدّق بكل الدين ، حتى لا يخالطه فيه شك " انتهى من " تفسير الخازن " (1/ 397) .
    وقال القرطبي رحمه الله :
    " الصِّدِّيقُ : فِعِّيلٌ ، الْمُبَالِغُ فِي الصِّدْقِ أَوْ فِي التَّصْدِيقِ ، وَالصِّدِّيقُ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ بِفِعْلِهِ مَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ ، وَقِيلَ: هُمْ فُضَلَاءُ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يَسْبِقُونَهُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ " انتهى من " تفسير القرطبي " (5/ 272) .
    وقال السعدي رحمه الله :
    " الصديقون : هم الذين كملوا مراتب الإيمان والعمل الصالح ، والعلم النافع ، واليقين الصادق " انتهى من " تفسير السعدي " (ص 841) .
    وقال ابن القيم رحمه الله :
    " أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدْقِ : مَرْتَبَةُ الصِّدِّيقِيَّة ِ ، وَهِيَ كَمَالُ الِانْقِيَادِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، مَعَ كَمَالِ الْإِخْلَاصِ لِلْمُرْسِلِ " انتهى من" مدارج السالكين "(2/ 258).
    وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (2424) .
    ثالثا :
    من اتبع الصديقين على ما هم عليه من الصدق والتصديق ، والتقوى والصلاح : كان منهم ، وحشر معهم ، قال تعالى : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) النساء/ 69 .
    فمن أراد تحري هذه المنزلة ، وأن يمن الله بها عليه ، ويكون من أهلها : فعليه بالصدق التام في القول والفعل ، وبتقوى الله في السر والعلن .
    وينظر لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم : (107283) .
    والله تعالى أعلم .

    https://islamqa.info/ar/answers/2168...AA%D9%87%D9%85


  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    11,596

    افتراضي رد: كيف ينال المؤمن درجة ومرتبة الصديقية؟


  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    11,596

    افتراضي رد: كيف ينال المؤمن درجة ومرتبة الصديقية؟

    الصدّيقون ثلاثة ..

    الصدّقون ثلاثة

    قال الرافضي: ((وعن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله (: الصدّيقون ثلاثة: حبيب النجارمؤمن آل ياسين، وحزقيل مؤمن آل فرعون،
    وعليّ بن أبي طالب وهوأفضلهم)).
    والجواب: أن هذا كذب على رسول الله (، فإنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه وصف أبا بكر (بأنه صدّيق. وفي الصحيح عن ابن مسعود (عن النبي (أنه قال: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدِّيقا. وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب هند الله كذابا)) (2).فهذا يبيّن أن الصدِّيقون كثيرون.
    وأيضا فقد قال تعالى عن مريم ابنة عمران إنها صدِّيقة، وهي امرأة. وقال النبي (: ((كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع)) (3).فالصديقون من الرجال كثيرون.
    __________
    (1) رواه النسائي ج2 ص182 وأحمد ج3 ص493 حلبى.
    (2) انظر مسلم ج4 ص 2.12 - 2.13.
    (3) انظر البخاري: مع الفتح ج6 ص446و471،ومسلم: ج4 ص1886.
    وهم الصديقون والشهداء الصالحون

