أَثَرُ الْعَقِيدَةِ فِي صَلاحِ الْعَبْدِ وَنَجَاتِهِ



الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر




قال الله -تعالى-: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)} إلى آخر السياق (الحاقة:19-21)، وفي قوله -تعالى-: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} بيان أهمية العقيدة الإسلامية الصحيحة المستمدة من كتاب الله -جل وعلا- وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- العظمى ومكانتها العليا في تزكية النفوس وإصلاح العباد، وأن العبد كلما كان على ذكرٍ واستحضارٍ لحقائق الإيمان وأصول الاعتقاد كان لذلك الأثر البالغ عليه في صلاح عمله وزكاء قلبه واستقامته على طاعة الله -سبحانه وتعالى-، فإن قوله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} الظن هنا بمعنى الاعتقاد؛ أي كنتُ معتقداً ومؤمناً ومقِرًّا في الحياة الدنيا أن ثمة يوم القيامة حسابا وعقابا، وجنة ونارا، ولقاء بالجبار -سبحانه وتعالى-، وسؤالا عن الأعمال وعما قدّم العبد في هذه الحياة؛ فهذه العقيدة هي التي تحرِّك القلوب، وتهز النفوس، وتدعو إلى تحقيق الاستقامة على طاعة الله -سبحانه وتعالى-، أما إذا ضعُفت هذه العقيدة في قلب الإنسان أو انعدمت فإن الخير يضعف وينعدم تبعاً لضعفها وانعدامها؛ ولهذا كان من أولويات الدين وأعظم ما ينبغي أن يُعنى به المسلمون الاعتقاد الذي هو للدين بمثابة الأصول للأشجار والأعمدة للبنيان.

إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ}؛ كم يترتب من الآثار السيئة والعواقب الوخيمة حين يغفل الإنسان عن البعث وعن الجزاء وعن الحساب! وحين ينسى أن هذه الأعمال التي يقترفها ويقدّمها ويـباشرها في هذه الحياة ستكون حاضرةً كلها يوم القيامة، ويُجزى عليها بمثاقيل الذر! {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة:7-8)، وكثير من أعمال الإنسان التي قدّمها يكون قد نسيها ونسيَ أنه فعَلها، وإن كان حصّل منها لذَّة فهي لذة زائفةٌ زائلة، وتبقى عواقب تلك اللذة المحرمة الوخيمة، ولئن كان قد نسيَ ذلك فإنه محصى عليه {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (المجادلة:6)، ومكتوبٌ عليه، ويجد كل ذلك حاضراً يوم القيامة؛ ولهذا ما أجمل وأعظم أن يكون العبد في هذه الحياة يظن - أي يعتقد أنه سيلقى الحساب، وكلما حدثته نفسه بخطيئة أو مخالفة أو تهاونٍ في طاعة أو تفريطٍ في عبادة أو تضييعٍ لواجب ذكّرها بهذا المقام العظيم {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} يا نفس إنك ستحاسَبين، يا نفس إنك ستقفين بين يدي الله -تبارك وتعالى-، يا نفس إنه الجزاء والحساب بين يدي الرب العظيم -جل شأنه وعظم سلطانه سبحانه وتعالى-، وهو يوم عسير إلا أنه على المؤمن المطيع لله -تبارك وتعالى- من أيسر ما يكون بتوفيقٍ من الله -سبحانه وتعالى- ومنٍّ.

ولهذا ينبغي على المسلم وطالب العلم على خصوصا أن يُعنى بحقائق الإيمان وأصول الدين ودراسة الاعتقاد وفهمه فهماً صحيحاً قويماً؛ لأنه يُبنى عليه الدين ويقوم عليه؛ فالدين لا يقوم إلا على عقيدة، وهذه الآية شاهد من عشرات الشواهد أن الدين لا يقوم إلا على عقيدة، ولا قيام له إلا على عقيدة، فإذا وجدت العقيدة الصحيحة السليمة القويمة كان بوجودها وقيامها وقرارها في قلب العبد قيام الدين.

درجات الإيمان

ثم إن إيمان أهل الإيمان باليوم الآخر على درجتين:

- الدرجة الأولى: هي درجة الإيمان الجازم، وهو الذي لا يقبل الله -سبحانه وتعالى- من العبد عمله وطاعته وعبادته إلا إذا كان هذا القدر موجوداً عنده إيماناً جازماً؛ بحيث يكون عنده يقين لاشك فيه ولا ريب بأن هناك بعثا وهناك حسابا وهناك جزاء وهناك عقابا، فهذا يسمى الإيمان الجازم الذي لا شك فيه ولا ريب قال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات:15) أي أيْقنوا ولم يشكّوا، فهذا القدر مطلوب من كل مسلم؛ فإذا لم يكن عند العبد يقينٌ بالبعث والجزاء والحساب وعنده بدل اليقين الشك - يشك في ذلك أو يتردد - فإن هذا كفرٌ محبِطٌ للأعمال ومبطِلٌ للدين {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة:5).


- والدرجة الثانية وهي درجة عالية وعظيمة ومباركة إذا وُفِّق لها العبد: وهي درجة الإيمان الراسخ؛ وهي التي يكون فيها الإيمان بهذه الحقائق العظيمة والأصول المتينة راسخاً في القلب، متمكناً من النفس، حاضراً مع العبد؛ فتجد هذا الرسوخ في الإيمان حاضراً مع العبد في المقامات العديدة، في الأحوال المتنوعة، فتجده في كل مقام على ذكرٍ من البعث والجزاء والحساب؛ فيكون لهذا الرسوخ في الإيمان أثرٌ عظيمٌ للغاية في صلاح العبد واستقامته في أحواله كلها؛ بل وفي ترقِّيه في درجات الكمال وعلوِّ الدرجات ورفعتها لينال به يوم القيامة رفيع المنازل في جنات النعيم.