الأركان الثلاثة لعبودية القلب (1)
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
ثلاثة فرائض افترضها الله -سبحانه وتعالى- على عباده لابد أن تكون في قلوبهم، وقد سمَّاها أهل العلم (أركان التعبد القلبية)؛ سمَّوها أركاناً: لأنها فرائض وأسس يقوم عليها الدين، وكونها قلبية: لأن مكانها القلب؛ فهي من أعمال القلوب، ولا صلاح للقلوب ولا للأعمال إلا بها، وهي أركان للتعبد: بمعنى أن أي تعبُّد يصدر من العبد من صلاة وصيام وحج وغير ذلك يجب أن يكون قائماً على هذه الأركان. وهذه الأركان والمنازل والمقامات للسائرين إلى الله تبارك وتعالى ينبغي عليهم استصحابها في كل طاعة وكل عبادة يتقربون بها إلى الله -سبحانه وتعالى-؛ فتكون قائمةً على هذه الأركان العظيمة.
وأركان التعبد القلبية ثلاثة: وهي المحبة، والرجاء، والخوف؛ محبة الله -جل وعلا-، ورجاء رحمته، وخوف عذابه، فهذه الأركان الثلاثة العظيمة، هي أركان للتعبّد لابد من وجودها في قلب المسلم، ووجودها في قلبه فرضٌ لازم؛ وقد اجتمعت هذه الأركان الثلاثة في قوله -سبحانه وتعالى-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء:57)؛ أما المحبة ففي قوله: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}؛ وهذا الابتغاء نابعٌ من حبٍّ عمر قلوبهم وملأ صدورهم، وأما الرجاء ففي قوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ}: أي رحمة الله -سبحانه وتعالى-، وأما الخوف ففي قوله -جل وعلا-: {وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}.
فاتحة الكتاب
هذه الأركان الثلاثة التي اجتمعت في هذه الآية الكريمة اجتمعت أيضًا في فاتحة الكتاب، قال الله -جل وعلا-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ أما المحبة ففي قوله -جل وعلا-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؛ لأن الحمد هو الثناء على الله -جل وعلا- مع حبه، والثناء إذا كان عن غير حبٍ يسمى مدحاً ولا يسمى حمداً، والحمد هو الثناء مع الحب، والله -جل وعلا- يُحمد لنعَمه التي لا تعد ولا تحصى، ويُحمد -جل وعلا- على أسمائه الحسنى وصفاته العظيمة وجلاله وجماله وكبريائه -سبحانه وتعالى-، وأما الرجاء ففي قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ فإن المسلم إذا قرأ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} متأملا ًفي مدلولي هذين الاسمين وما يدلان عليه من ثبوت الرحمة لله -جل وعلا- فإن القلب حينئذ يتحرك راجيا رحمة الله.
ففي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} المحبة، وفي قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الرجاء، ويتحرك الرجاء في القلب مع التدبّر والتأمل في كلام الله، فإذا قرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وهو يتأمل في المعنى - ويوم الدين: هو يوم الحساب ويوم الجزاء ويوم لقاء الله، قال الله -تعالى-: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (الانفطار:17-19)؛ فإذا قرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} سيتحرك في القلب الخوف؛ خوف لقاء الله.
فإذاً في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} المحبة، وفي قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} الرجاء؛ وفي قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الخوف، ثم بعد ذلك جاءت: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: أي إياك نعبد يا الله بهذه الأركان؛ ولم تأتِ هذه الكلمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلا بعد أن أُرسيت أركانـُها، وثُبِّتت في القلب، وتحركت فيه؛ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تـُحرك في القلب المحبة، و{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تـُحرك في القلب الرجاء، و{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} تـُحرك في القلب الخوف؛ وبهذه الأمور: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}: أي نعبدك يا الله ولا نعبد غيرك؛ بالحب الذي دل عليه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وبالرجاء الذي دل عليه: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، وبالخوف الذي دل عليه: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}؛ فاجتمعت هذه الأركان العظيمة في سورة الفاتحة، وهذه الفائدة العظيمة الثمينة النفيسة نبَّه عليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في رسالة له قصيرة عن سورة الفاتحة: (فوائد من سورة الفاتحة).
دلائل هذه الأركان
وأما دلائل هذه الأركان فمتفرقة ومبثوثة في كتاب الله تبارك وتعالى وكثيرة جداً:
آيات المحبة
فتجد في القرآن آيات فيها ذِكر المحبة، والدعوة إليها، وبيان آثارها وثمارها وعوائدها الحميدة، ومكانتها من الدين، وفضل من قامت في قلوبهم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة:54)، وبُيِّنت علاماتها ودلائلها وشواهدها، وبُيِّنت أيضاً الأمور الجالبة لها التي تنمِّيها وتقوِّيها في قلب المسلم.