    قوله: (وهم الصديقون والشهداء الصالحون) وقال في الهامش (41/ 69): (اخرج ابن النجار- كما في الحديث 3 مما أشرنا اليه من الصواعق- عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الصديقون ثلاثة حزقيل مؤمن آل فرعون. وحبيب النجار صاحب ياسين وعلي بن ابي طالب، واخرج ابونعيم وابن عساكر- كما في الحديث31 مما أشرنا اليه في الصواعق- عن ابن ابي ليلى ان رسول الله قال: الصديقون ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين قال يا قوم اتبعوا المرسلين، وحزقيل مؤمن آل فرعون قال اتقتلون رجلا ان يقول ربي الله وعلي بن ابي طالب وهوأفضلهم إ. ه. والصحاح في سبقه وكونه الصديق الاكبر والفاروق الاعظم متواترة) إ. ه.
    قلت: استدلاله بهذه الآية لا يقل حماقة عن استدلاله بالسابقة، قال الله عزّ وجلّ في هذه الآية: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك رفيقاً} فشملت الآية جميع عباد الله المؤمنين وبين الله تعالى الشرط في ذلك وهوطاعة الله ورسوله فقط ولم يذكر أهل البيت ولا ولايتهم ولا حتى طاعتهم فاستدلاله بالولاية هواستدلال اصحاب الجهل والاهواء.
    واما الحديث الذي ذكره فهوحديث موضوع مكذوب باطل كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على ابن المطهر وقد ذكر هذا الحديث، وبيّن وجه رده اسناداً ومتناً. اما اسناده فقد بينه شيخ الإسلام- كما في (مختصر المنهاج) (452) - بانه من رواية القطيعي عن الكديمي حدثنا الحسن ابن محمّد الانصاري حدثنا عمروبن جميع حدثنا ابن ابي ليلى عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه مرفوعاً، واكد اسناده هذا الالباني في (الضعيفة) (1/ 359) بقوله: (ثم وجدت الحديث رواه ابونعيم أيضاً في (جزء الكديمي) (31/ 2) وسنده هكذا: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الانصاري ثنا عمروبن جميع عن ابن أبي ليلى عن اخيه عيسى عن عبد الرحمن بن ابي ليلى عن ابيه مرفوعاً) إ. ه. وحكم عليه الألباني أيضاً بالوضع، وهوحريّ به، فالكديمي المذكور هومحمّد بن يونس بن موسى الكديمي القرشي السامي، نقل الذهبي في (الميزان) عن ابن حبّان ان الكديمي لعله قد وضع اكثر من الف حديث. وعمروبن جميع قال عنهمالذهبي في (الميزان) أيضاً: كذبه ابن معين، وقال البخاري: منكر الحديث وقال الدارقطني وجماعة: متروك. قلت: وقد اتهمه بالوضع الحافظ ابن عدي. وابن ابي ليلى الأول هومحمّد بن عبد الرحمن بن ابي ليلى، وهوسيء الحفظ جداً كما قال الحافظ وغيره فهذا حال اسناده فيه كذابان وسيء الحفظ جداً، فسقط بذلك الحديث وهوالثاني الذي أشار اليه في هامشه وعزاه لابي نعيم وابن عساكر. واما الأول الذي عزاه لابن النجار عن ابن عباس- وهوينقل كل ذلك من الصواعق وليس لهفضل في ذكره- فلا اظنه احسن حالاً من الآخر، وحتى وان كان من طريق آخر فقد بينه لنا السيوطي في (الجامع الصغير) (5148) وقال: حديث ضعيف، مع قلة عنايته بذلك. واكرر هنا ان السيوطي متساهل في التصحيح فربما يصحّح الضعيف، وهذا يفيدنا هنا انه اذا حكم على حديث بالضعف فيجعلنا متيقنين من ضعفه وربما يكون موضوعا- كما هوالغالب هنا- وهويقول ضعيف
    لتساهله.
    وعلى كل فالحديث لا يثبت من جميع طرقه فهوموضوع، كما قال أهل العلم، هذا من جهة اسناده، وما من جهة متنه فان لفظه يقتضي ان الصّدّيقين هم ثلاثة فقط كما هوواضح، وهذا مردود بثبوت تسمية غير هؤلاء صدّيقين، كما بينه شيخ الإسلام- (المنتقى) (ص474) - فقد سمى الله سبحانه النبيين كذلك فقال {انه كان صدّيقاً نبياً} لغير واحد منهم، وقال عن مريم ام عيسى أيضاً {وأمّه صدّيقة} وقال: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصّديقون} فهذا يقتضي ان كل من آمن بالله ورسله فهوصدّيق، ومثله قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (لا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقاً) - البخاري (234)، مسلّم (267) - وأحق الامة بهذا الاسم هوأبوبكر رضي الله عنه فقد ثبت تسميته بذلك دون حصره به، لكنّه أولى الامة به ففي الصحيحين ان النبي صلّى الله عليه وسلّم صعد احد ومعه أبوبكر وعمر وعثمان فرجف بهم الجبل فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (اثبت أُحُد فما عليك الا نبي وصدِّيق وشهيدان)، وحادثة تسميته بالصّدّيق عقب الاسراء والمعراج معروفةٌ مشهورة، ثم ان الحديث لا يدل على مطلوبه أيضاً من تسمية آل البيت صدّيقين فليس فيه الا ذكر علي فمن أين ألحق به باقي أهل البيت؟
    وأولى الامة بالتشبيه بمؤمن آل فرعون هوابوبكر الصديق رضي الله عنه. وليس عليا، كما ثبت عن عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرواخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن ابي معيط فاخذ بمنكب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فاقبل ابوبكر رضي الله عنه فاخذبمنكبيه ودفعه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: {أتقتلون رجلا ان يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} - اخرجه البخاري في (صحيحه) (6/ 159) - وهذا قول مؤمن آل فرعون تمثل به ابوبكر رضي الله، بل ان ابا بكر أفضل منه كما قال ذلك علي رضي الله عنه نفسه فيما اخرجه البزار وابونعيم في (فضائل الصحابة) - (الدر المنثور) (7/ 285 - 286) - عن علي رضي الله عنهمانه قال: (أيها الناس أخبروني بأشجع الناس، قالوا: أنت، قال: لا! قالوا: فمن؟ قال: أبوبكر رضي الله عنه، لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واخذته قريش هذا يحثه وهذا يبلبله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهاً واحداً، قال: فوالله ما دنا منّا أحدٌ إلا أبوبكر رضي الله يضرب هذا ويجاهد هذا، وهويقول: (ويكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله) ثم رفع علي رضي الله عنه بردة كأنت عليه فبكى حتى أخضلت لحيته، ثم قال: انشدكم بالله أمؤمن آل فرعون خيرٌ أم أبوبكر رضي الله عنه خير من مؤمن آل فرعون؟ ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه) إ. ه.
    بقي من قوله في الهامش (والصحاح في سبقه وكونه الصّدّيق الأكبر والفاروق الأعظم متواترة). قلت: وهذه دعوى لا تختلف عن سابقاتها في المبالغة والكذب، فليس فيها شرط التواتر حتى من جهة العدد فضلاً عن عدم صحتها، فقد ذكر ابن الجوزي في (الموضوعات) (1/ 345) حديثا عن ابن عباس في تسمية علي بالصديق الأكبر والفاروق الاعظمم وحكم عليه بالوضع، وتابعه السيوطي كذلك في (اللالئ المصنوعة في الاحاديث الموضوعة) (1/ 324 - 325) وكذلك ابن عراق الكناني في (تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة) (1/ 353).
    وروى أيضاً من حديث أبي ذر رضي الله عنهمان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلي: (أنت أول من آمن بي وأنت أول من يصافحني يوم القيامة، وأنت صدّيقي الأكبر، وأنت الفاروق تفرّق بين الحق والباطل وأنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكفار) اخرجه البزار كما في (تنزيه الشريعة) (1/ 352) لكنّه لا يثبت، في إسناده محمّد بن عبيد الله بن ابي رافع، قال ابن أبي حاتم: ضعيف الحديث منكر الحديث جداً ذاهب. وقال الدارقطني: متروك. وقال ابن معين: ليس بشيء. وعدّه الكناني في (تنزيه الشريعة) آفة هذا الحديث. وفي إسناده أيضاً عبّاد بن يعقوب، وهووان كان صدوقاً لكنّه غالٍ في التشيع فمثله لا يُقبل خبره في شيء من فضائل علي رضي الله عنه، ومن غلوّه انه كان يقول ان الذي حفر البحر علي بن ابي طالب والذي اجراه الحسين بن علي كما في ترجمته من (تهذيب التهذيب) و(الميزان)، فهذه علتان في اسناده تكفي كل واحدة منهما لرد اي حديث هي فيه، واخرج هذا الحديث أيضاً من نفس الطريق ابن الجوزي في (الموضوعات) (1/ 344).
    ورواه أيضاً الطبراني في (الكبير) (6184). وقال: حدثنا علي بن اسحاق الوزير الاصبهاني حدثنا إسماعيل بن موسى السدي ثنا عمر بن سعيد عن فضيلبن مرزوق عن ابي سخيلة عن ابي ذر وسلّمان قالا ... الحديث، وهذا إسناد مطعون في جميع رجاله سوى شيخ الطبراني علي بن اسحاق فلم اجد له ترجمه والله اعلم بحاله، وإسماعيل السّدّي يخطئ ورُمي بالرفض، كما قال الحافظ في (التقريب)، وشيخه عمر بن سعيد ضعيف وقال النسائي: ليس بثقة. وتركه الدارقطني وبه أعل الحديث الهيثمي في (مجمع الزوائد) (9/ 12): وفضيل بن مرزوق في حفظه ضعف، قال الحافظ: صدوق يهم ورمي بالتشيع، وأخيراً أبوسخيل هذا مجهول، كما قال الحافظ وغيره وهي جهالة عين لا جهالة حال وهي اشد ضعفا من مرتبة الضعيف. فهذا اذاً إسناد لا يفرح بمثله ولا يُغني شيئاً إذ انه ان سلّم من علة وقع في اخرى كما هوواضح. واخر ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه من قوله نفسه قال: (انا عبد الله واخورسوله وانا الصدّيق الاكبر لا يقولها بعدي الا كاذب صليت قبل الناس سبع سنين) اخرجه الحاكم في (المستدرك) (3/ 112)، والنسائي في (خصائص علي) كمافي (تنزيه الشريعة) (1/ 376) من طريق عباد بن عبد الله الأسدي عن علي. وذكره الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة عباد بن عبد الله وهوضعيف. قال ابن المديني: ضعيف الحديث. وقال البخاري: فيه نظر. وبه ردّ الحديث الذهبي وتعقبه على الحاكم حين قال: صحيح على شرط الشيخين، فتعقبه الذهبي بانه باطل وان عبادا ضعيف، وقد رد هذا الاثر احمد بن حنبل وضرب عليه، كما في (تهذيب التهذيب) وذكره الذهبي في (الميزان) في ترجمة عباد وقال: هذا كذب على علي، وانظر (ص411 - 412) من كتابنا هذا. هذه حال جيمع طرق هذا الحديث، فمن اين تأيته الصحة فضلاً عن التواتر؟
    قوله: (وفيهم وفي أوليائهم قال الله تعالى: وممن خلقنا امة يهدون بالحق وبه يعدلون) وقال في الهامش (42/ 7): (نقل صدر الائمة موفق ابن احمد عن ابي بكر بن مردويه بسنده إلى علي قال: تفترق هذه الامة ثلاثاً وسبعين فرقة كلها في النار الا فرقة فانها في الجنة، وهم الذين قال الله عزّ وجلّ في حقهم: وممن خلقنا امة يهدون بالحق وبه يعدلون، وهم انا وشيعتي) إ. ه.
    قلت: قصر الآية بهم لا دليل عليه ولا يصح، فالآية عامة، وان كان يلحقها التخصيص فبأمة صلّى الله عليه وسلّم كما قال غير واحد من السلف فيما رواه ابن جرير (9/ 86) وغيره، ويروي أيضاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بسند معضل. وما نسبه هذا الموسوي إلى علي رضي الله عنه ولم يبينلنا اسناده حتى يلزمنا به الحجة، ولا اظنه الا باطلاً كدعأويه السابقة وإلا فليسق لنا احدٌ إسناده.
    ثم رأيت السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) (3/ 617) ذكر قول علي رضي الله عنه هذا واليك لفظه، قال: (لتفترقن هذه الأمة على ثلا وسبعين فرقة كلها في النار الا فرق، يقول الله {وممّن خلقنا أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون} فهذه هي التي تنجومن هذه الأمة) إ. ه. ومع ان السيوطي لم يصرح بثبوته فهوموافق لحديث صلّى الله عليه وسلّمالصحيح المعروف في هذا الباب ويزيد عليه في تفسيره الآية بهذا، لكن المهم انه ليس فيه قوله (وهم أنا وشيعتي) مما يبين التحريف والزيادة في النص أما من هذا الموسوي أوممن لقبه بصدر الائمة موفق بن احمد، ومثل هذا التحريف والتلاعب بالنص يجعلنا لا نثق بأي شيء يسوقه لنا خصوصاً اذا لم يبين لنا موضعه من الكتاب واسناده، كما هودأبه في معظم ما ساقه من النّصوص.