آيات الرجاء
كذلك الرجاء؛ تجد الآيات الكثيرة في كتاب الله التي فيها ذكر الرجاء وبيان هذا المقام العظيم، وذكر الأمور التي تحرك الرجاء في القلب من النعيم والثواب والرحمة والمنّ والعطاء. آيات كثيرة في القرآن يقرأها المسلم تحرك في قلبه الرجاء، وعموم آيات الوعد وهي كثيرة في كتاب الله -جل وعلا- تحرك في قلب المسلم الرجاء. وكذلك أسماء الله -جل وعلا- الدالة على المغفرة، وعلى الرحمة، وعلى الإنعام، الإكرام، وعلى الفضل، وعلى التوبة، إلى غير ذلك؛ تحرك في القلب الرجاء.
آيات الخوف
وكذلك الخوف؛ آيات كثيرة في القرآن فيها بيان الخوف والدعوة إلى تحقيقه، وأن يكون قلب المسلم خائفاً من الله، وأن يكون خوفه من الله: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:175)، وجعل ذلك شرطاً في الإيمان وأساساً في الدين، وعموم آيات الوعيد في ذِكر العقوبة والنار والبطش وغير ذلك تحرك في قلب الإنسان الخوف من الله -جل وعلا- والخوف من عذابه -سبحانه وتعالى-.
فريضة من فرائض الدين
فهذه الأركان الثلاثة والفرائض الثلاثة جاءت مبيَّنة ومفصَّلة وموضَّحة في كتاب الله -تبارك وتعالى-، وكما قدّمت وجودها في القلب فريضة من فرائض الدين، بل هي التي تحرك الإنسان وتسوقه إلى الخير وتقوده إلى الصلاح، وتبعده عن الحرام والشر والفساد، وهذه الأمور الثلاثة كما شبَّهها بعض أهل العلم ومنهم ابن القيم -رحمه الله- تعالى في كتابه مدارج السالكين بمثابة الطائر؛ المحبة بمثابة الرأس، والرجاء والخوف بمثابة الجناحين، ومعلوم أن الطائر إذا قُطِع رأسه لم يحصُل منه حِراك وبقي في مكانه وانتهى أمره بذلك، وإذا قُصَّ أحد جناحيه لم يستطع أن يطير، والمسلم لا يستطيع أن يتحرك بفعل الأعمال الفاضلة والطاعات الزاكية والعبادات المقرِّبة إلى الله والبُعد عن الأمور التي تسخط الله وتغضبه إلا إذا كان في قلبه حبٌ ورجاء وخوف؛ والحب هو روح العبادة ولبها وأساسها ومحركها، والرجاء بمثابة الحادي، والخوف بمثابة السائق؛ فالحادي يكون في مقدمة الركب يرغِّبه في السير ويستحثه على المضي، والسائق يكون في الخلف، من يتخلَّف يزجره، من يتفلت يعاقبه ويهدده، فقد جاء عن بعض السلف قولهم: «الرجاء قائد، والخوف سائق، والنفس حرون»، والنفس الحرون تحتاج إلى قائد وسائق. والرجاء هو القائد؛ إذا نظر الإنسان إلى الأمام فالمرغبات والفضائل والأجور والثواب والرحمة والإنعام والإكرام والمنّ والعطاء تقوده إلى المزيد من العمل والجد والاجتهاد والإقبال على الله -سبحانه وتعالى.
الخوف سائق
والخوف سائق؛ إذا حصل عنده شيء من التفلت، والتقصير، والتراجع، والالتفات وإلى المعاصي، أو الشهوات، إلى الملاذ ينظر إلى الخوف الذي يسوقه، والزواجر والعقوبات والتهديدات والتخويف بالنار والتخويف بالعذاب والتخويف ببطش الله وانتقامه بالعقوبات؛ فتأتي هذه الزواجر والمخوِّفات لتسوق الإنسان، ويحتاج إلى الأمرين حتى يمشي ويسير؛ فهو يحتاج إلى قائد، ويحتاج أيضاً إلى سائق يسوقه إلى البعد عن الحرام والإقبال على طاعة الله -سبحانه وتعالى.
جناحا الطائر
الخوف والرجاء هما بمثابة جناحي الطائر ينبغي أن يكونا في العبد بتوازن، وألا يطغى أحدهما على الآخر؛ لأن هذا يُخِلُّ في السير؛ لأنه إذا غلَّب الخوف وضعُف الرجاء ربما استولى عليه القنوط من رحمة الله، وإذا كان عنده خوف وزواجر وتهديد وعقوبات دون القائد وذِكر الرجاء والثواب والمرغبات؛ ربما يستولي عليه القنوط فيقنط من رحمة الله؛ والقنوط من رحمة الله كبيرة من الكبائر، وإذا غلَّب جانب الرجاء وأهمل جانب الخوف وأصبح عنده رجاء دون خوف يأمن من مكر الله، فتجده يقصِّر ويتهاون ويعصي ويفرط وهو آمن؛ لأن الخوف معطل عنده، بينما هو يحتاج مع الرجاء إلى خوف، فإذا غلَّب الرجاء وعطَّل الخوف أمِن؛ والأمْن من مكر الله من كبائر الذنوب، كما أن القنوط من رحمة الله من كبائر الذنوب؛ ولا يمكن أن يسلَم الإنسان من هاتين الكبيرتين - القنوط والأمن من مكر الله -سبحانه وتعالى- إلا بالرجاء والخوف بتوازن واعتدال.