    https://www.fnoor.com/main/articles.aspx?article_no=11751 #.YWbj9xrXKM8




  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    11,596

    افتراضي رد: كيف ينال المؤمن درجة ومرتبة الصديقية؟


  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Jun 2011
    المشاركات
    11,596

    افتراضي رد: كيف ينال المؤمن درجة ومرتبة الصديقية؟

    مكرر

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Jan 2012
    المشاركات
    7,880

    افتراضي رد: كيف ينال المؤمن درجة ومرتبة الصديقية؟

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة احمد ابو انس مشاهدة المشاركة
    قال ابن القيم رحمه الله: "فالصِّدِّيقُ هو الذي صَدَقَ في قوله وفِعْلِه، وصَدَّقَ الحقَّ بقولِه وعَمَلِه، فقد انجذَبَتْ قواهُ كُلُّها للانقياد لله ولرسوله"،
    ودرجاتُ الصِّدِّيقينَ تتفاوَتُ؛ لأنَّ الإيمان ليس له حَدٌّ ينتهي إليه؛ بل إنه يَزيدُ بالطاعة، وينقُص بالمعصية، وهذا مُعتقَدُ أهل السنة والجماعة،
    فمن ظنَّ أن هناك درجاتٍ إيمانيةً يقِفُ عندها المؤمن صِدِّيقًا كان أو صالحًا،
    فقد أخطأ؛ قال تعالى: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ﴾ [المدثر: 37].
    قال ابن القيم:
    "فإن لم يكن في تقدُّم، فهو في تأخُّرٍ ولا بُدَّ، فالعَبْدُ سائرٌ لا واقِفٌ،
    فإمَّا إلى فوق وإمَّا إلى أسفل، إمَّا إلى أمام وإمَّا إلى وراء، وليس في الشريعة أو الطبيعة وقوفٌ البتة".
    ما هي أعلى درجة يمكن أن يصل إليها المؤمن؟
    أعلى مرتبة يُمكن أن يصلَ إليها المؤمنُ الذي ليس من الأنبياء، ولا من الصحابة، ولا من السَّلَف،
    هي درجة الصِّدِّيقيَّة.
    الصِّدِّيقيَّة أعلى المراتب بعد النبوَّة:
    مدَح اللهُ سبحانه الصِّدِّيقِينَ في كتابه؛
    فقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 41]،
    وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 56].
    والصِّدِّيق:
    هو الذي يثبُت صِدْقُ إيمانه في جميع المواقف الصعبة،
    والناس يتفاوتُونَ في التعامُل مع هذا البلاء: فبعضُهم قد يشُكُّ في حِكْمة الله، وبعضُهم قد يُسيء الظَّنَّ به سبحانه، وبعضُهم يتعجَّبُ،
    إلَّا أن القليل الذي يُسلِّم أمره لله تعالى،
    فيكون صادقًا في إيمانه،
    فالصِّدْق يظهَر في المواقف الصعبة؛
    قال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
    ولكي نكون صِدِّيقِينَ،
    فعلينا أن نصدُق في إيماننا في جميع المواقف؛
    وإلَّا فلو كان الصِّدْق في بعض المواقف دون البعض،
    فهذا نزول عن درجة الصِّدِّيقين، ولننظُر في رحلة إسراء نبيِّنا محمدٍ، كذَّب المشركون، ......
    لاحِظْ أبا بكر صَدَّق مباشرةً دون تفكيرٍ؛ فسُمِّي الصِّدِّيق. فلنَكُنْ صِدِّيقِينَ، يظهَر صِدْقُنا في إيماننا بالله ورسوله في كلِّ موقفٍ وفي كل حين، لا نُقَدِّم الحياةَ الدنيا على الدِّين؛ بل نتَّخِذ الدنيا زادًا للآخرة التي نحن بها مُوقِنون.
    فما هي الصِّدِّيقية، وتعريفها، وأهميتها، وحقيقتها، ومراتبها وأنواعها وأحوالها ودرجاتها؟
    تعريف درجة الصِّدِّيقية:
    هي كمال الإخلاص، والانقياد والمتابعة للخبر والأمر ظاهرًا وباطنًا.
    من هم الصِّدِّيقون؟
    قال الخازِنُ رحمه الله:
    "الصِّدِّيق:الكثير الصِّدْق، والصِّدِّيقون هم أتباعُ الرُّسُل الذين اتَّبعُوهم على مناهجهم بعدهم، حتى لحقوا بهم،
    وقيل:
    الصِّدِّيق هو الذي صَدَّق بكُلِّ الدِّين، حتى لا يُخالِطَه فيه شَكٌّ"
    . وقال القرطبي رحمه الله:
    "الصِّدِّيقُ: فِعِّيلٌ، الْمُبالِغُ فِي الصِّدْقِ أو في التَّصْدِيقِ، وَالصِّدِّيقُ هو الذي يُحَقِّقُ بِفِعْلِهِ مَا يَقُولُ بِلِسانِهِ، وقِيلَ: هُم فُضَلاءُ أتْباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق؛ كأبي بكر الصديق"،
    وقال السعدي رحمه الله:
    "الصِّدِّيقون: هم الذين كملوا مراتبَ الإيمان والعمل الصالح، والعلم النافع، واليقين الصادق".
    وقال ابن القيم رحمه الله:
    "أعلى مراتبِ الصِّدْقِ: مرتبةُ الصِّدِّيقِيَّة ِ،
    وهي كَمالُ الانقِيادِ للرسول صلى الله عليه وسلم مع كَمالِ الإخلاصِ لِلْمُرْسِلِ"، فمن اتَّبع الصدِّيقِين على ما هم عليه من الصِّدْق والتصديق، والتقوى والصلاح: كان منهم، وحُشِر معهم؛
    قال تعالى:
    ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
    فمن أراد تَحرِّي هذه المنزلة، وأن يَمُنَّ اللهُ بها عليه، ويكون من أهلها:
    فعليه بالصِّدْق التامِّ في القول والفعل، وبتقوى الله في السِّرِّ والعَلَن.
    والصِّدِّيق مأخوذة من الصِّدْق، كثير التَّصْديق أو دائم التَّصْديق لله تعالى وللرُّسُل،
    والمفسِّرون فسَّرُوا الصِّدِّيق والصِّدِّيقة التي وردَتْ في القرآن الكريم بهذا المعنى؛
    قال تعالى:
    ﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ... ﴾ [المائدة: 75]،
    وقال تعالى: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا... ﴾ [يوسف: 46]،
    وقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 56]،
    وقال تعالى: ﴿ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ﴾ [النساء: 69].
    فالقول الأول: أنَّ معنى الصِّدِّيق في هذه الآيات هو أنه كثيرُ الصِّدْق ودائمُ التصديق،
    وقد سُمِّي أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالصِّدِّيق؛
    لأنه صَدَّق بالرسول صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كذَّبَتْ به قريش، وصدَّق به قبل كلِّ الناس.
    والقول الثاني:
    أن الصِّدِّيقِينَ مُشتقَّةٌ من العُلُوِّ والرِّفْعة،
    وقد وُصِفَ بها بعضُ الأنبياء؛ كإبراهيم وإدريس ويُوسُف، وممَّا يُؤيِّد هذا القول أن هؤلاء الأنبياء لما وُصِفُوا بالصِّدِّيقِينَ لم يكونوا مصدقِينَ.
    فالصِّدِّيق مرتبة يمكن أن تكون للأنبياء،
    ويُمكن أن ينالها أتباعُ الأنبياء؛ كأبي بكر الصِّدِّيق وغيره.
    والصدِّيقون كثيرون،
    والصحيح أن الصِّدِّيقين هم من غير حَصْرٍ،
    وهم مَنْ أطاع الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم،
    واتَّبَع هُداهما،
    فالصِّدِّيقون قد يكونون من الأنبياء، وقد يكونون من الناس أتباع الأنبياء، والصحابة، والتُّجَّار، والعلماء، والصالحين،
    وفي الحديث: "التاجِرُ الأمينُ الصَّدُوق مع النبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداء يوم القيامة"؛ (رواه الترمذي والدارمي والحاكم).
    والناس مراتب،
    وأعلى المراتب مرتبةُ الرسل،
    ثم الأنبياء،
    ثم الصِّدِّيقِينَ،
    ثم الشهداء،
    ثم الصالحين.
    الصالح يُوصَف به جميعُ المؤمنين بالله من الأنبياء وغير الأنبياء عند الإطلاق؛ ولكن إذا ضُمُّوا إلى الرسل،
    فإن الصالحين هم أصحاب المرتبة الرابعة،
    وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ﴾ [الحديد: 19]؛
    يقول الطبري: "والذين أقرُّوا بوحدانية الله وإرساله رُسُلِه،
    فصَدَّقُوا الرسل، وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربِّهم أولئك هم الصِّدِّيقون".
    ودرجة الصِّدِّيقيَّة:
    باقية وليست قاصرة على طبقة الصحابة والسَّلَف الصالح،
    وإن كانوا هم بلا ريبٍ رؤوس الصِّدِّيقين وأكابرهم،
    لكن مَن عمِل بعملهم وسارَ على طريقهم، واتَّبَع سُنَّتَهم كان منهم.
    وممَّا يدُلُّ على ذلك أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
    فقال: إني شهِدتُ أن لا إله إلا الله،
    وأنك رسول الله، وصلَّيْتُ الصلوات الخمس، وصُمْتُ رمضان وقُمْتُه، وآتيْتُ الزكاة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ ماتَ على هذا كان من الصِّدِّيقين والشهداء))؛
    قال المنذري: رواه البزَّار بإسناد حسن، وابن خزيمة في صحيحه، وابن حِبَّان، وصحَّحه الألباني. وروى الترمذي وحسَّنه من حديث أبي سعيد مرفوعًا: ((التاجِرُ الصَّدُوق الأمين مع النبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداء)).
    وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم من المفسِّرين وغيرهم،
    أن ذلك عامٌّ في كل من هذه صِفَته.
    قال ابن الجوزي:
    الجمهور على أن النبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداء والصالحين عامٌّ في جميع من هذه صفته
    وقال عكرمة:
    المراد بالنبيِّين ها هنا: محمد،
    والصِّدِّيقينَ: أبو بكر،
    وبالشهداء: عمر، وعثمان، وعلي،
    وبالصالحين: سائر الصحابة.
    ...
    .
    قال ابن القيم: "أولو العلم الذين قاموا بما جاء به صلى الله عليه وسلم علمًا وعملًا وهدايةً وإرشادًا، وصبرًا وجِهادًا، وهؤلاء هم الصِّدِّيقون، وهم أفضل أتباع الأنبياء، ورأسُهم وإمامُهم الصِّدِّيق الأكبر أبو بكر.
    والصِّدِّيقيَّة :
    هي كمال الإيمان بما جاء به الرسول علمًا وتصديقًا وقيامًا، فهي راجعة إلى نفس العلم، فكلُّ مَنْ كان أعلمَ بما جاء به الرسولُ، وأكمَلَ تصديقًا له كان أتمَّ صِدِّيقِيَّة.
    والتحقيق أنَّ مَنْ يُصَدَّقُ عليه وَصْفُ الصِّدِّيقِيَّة من أهل العلم هم طائفةٌ مخصوصةٌ منهم،
    وهم من وفَّى العِلْمَ حقَّه من الطَّلَب والعمل والدعوة.
    قال ابن القيم:
    بعد أن ذكر حديث الحَسَن مرفوعًا: من جاءه الموت وهو يطلُب العلم ليُحيي به الإسلام، فبينه وبين الأنبياء في الجنة درجة النبوَّة،
    قال: وهذا وإن كان لا يثبُتُ إسنادُه فلا يبعُد معناه من الصِّحَّة،
    فإن أفضل الدرجات النبوَّة،
    وبعدها الصِّدِّيقيَّة،
    وبعدها الشهادة،
    وبعدها الصلاح،
    فمن طَلَبَ العِلْمَ ليُحيي به الإسلام فهو من الصِّدِّيقين،
    ودرجتُه بعد درجة النبوَّة.
    المفاضلة بين العلماء والشهداء:
    فقد حقَّقَها ابنُ القيِّم بكلام متينٍ،
    خلاصتُه أن الفضيلة فيهما تابعةٌ لتحقيق صفة الصِّدِّيقيَّة،
    فمن تحقَّق بها من العلماء، أو الشُّهَداء فهو الفاضل
    ، وختَم كلامَه بقوله:
    فإن جرى قَلَمُ العالم بالصِّدِّيقيَّة ،
    وسال مِدادُه بها،
    كان أفضلَ من دَمِ الشهيد الذي لم يَلْحَقْه في رُتبة الصِّدِّيقية،
    وإن سال دمُ الشهيد بالصِّدِّيقية وقطر عليها،
    كان أفضل من مِدادِ العالم الذي قصر عنها،
    فأفضلُهما صديقهما،
    فإن استوَيَا في الصِّدِّيقيَّة استويا في المرتبة.
    الصالحون هم أهل طاعة الله تعالى ممَّن لم يَصِلْ إلى درجة الصِّدِّيقيَّة
    والشهادة، فهي لعامَّة المؤمنين؛
    قال ابن الجوزي:
    وأمَّا الصالحون فهم اسم لكُلِّ من صَلَحَتْ سَريرتُه وعَلانيتُه.
    اللهم احشُرْنا في زُمْرة أولئك الذين أنعمت عليهم من النبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهَداء، وحَسُن أولئك رفيقًا.
    الصِّدِّيقيَّة أرفع درجة ومرتبة يبلغها المؤمن:
    مفتاح الصِّدِّيقية:
    في الصحيحين من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الصِّدْقَ يهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنة، وإنَّ الرَّجُل ليصدق حتى يُكتَبَ عند الله صِدِّيقًا)).
    فجعل الصدق مفتاح الصِّدِّيقيَّة ومبدأها، وهي غايته،
    فلا ينال درجتَها كاذبٌ البتة،
    لا في قوله ولا في عمله ولا في حاله،
    ولا سيَّما كاذب على الله في أسمائه وصفاته،
    ونفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه عن نفسه،
    فليس في هؤلاء صِدِّيق أبدًا،
    وكذلك الكذب عليه في دينه وشرعه بتحليل ما حرَّمَه وتحريم ما لم يُحرِّمْه، وإسقاط ما أوجبَه وإيجاب ما لم يُوجِبْه، وكراهة ما أحَبَّه واستحباب ما لم يُحِبَّه، كلُّ ذلك مُنافٍ للصِّدِّيقيَّة.
    الصِّدِّيقيَّة أعلى مراتب الصِّدْق:
    قال ابن القيم:
    "فأعلى مراتب الصِّدْق:
    مرتبة الصِّدِّيقيَّة، وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسِل".
    أنواع الصِّدِّيقية:1
    - الصدق في الأقوال.
    2- الصدق في الأعمال.
    3- الصدق في الأحوال:
    استواء أعمال القلب والجوارح على الإخلاص، واستفراغ الوُسْع، وبَذْل الطاقة، فبذلك يكون العبد من الذين جاؤوا بالصِّدْق، وبحسب كمال هذه الأمور فيه وقيامها به تكون صِدِّيقيَّتُه؛
    ولذلك كان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ذِروة سَنام الصِّدِّيقية، سُمِّي الصِّدِّيق على الإطلاق،
    والصِّدِّيق أبلغ من الصَّدُوق،
    والصَّدُوق أبلَغُ من الصَّادِق.
    كيف يبلغ الإنسان درجة الصِّدِّيقين؟
    عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((لا يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصِّدْقَ، حتى يُكتَبَ عند الله صِدِّيقًا))،
    ومن حديث عمرو بن مُرَّة الجهني، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيْتَ إن شهدتُ أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصَلَّيْتُ الصلوات الخمس، وأدَّيْتُ الزكاة، وصُمْتُ رمضانَ، وقُمْتُه، فمَنْ أنا؟ قال: ((من الصِّدِّيقين والشهداء))؛ أخرجه ابنُ حِبَّان في صحيحه، وفي رواية ابن خزيمة: ((مَنْ ماتَ على هذا كان من الصِّدِّيقينَ والشُّهَداء)).
    فكيف تصل إلى مرتبة الصِّدِّيقين؟
    الصِّدِّيق في المرتبة الثانية من مراتب المؤمنين بعد مرتبة النبوَّة،
    وتلك هي مراتب أولياء الله الذين أنعَمَ الله عليهم بالعلم النافع والعمل الصالح؛ كما قال الله سبحانه:
    ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
    مِنَ النَّبِيِّينَ
    وَالصِّدِّيقِين َ
    وَالشُّهَدَاءِ
    وَالصَّالِحِينَ ﴾ [النساء: 69].
    فالرجل الذي يتحرَّى الصدق يُكتَبُ عند الله صِدِّيقًا
    ، ومعلومٌ أنَّ الصِّدِّيقية درجةٌ عظيمةٌ، لا ينالها إلا أفذاذٌ من الناس.
    فالصدق
    هو أن يكون المسلمُ صادقًا مع الله في فعل ما أمَرَ اللهُ به،
    والبُعْد عمَّا نهى اللهُ عنه،
    وصادقًا مع الناس في فِعْله وقولِه وتَعامُلِه،
    فمن لم يصدُقْ مع الله لن يصدُقَ مع الناس،
    والصدق
    حَسَنة تُثمِر حَسَنةً أكبرَ، وهي البِرُّ،
    والصدق
    يرتقي بالمؤمن حتى يتربَّعَ على عَرْشِ الصِّدِّيقيِّين في أعلى علِّيِّين،
    ولا يمكن أبدًا أن يستقيم المسلمُ على دين الله وطاعته
    إلا بالصدق،
    وأن يكون صادقًا في كل شيء،
    وصادقًا في كل أحواله وأقواله وأفعاله وأعماله،
    أن يكون صادقًا ظاهرًا وباطنًا،
    سرًّا وعَلَنًا،
    وتأمَّلْ وتدبَّر الأفعال: (يهدي - يزال - يتحرَّى)
    في شطر الحديث الأول
    "الصدق"
    فهي سُلَّمٌ إلى مرتبة الصِّدِّيقيَّة،
    وأن مجاهدة النفس على تحرِّي الصِّدْق تُوصِلُها إلى مرتبة الصِّدِّيقيَّة.
    وقال ابن القيم:
    "فمن تعبَّد الله بمراغمة عدوِّه (الشيطان)،
    فقد أخذ من الصِّدِّيقيَّة بسَهْمٍ وافر، وعلى قَدْرِ محبَّةِ العَبْد لربِّه وموالاته ومُعاداته لعدوِّه يكون نصيبه من هذه المراغمة،
    ولأجل هذه المراغمة حُمِد التبختُر بين الصَّفَّين، والخُيلاء والتبختُر عند صَدَقةِ السِّرِّ؛ حيث لا يراه إلَّا الله
    ، لما في ذلك من إرغام العدوِّ،
    وبَذْل محبوبه من نفسِه ومالِه لله عز وجل،
    وهذا بابٌ من العبوديَّة لا يعرِفُه إلَّا القليلُ من الناس،
    وصاحب هذا المقام إذا نظر إلى الشيطان،
    ولاحظه في الذَّنْب راغمَه بالتوبة النصوح،
    فأحدثَتْ له هذه المراغمة عبوديَّةً أخرى".
    أحوال مرتبة الصِّدِّيقيَّة:
    وقد أمر الله تعالى رسولَه أن يسألَه أن يجعلَ مدخلَه ومخرجَه على الصِّدْق؛ فقال: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 80]،
    وأخبر عن خليله إبراهيم أنه سأله أنه يهِبَ له لسانَ صِدْقٍ في الآخرين؛
    فقال: ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84].
    وبشَّر عبادَه بأنَّ لهم عنده قَدَمَ صِدْقٍ، ومقعد صِدْقٍ؛
    فقال تعالى:
    ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ [يونس: 2]،
    وقال:
    ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ﴾
    فهذه خمسة أشياء
    : مدخل الصِّدْق ومخرج الصِّدْق:فمدخل الصِّدْق ومخرج الصِّدْق:
    أن يكون دخولُه وخروجُه حقًّا ثابتًا بالله، وفي مرضاته بالظَّفَر بالبُغية،
    وحصول المطلوب،
    ضد مخرج الكَذِبِ ومدخلِه
    الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساقٌ ثابتةٌ يقُوم عليها.
    ولسان الصِّدْق:
    فهو الثناء الحَسَن عليه من سائر الأُمَم بالصِّدْق ليس ثناء بالكَذِب؛ كما قال عن إبراهيم وذُريَّته من الأنبياء والرُّسُل عليهم صلوات الله وسلامه:
    ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ﴾ [مريم: 50]
    ، والمراد باللسان ها هنا:
    الثناء الحَسَن،
    فلما كان الصِّدْق باللسان، وهو محلُّه أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق جزاءً وِفاقًا وعبَّرَ به عنه.
    وقدم الصِّدْق: وأما قدَمُ الصِّدْق:
    ففُسِّر بالجنة، وفُسِّر بالأعمال الصالحة، وحقيقة القَدَم ما قدَّمُوه وما يقدمُون عليه يوم القيامة، وهم قدَّمُوا الأعمال والإيمان بمحمد، ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك.
    ومقعد الصدق:الجنة،
    وحقيقة الصدق في هذه الأشياء
    هو الحق الثابت المتصل بالله الموصل لرضوانه.
    أعلى درجة الصِّدِّيقية وأكمل الناس فيها:التسليم لله وللرسول من أجل مقامات الإيمان وأعلى طرق الخاصة،
    وأن التسليم هو مَحضُ الصِّدِّيقية التي هي بعد درجة النبوَّة،
    وأن أكمل الناس تسليمًا أكملهم صِدِّيقية.
    الصِّدِّيقية أعظم درجة من جميع الطاعات:كالصيام والقيام... وغير ذلك؛
    فما سَبَق الصِّدِّيقُ الصحابةَ بكثرةِ عَمَلٍ،
    وقد كان فيهم من هو أكثر صيامًا وحجًّا وقراءةً وصلاةً منه؛
    ولكن بأمر آخر قام بقلبه
    حتى إن أفضل الصحابة كان يُسابِقُه ولا يراه إلَّا أمامه؛
    ولكن عبودية مجاهد نفسه على لذة الذنب والشهوة قد تكون أشَقَّ،
    ولا يلزم من مشقَّتِها تفضيلها في الدرجة؛
    فأفضل الأعمال الإيمان بالله،
    والجهادُ أشَقُّ منه،
    وهو تاليه في الدرجة،
    ودرجة الصِّدِّيقين أعلى من درجة المجاهدين والشهداء.
    الصِّدِّيقون أكمل الناس أدبًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:انظر إلى أدب الصِّدِّيق رضي الله عنه مع النبي في الصلاة بين يدي النبي؛ فقال: "ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدَّمَ بين يدي رسول الله"، كيف أورثَه مقامَه والإمامةَ بالأُمَّة بعده، فكان ذلك أن تأخَّر إلى الخَلْف وقد أومأ إليه ((أنِ اثبُتْ مكانَكَ)).
    الصِّدِّيقون أكثر الناس فِراسة:
    "كان الصِّدِّيق رضي الله عنه أعظمَ الأمَّة فِراسةً، وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووقائع فِراسته مشهورةٌ؛ فإنه ما قال لشيء: أظنُّه كذا إلَّا كان كما قال، ويكفي في فِراستِه: موافقته ربَّه في المواضع المعروفة".
    قال ابن القيم رحمه الله:"فأما مراتب الكمال فأربع: النبوة، والصِّدِّيقيَّة ، والشهادة، والولاية، وقد ذكرها الله سبحانه في قوله: ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 69، 70]،وذكر تعالى في سورة الحديد الإيمان به وبرسوله؛ فقال: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ ﴾ [الحديد: 19]،
    والمقصود أنه ذكر فيها المراتب الأربعة:
    الرسالة، والصِّدِّيقيَّة ، والشهادة، والولاية،
    فأعلى هذه المراتب:
    النبوَّة والرسالة،
    ويليها الصِّدِّيقية؛
    فالصِّدِّيقُون هم أئمة أتْباع الرسل،
    ودرجتهم أعلى الدرجات بعد النبوة،
    والصِّدِّيقيَّة هي أعلى المراتب بعد النبوَّة فهي أعلى ما يمكن أن يصل إليه المؤمنُ من الصحابة أو غيرهم"
    . وقال ابن القيم في موضع آخر: "عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأس الصِّدِّيقين... "؛ ا هـ.
    ولما انطوى بِساط النبوَّة من الأرض بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
    لم يَبْقَ على وَجْه الأرض أكمل من درجة الصِّدِّيقيَّة،
    وأبو بكر رأس الصِّدِّيقين.
    قال ابن القيم:
    "أبو بكر سيد الصِّدِّيقين، وعمر وعثمان بعده مباشرة؛
    فهما أعلم الناس بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأشدهما تصديقًا له وعملًا به؛
    لأن الصِّدِّيقيَّة هي كمال الإيمان بما جاء به الرسول علمًا وتصديقًا وقيامًا به، فكل من كان أعلمَ بما جاء به الرسول، وأكملَ تصديقًا له كان أتمَّ صِدِّيقيَّة"،
    وقد نالها مَنْ هم دون عمر وعثمان؛
    لحديث عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه
    قال: "جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن شهدتُ أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصلَّيْتُ الصلوات الخمس، وأدَّيْتُ الزكاة، وصُمْتُ رمضان وقُمْتُهُ، فممَّن أنا،
    قال: ((من الصِّدِّيقين والشُّهَداء))؛ رواه البزَّار وابن خزيمة وابنُ حِبَّان في صحيحيهما، وصحَّحه الألباني. والصِّدِّيق وَصْفٌ لمن كثُر منه الصِّدْقُ،
    وهم ثمانية نفَر من هذه الأُمَّة،
    سبقُوا أهلَ الأرض في زمانهم إلى الإسلام:
    أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم، ألحَقَه اللهُ بهم، وإنْ تمَّ به الأربعون لما عرف من صدق نيَّته؛ ا هـ.
    ومريم عليها السلام صِدِّيقة، وليسَتْ نبيَّةً،
    وهذه كانت حِكْمة إلهية لكي يخرج الله النصارى من هذا الموضوع
    فلا يعبدونها ولا يؤلِّهونها،
    فهي صِدِّيقةٌ؛
    لأن الله قال في شأنها: ﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ ﴾ [المائدة: 75]
    يأكلون مثلكم؛ يعني: عبيد فلا تزيدوهم عن مقام العبودية
    ؛ ولكن لا تنكروا الخصوصية التي أعطاها لهم ربُّ البريَّة عزَّ شأنه؛
    ولذلك فأعظم مقام بعد مقام النبوَّة هو مقام الصِّدِّيقية.
    وقال ربُّنا عنها:
    ﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ ﴾ [التحريم: 12]،
    وهذه الآية لا يُفهَم منها مجرَّد الإيمان؛
    بل وصلت إلى درجة التصديق (الصِّدِّيقية) بما تكلَّم الله به، وبما أُنزِل في كُتُبِه دون توقَّف أو تردُّد.
    لا حرج على المسلم أن يدعوَ الله أن يكون من الصِّدِّيقين:علوُّ الهمَّة، وطلب معالي الأمور، والرغبة في مزيد التقرُّب إلى الله بفعل الصالحات وتَرْكِ المنكرات - من الأمور المشروعة المستحبَّة. وأولياء الله تعالى هم الأتقياء من خلقه، فكُلُّ من كان تقيًّا كان لله وليًّا، وتَتَفاوَتُ الولاية بحسب إيمان العبد وتقواه، وأعلى درجاتها بعد منزلة النبوة: منزلة الصِّدِّيقيَّة، وأصحابها هم الصِّدِّيقُونَ.
    أحسنت بارك الله فيك وجزاك الله خيرا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •